ذاب الثلج في إسطنبول، ولكن كرة الثلج السياسية المتدحرجة في أعقاب فضيحة الفساد في الدولة، تكتسب زخمًا جديدًا. حيث أن أردوغان أقال نصف وزراء حكومته، وواحد منهم طلب من رئيس الحكومة أيضا أن يستقيل، مدعيًا أنه كان على علم ببعض أعمال الفساد. لم يكن هذا النوع من المطالبات شائعًا في تركيا في العقد الأخير.
عملت حكومة حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان في الأشهر الأخيرة على التعامل مع التحديات في مجال العلاقات الخارجية، وخصوصًا في كل ما يتعلق بالشرق الأوسط، كالأزمة في العلاقات التركية – المصرية والفشل المستمر لتركيا في الإطاحة بالأسد. وعلى الرغم من استخدام هذه المشكلات من قبل المعارضة كوسيلة للمهاجمة، إلا أنه لم يكن الهدف منها زعزة قوة أردوغان السياسية بشكل حقيقي. الشعب التركي على استعداد أن يغفره لمثل مثل هذه الأمور.
حين يتعلق الأمر بفضائح فساد، فإن الوضع مختلف. هناك حكومات تركية أنهت طريقها سابقًا بسبب أعمال الفساد. وقد صعد حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 بتصويت احتجاجي ضد النظام السياسي الفاسد والفاشل في أدائه. ولذلك ففي تلك الانتخابات لم يبلغ أيّ من الأحزاب التي كانت ممثلة في البرلمان السابق نسبة الحسم. وقد بدا أردوغان وحزبه أصحاب أيدٍ نظيفة ومحاربين للفساد. وتلك هي الصورة التي استمروا في تطويرها خلال عشر السنوات من حكمهم.
وقد تصدعت اليوم هذه الصورة بشكل كبير. وعلى الرغم من عدم وجود بديل حقيقي لحزب العدالة والتنمية، فإن فضيحة الفساد يمكنها أن تؤثر على النظام التركي الحالي. ففي شهر آذار القريب سوف يتقدم مواطنو تركيا إلى التصويت في الانتخابات المحلية. وسيكون هذا امتحانًا لقوة أردوغان قبل انتخابات الرئاسة في صيف عام 2014 الذي يفكر في الترشح لها. منذ عام 2002، فإن حزب العدالة والتنمية يزيد قوته تدريجيًا. وإذا تم عكس هذا الاتجاه في الانتخابات المحلية القادمة، فستتضاعف علامات السؤال ليس فقط بخصوص الانتخابات الرئاسية، ولكن بخصوص الانتخابات العامة المخطط لها في 2015 أيضًا.
ولذلك فهناك أهمية سياسية كبرى لطريقة تعامل أردوغان مع الأزمة الحالية. إنه يعمل على تأطير فضيحة الفساد بشكل مشابه للأحداث السابقة التي نجح خلالها في التملّص: فضيحة أرجنكون التي اعتقل فيها قادة في الجيش بتهمة التخطيط لانقلاب، والاحتجاجات في الشارع في صيف 2013. في تلك الحوادث، قام أردوغان بمهاجمة معارضيه بشدّة على المؤامرات التي حاكوها ضدّه، وألقى باتهاماته على مسؤولين في تركيا وخارجها ممن يتآمرون لإسقاط من الحكم. قام أردوغان هذه المرة أيضًا بالهجوم، وقد تلقت معظم هذا الهجوم حركة رجل الدين فتح الله كولن، والذي مقره في بنسلفانيا والذي كان سابقا حليف رئيس الحكومة أردوغان.
ويمثّل كولن حركة دينية ليبرالية معتدلة، تدير شبكة واسعة من المؤسسات التعليمية في تركيا وحول العالم، والتي تركز على تدريس العلوم. وللحركة الكثير من الأنصار داخل تركيا، ولكن من الصعب معرفة عددهم. ولكنهم يتواجدون، من بين المناصب الأخرى، في مناصب رئيسية بخدمات الدولة، يشمل ذلك الشرطة والقضاء. ليس للحركة حزب خاص بها، ولذلك يرى الكثير من أنصارها في حزب العدالة والتنمية الديني والمحافظ بيتًا سياسيًا لهم.
ولكن لم يمر كل شيء بسلاسة. فقد نشأت الخلافات بين أردوغان وكولن منذ 2010. كان كولن ضد قرار الحكومة التركية بالسماح لأسطول مرمرة في الإبحار صوب غزة، وأظهرت حركته موقفا أكثر اعتدالا من الحكومة فيما يتعلق بإسرائيل خلال الأزمة بين البلدين. ومع ذلك كانت تلك الخلافات في نطاق المقبول. أما شرارة الحرب السياسية بين أردوغان وكولن فقد بدأت مؤخرًا فقط؛ على شكل مبادرة مشروع قانون من قبل أردوغان يقتضي إغلاق الكثير من المدارس التابعة لحركة كولن في تركيا، وعلى شكل تسريب وثائق عن التحركات التي خططت لها القيادة التركية ضد حركة كولن.
بعد أن استطاع أردوغان تقييد خطوات المؤسسة العسكرية والعلمانية، بدا أنه يتوجه كذلك إلى تقليص قوة حركة كولن، نظرا لموقفها السياسي الذي يشكّل تهديدًا سياسيًا محتملا. هذا هو السياق الذي ينظرون فيه الأتراك إلى قضية الفساد الحالية. وقد اتهم رجال الشرطة الذين قادوا التحقيق السرّي دون إبلاغ رؤسائهم أو القيادات السياسية، بأنهم من أنصار حركة كولن وكما لو أنهم تصرّفوا باسمها. وقد ادعى أردوغان نفسه بأن تحقيقات الشرطة تمت بدوافع سياسية غير شرعية، من خلال عملاء يعملون كـ “دولة داخل الدولة”، مشيرًا إلى حركة كولن. وكردة فعل على ذلك، غيّر رئيس حكومة تركيا وظائف الكثير من رجال الشرطة الذين تم التحقيق معهم.
إسقاط الشرعية الذي يحاول أردوغان القيام به لتحقيق فضيحة الفساد يشبه إسقاط الشرعية الذي حاول القيام به للمتظاهرين في حديقة غازي في وقت سابق هذا العام. تضمّن خطاب أردوغان هذه المرة أيضًا اتهامًا لعناصر أجنبية تتدخل في الشؤون الداخلية لتركيا. وتم توجيه اصبع الاتهام هذه المرة ليس ضد معارضي النظام من الداخل فحسب، بل ضد الأمريكيين أيضًا، الذين يريدون كما يبدو معاقبة مسؤولين أتراك كانوا قد تعاونوا مع إيران رغم العقوبات المفروضة عليها. أدت هذه الاتهامات إلى ردود فعل غاضبة من واشنطن، ولم تساعد أردوغان كذلك على تهدئة الأمور في الداخل. ويزداد الضغط على أردوغان للتعامل بشكل مباشر وصادق مع فضيحة الفساد.
وبشكل شبيه لاحتجاجات حديقة غازي، ففي هذه المرة أيضًا أخذ رئيس الدولة عبد الله غول (الذي ينوي أردوغان أن يرثه في الصيف المقبل) خطّا معتدلا وأكثر تصالحية. ادعى غول بأن دولة في وضع تركيا لا يمكن أن تسمح لنفسها ألا تتعامل بجدية مع مزاعم فساد كهذه، وهي ملزمة بالتحقيق فيها. وقد وضع غول نفسه مرة أخرى في موضع القيادي المسؤول، الذي يعكس القيم الأصيلة التي صعد حزب العدالة والتنمية باسمها إلى السلطة. ومن المرجح أن يكون الرابح الأكبر من الاضطرابات الداخلية التي شهدتها تركيا في الآونة الأخيرة.
وفي ظل غياب قوة سياسية قادرة على أن تشكل تحديًا لحزب العدالة والتنمية، فإن الخطر القادم لأردوغان سيكون من داخل حزبه. فإن أعضاء حركة كولن متهمون بأن هدفهم هو تشكيل حزب العدالة والتنمية دون أردوغان. أي أن يقدم أردوغان استقالته ويحل محله أحد أعضاء الحزب الآخرين، أو على الأقل إضعافه بشكل ملحوظ. والطريق إلى ذلك لا زال طويلا، وقدرة أردوغان محدودة على اجتياز المسار السياسي الذي يرغب به. وغدت طموحاته في قيادة نظام سياسي رئاسي وفي أن يلج بخفة إلى مكتب الرئاسة أكثر صعوبة في التحقيق.
ويدرك أردوغان أنه ملزم بمواجهة فضيحة الفساد، وأنه لا يمكنه تجاهلها. وفي هذا السياق، يمكننا أن نرى التغيير في موقفه من الوزراء المشتركين بالقضية وقراره بإنهاء مهامهم. وهكذا يأمل أردوغان بأن ينأى بنفسه عن القضية وأن يحافظ على صورته باعتباره فارس الحرب على الفساد. ولكن سيظل هناك من يحاول عكس ذلك؛ أي ربط اسمه بالقضية، والادعاء بأن مصيره يجب أن يكون مماثلا لمصير الوزراء المشتركين في القضية. وقد قام وزير البيئة بذلك فعليا. ومن المحتمل أن يكون هناك المزيد. وسوف تظل كرة الثلج التركية تتدحرج.