أتأمّل في صُوَر يارا عبد السلام الفرّا (8 سنوات)، ومحمد محمود الفرّا (12 عامًا)، قريبَي ليلى الحدّاد، التي أعرفها في العالم الافتراضي منذ نحو تسع سنوات. راح أفراد عائلة الفرّا، وهم خمسة أطفال وأربعة بالغين، ضحيّة قصف الجيش الإسرائيلي في رفح يوم الخميس. إثر هجوم حماس، الذي خرق وقف إطلاق النار، والخشية من اختطاف المُلازِم هدار جولدين، شرع الجيش الإسرائيلي في قصف منطقة الحدث قصفًا عنيفًا دونما إنذار، بقذائف مُدرَّعات، مدفعيّة، وهجمات جويّة.
كان الهدف من القصف منع الخاطِفين من الفرار من المنطقة. ووفق التقارير، تعرّض سكّان المنطقة لنيران لم يعرفوا لها مثيلًا: “قصف الجيش الإسرائيلي وفجّر البيوت على رؤوس ساكنيها دونما أيّ تمييز، وحين حاوَلوا الفرار من بيوتهم، طاردتهم القذائف والقنابل في الشوارع وأصابتهم، بشكلٍ عشوائيّ أيضًا”. ووفق مصادر فلسطينيّة، أودت المجزرة بحياة 130 شخصًا. قُتل أبناء أسرة الفرّا في بيتهم، حيث كانوا يحاولون الاحتماء من القصف.
أمعن النظر في الصُّوَر، وأحاول البحث عن كلمات. الصُّوَر أصعب من أن تُحتمَل، ليس فقط لأنّ يارا، ابنة الثامنة، أكبر من ابنتي بثلاث سنوات فقط، بل بالأساس لأنني أعرف أنّ هؤلاء أبناء أعمام ليلى، التي شكّلت كتاباتها مصدر إلهام لي في السنوات الأخيرة.
رأيتُ للمرة الأولى مدوّنتها، “أمٌّ من غزة”، قُبَيل الانسحاب من غزة، قبل تسعة أعوام، ومذّاك أسرتني كتابتُها المتدفّقة، اللاذعة، والناجحة دومًا في الحفاظ على روح الدعابة والنظرة الإنسانيّة على حدّ سواء. كتبتُ ردودًا لديها مرارًا عديدة، وتراسلْنا عبر البريد الإلكتروني و”سكايب”.
كانت ليلى واحدة من أوائل معارفي الافتراضيّين. نوع العلاقات الذين كان حينذاك تحديثًا كبيرًا بالنسبة لي، أصبح مذّاك اعتياديًّا: أشخاص تعرفهم جيّدًا جدًّا، وتعرف عنهم وعن أسرتهم كلّ شيء تقريبًا، رغم أنّك لم تلتقٍ بهم ألبتّة. كان مشروعها الأخير (الذي حظي بتغطية في ملحق جريدة “هآرتس”) كتاب الطبخ الفاخر، “مطبخ غزة”، الذي حاولتْ فيه، كما في كلّ كتاباتها، دمج الشخصيّ بالسياسيّ، ورواية قصص غزة الكبرى والأليمة – اللّجوء، الاحتلال، والحصار – عبر الأفراح الحياتيّة للوجبات العائلية والوصفات. أثّرت فيّ كثيرًا فكرة الحديث عن سياسة وتاريخ مشحونَين إلى هذا الحدّ عير الطعام والقصص العائليّة؛ فكّرتُ أنّ ذلك يمكن أن يخترق “حديث الصمّ” السياسيّ، يفكّك لغة نشرات الأخبار، ويُذيب الكلام (الرجولي) الجيوسياسي عن الشعوب والقادة، الانتصارات والهزائم.
يتحدّث كثيرون عن تجريد الآخَر من إنسانيته – العجز عن رؤية الإنسان في الجانب الآخَر – كأحد العوامل التي تُصعّد وتؤزِّم الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. أعتقد أحيانًا أنّ ثمة مبالغة في ذلك. فالمشكلة لا تكمن في أنّ الجانبَين لا يعرفان أو يفهمان واحدهُما الآخَر. إنّ التجريد من الإنسانيّة ليس سبب استمرار الصراع، بل هو عارض له ولمسائله الأساسيّة – نظام التمييز والإقصاء، الاقتصاد السياسي المبني على الفصل العُنصري، والصدى المستمرّ لتاريخ الاقتلاع والصدمات.
إنّ المعرفة المتبادلة “على المُستوى الإنسانيّ” لا تكفل شيئًا، وهي حتمًا لا تقود إلى حلّ مسائل سياسيّة. أخشى من أن تكون ثمة سذاجة ما في إسباغ الإنسانيّة على الجانب الآخَر، على أمل أن يمنع هذا التواصُل العاطفيّ “اللاسياسي” مأساة إنسانيّة، على رجاء أن يتمكن ذلك من منع وحشية كالتي نشهدها الآن، صيف 2014.
لكنّ بصيرتي التشكيكيّة تصطدم مع تجربتي الخاصّة، التي تُشير إلى قوّة اللقاء الإنسانيّ. فكتابة ليلى الحدّاد الرائعة – الكلمات الفطينة، المضحِكة، والمؤلِمة – فتحت لي نوافذ وأبوابًا عدتُ إليها مرارًا وتكرارًا، لاستراق النظر إلى الخارج، ثمّ إلى الداخل. أعرف حقّ المعرفة أنّ معرفتي الشخصيّة لليلى، مع أربعة أو خمسة أشخاص آخَرين تعيش أسرتهم في غزة، قد غيّرت تمامًا طريقة تفكيري عن القطاع. فقد حوّل هذا التعارُف الإنساني الأدنى، بالنسبة لي، المجازر المرتكَبة في غزة في الأسابيع الماضية من مأساة مُجرَّدة إلى ألم حقيقيّ؛ من أعداد وصُوَر إلى أسماء أعرفها.
حين بدأتُ كتابة هذا النصّ أردتُ أن أكتب أن ليس ثمة ما يبرّر قتل 130 إنسانًا في قصف عشوائي في صباح صيفيّ واحد. ثم توّقفتُ، لأنّ هذه الكلمات لن تُقنع أحدًا. لا أعرف ما جدوى كتابة جملة كهذه. ولا أعرف ما يمكن أن يُقنِع حقًّا. ليس لي سوى التأمّل في الصُّوَر والتفكير: ممنوعٌ أن نتنازل!
نُشرت المقالة للمرة الأولى في موقع Can think