تشكل انتخابات السلطات المحلية فرصة ذهبية للنظر إلى المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل عن كثب. هذه الانتخابات أشبه بساحة داخلية للمجتمع العربي، تدور فيها خلافات بين قوى مختلفة تنشط فيها. ما الذي يمكن تعلمه من الانتخابات التي أصبحت في ذروتها الآن؟ ما هي القوى التي تنشط في هذه الحلبة؟ وما هي الديناميكية بين المستوى “القطري” و “المحلي”؟.
بداية، نقدم لكم بعض الحقائق الجافة: هناك نحو 80 سلطة محلية عربية في إسرائيل. في أربع سلطات فقط، ينتمي أربعة رؤساء إلى حزب أو حركة، من بينهم، ينتمي رئيسان إلى الحركة الإسلامية وآخران إلى حزب الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة. حتى الثمانينات، كان هناك عدد قليل من رؤساء السلطات المحلية الذين لم يكونوا أعضاء في أحزاب سياسية. هناك من يشير إلى أن هذه البيانات تشهد على أن الحمولة نجحت في تأسيس نفسها مجددا، والتغلب على “الحزب” أو “الحركة”، ولكن أعتقد أن هذا التفسير سطحي جدا، إذ تشكل هذه الظاهرة جزءا من ظاهرة قطرية تترك الأحزاب في إطارها الحلبة المحلية للقوى المحلية، وتحدث هذه الحال في البلدات اليهودية أيضا.
هناك سبب آخر في المجتمع العربي الفلسطيني لهذه الظاهرة، وهو زيادة قوة الطبقة الوسطى. تنشأ في البلدات أو العائلة الموسعة مراكز قوى جديدة، تزعزع مكانة العائلة الموسعة التقليدية، وتجري تقسيما جديدا للقوى الاجتماعية الاقتصادية. في يومنا هذا، هناك عدد كبير من المرشحين في كل بلدة أثناء الحملة الانتخابية، وتحدث هذه الظاهرة في هذه الحملة الانتخابية أيضا. مثلا، في قرية كفر قرع (في منطقة المثلث الشمالي)، التي يعيش فيها 12.000 صاحب حق اقتراع، بدأ السباق لرئاسة المجلس المحلي بين 18 مرشحا! يتفوق عدد مراكز القوى من الطبقة الوسطى على عدد مراكز القوى من العائلة الموسعة التقليدية التي كانت ترأس الحملة الانتخابية سابقا، أو الأحزاب التي استغلتها للوصول إلى الرئاسة في البلدة. يعكس الحوار السياسي الذي يرافق الحملة الانتخابية للبلديات في البلدات العربية التنوع في البلدات، والتفاوت في الآراء، النزاعات الاجتماعية والطائفية المعقدة.
كما ذُكِر آنفا، أعتقد أن النتيجة الرئيسية هي اللامركزية في القوى الاجتماعية الاقتصادية والسياسية في البلدات العربية، أي زيادة تأثير أبناء الطبقة الوسطى المثقفين وذوي الخبرة الاقتصادية في العقود الثلاثة الماضية، والذين بدأوا يتنافسون ضد أبناء العائلة الموسعة والأحزاب. تتضمن المكانة الوسطى مثقفين وأفرادا أقوياء أكثر (أو كلاهما معا)، ممن ينظرون إلى الحلبة المحلية كحلبة اقتصادية وحيز للتحقيق الذاتي. لهذا، هناك اختلافات في الحملات الانتخابية اليوم مقارنة بالماضي وفي الحوار الجديد الذي يدور بين المتنافسين.
إحدى العلامات التي تشير إلى التغييرات هي أن النقاش هو مدني، ويتطرق إلى أداء السلطة المحلية، مهنيتها، تطوير البلدات، وإدارة السلطة، أكثر من المواضيع الوطنية المتعلقة بالعلاقة بين الدولة والأقلية العربية الفلسطينية. للمقارنة، في السبعينات والثمانينات، ارتكز النقاش على السؤال حول الاحترام الوطني، آراء المرشح، والقوائم للانتخابات القطرية، وعلى أسئلة وطنية متعلقة بالدولة والنزاع. كان شعار طيب الذكر، توفيق زياد في انتخابات عام 1975، الذي أصبح فيها للمرة الأولى رئيسا لبلدية الناصرة كما يلي: “نحن نخوض حملة انتخابية من أجل الاحترام الوطني والخدمات، ونسعى إلى تحقيقها دون تنازلات”. أما اليوم، فهناك ميل للفصل بين الحملة الانتخابية المحلية والحملة الانتخابية القطرية، أي إن القوى الفاعلة تتألف من مرشحين من الطبقة الوسطى ومن الأحزاب التقليدية: “نحن نعمل في الحلبة المحلية، وأنتم تعملون في الكنيست”.
ثمة فارق واضح يشهد على الاختلافات بين الحملات الانتخابية في الحاضر والماضي، وهو نسبة مشاركة الجمهور العربي في الحملتين الانتخابيتين. تشير البيانات إلى أن متوسط نسبة المشاركة في الانتخابات المحلية في البلدات العربية هي %85. رغم ذلك، وصلت نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة للكنيست إلى %60 تقريبا. الحلبة المحلية أهم للناخب العربي ولاحتياجاته اليومية. كذلك، مقارنة بالحلبة القطرية، فإن الحلبة المحلية تسمح لعدد أكبر من المرشحين بالمشاركة والتأثير في الانتخابات، لهذا هناك مبادرات لإجراء لقاءات مع الشبان والمرشحين الذين يحاولون خوض المعترك السياسي بكل قواهم.
رغم كل هذه التغييرات، لا تزال مشاركة النساء أقل في الحلبة المحلية العربية. بغض النظر عن التغييرات الجيدة التي طرأت على مكانة المرأة العربية، لا تشارك النساء إلى حد كاف في السياسة المحلية، ورغم الزيادة التي طرأت على عدد النساء اللواتي يشغلن مناصب رئيسية في البلدات العربية، لا تزال المرأة العربية عديمة التأثير في الحلبة السياسية المحلية بصفتها مرشحة منافسة، وهي تؤثر كصاحبة حق اقتراع فحسب. شغلت مرة واحدة فقط مرشحة عربية منصب رئيسة سلطة محلية عربية وذلك في قرية كفر ياسيف في الجليل، في السبعينات، وكان عدد قليل من النساء عضوات في مجلس السلطات المحلية. في السنوات الماضية، حاولت نساء كثيرات الترشح ضمن قوائم حزبية وقوائم مستقلة، ووفق التقديرات، سيجرأ عدد أكبر من النساء على الترشح للانتخابات القادمة.
هناك عامل آخر يتعلق بالسلطة المحلية وهو مدى تأثيرها في حياة المواطنين. غالبا، تكون السلطة المحلية المشغّل الأكبر في البلدة، لهذا تشكل أيضا الحيز المركزي للتحقيق الذاتي. ولكن الوضع ليس جيدا من هذه الناحية، إذ إن الكثير من التعيينات يتم استنادا إلى العلاقات العامة بدلا من القدرات، أي لاعتبارات سياسية واعتبارات “إعطاء الأفضلية” للمقربين. تؤدي هذه الظاهرة إلى أن تكون السلطة المحلية مهنية أقل، ويؤدي العدد الكبير من القوى العاملة التي يصل تعدادها إلى عدد أكبر من العدد المطلوب من الموارد البشرية، إلى زيادة العبء على الميزانية المتعلقة بالأجور. من المثير للاهتمام معرفة أن هذه التعيينات تجرى في أحيان كثيرة استنادا إلى وزارة الداخلية والمحاسب المسؤول من قبلها.
رغم هذا، هناك عدد من السلطات المحلية العربية التي تتمتع بميزانية متوازنة، وقد غيّر بعض السلطات حياة المواطنين كثيرا، مثلا، في بلدة حورة في النقب، عيلبون، طرعان، إكسال، كفر قاسم، والطيبة. رغم هذا، لم تُحدِث هذه النجاحات ثورة حقيقية، وما زالت السلطات المحلية العربية في إسرائيل تشكل “ضياعا استراتيجيا” للمجتمع العربي، ليس بسبب إدارتها فحسب، بل بسبب الفشل الداخلي وأنماط الإدارة المرفوضة. في حال لم يطرأ تغيير هام على السلطات المحلية يؤدي إلى تطوير اجتماعي، واقتصادي، ستظل السياسة المحلية في البلدات العربية فرصة ضائعة.
نُشِر هذا المقال للمرة الأولى في موقع “منتدى التفكير الإقليمي“