منذ أن تدخلت المؤسسة العسكرية المصرية في الحياة السياسية، وأطاحت بالرئيس الأسبق محمد مرسي في 3 يوليو 2013، وهناك حالة ترقب لكيفية تعامل وزير الدفاع الفريق عبد الفتاح السيسي مع الجانب الإسرائيلي، وذلك بعد أن شهدت العلاقات بين البلدين نوعا من الفتور خلال فترتي حكم المجلس العسكري والرئيس الأسبق محمد مرسي، حيث اعتمدت العلاقات بين الطرفين حينذاك، على واشنطن كوسيط للتفاوض. وقد كانت أزمة اقتحام السفارة الإسرائيلية في مصر خلال سبتمبر 2011، أحد الأسباب الرئيسة وراء فتور العلاقات بين البلدين.
ويذكر أن تصاعد الأزمة السياسية في مصر بين المعارضة العلمانية ونظام الإخوان المسلمين؛ قد ألقى بظلاله على العلاقات المصرية الإسرائيلية، والتي توترت نتيجة إرسال رئيس الوزراء الأسبق هشام قنديل لقطاع غزة أثناء عملية “عامود السحاب” في نوفمبر 2012، ومحاولات التقارب مع إيران.
تصاعد الأزمة السياسية في مصر بين المعارضة العلمانية ونظام الإخوان المسلمين؛ قد ألقى بظلاله على العلاقات المصرية الإسرائيلية
كما أن إسرائيل كانت من الدول السباقة إلى تأييد النظام العسكري الجديد في أعقاب التحرك العسكري في 3 يوليو، بل إنها قامت بإطلاق حملات دبلوماسية في واشنطن والعواصم الأوروبية الكبرى من أجل دعم الوضع السياسي الجديد في مصر، حتى لا يصنف في خانة الانقلابات العسكرية، وحتى تمنع أي محاولات لفرض حصار دبلوماسي على القاهرة. ولم تمر هذه الجهود دون مردود، حيث شهدت العلاقات المصرية-الإسرائيلية نمو غير مسبوق خلل فترة حكم السيسي، والتي كانت في كثير من الأحيان، مدفوعة من قبل السيسي نفسه.
لقد تولى الفريق عبد الفتاح السيسي زمام الأمور في البلاد، باعتباره الحاكم الفعلي بعد الإطاحة بحكم الإخوان، وكانت سيناء وما يحدث فيها من إرهاب، وتصاعد نشاط الجماعات الجهادية، واستهداف تلك المجموعات لمعسكرات الجيش وكمائنه؛ كانت بمثابة الاختبار الأول للسيسي، لذلك استند الرجل في عملياته العسكرية المستمرة ضد الإرهاب في سيناء؛ إلى شراكته الاستراتيجية والأمنية مع إسرائيل، والتي أعطت الضوء الأخضر للقوات المصرية لتنتشر في مناطق واسعة داخل شمال سيناء “المنطقة ب، والمنطقة ج “، حتى تتمكن من مواجهة الجماعات التكفيرية والمسلحة بالسلاح الثقيل والمدرعات والطلعات الجوية.
وقد جاءت تلك العمليات العسكرية على عكس ما ينص عليه الملحق الأمني من اتفاقية كامب ديفيد. ومن ثم، باتت مواجهة الجماعات المسلحة في سيناء من أهم الملفات الأمنية بين البلدين. حيث صارت إسرائيل تتعاون مع مصر، من خلال قيامها بعدة طلعات جوية استخباراتية؛ للكشف عن بؤر الإرهابيين. وكل ذلك في إطار سري، إذ لم تكن القاهرة لتعلن للرأي العام المحلي طبيعة شراكتها الأمنية/ العسكرية مع تل أبيب، حتى تتفادى الجدل.
استند السيسي في عملياته العسكرية المستمرة ضد الإرهاب في سيناء؛ إلى شراكته الاستراتيجية والأمنية مع إسرائيل، والتي أعطت الضوء الأخضر للقوات المصرية لتنتشر في مناطق واسعة داخل شمال سيناء “المنطقة ب، والمنطقة ج “، حتى تتمكن من مواجهة الجماعات التكفيرية والمسلحة بالسلاح الثقيل والمدرعات والطلعات الجوية. وقد جاءت تلك العمليات العسكرية على عكس ما ينص عليه الملحق الأمني من اتفاقية كامب ديفيد. ومن ثم، باتت مواجهة الجماعات المسلحة في سيناء من أهم الملفات الأمنية بين البلدين
لقد تولى السيسي رئاسة الجمهورية بصفة رسمية في يونيو 2014، وقال في خطابه الأول: ” سنعمل على تحقيق استقلال دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية”. ومن الجدير بالذكر، أن ملف القدس الشرقية؛ يمثل قضية خلافية في العلاقات المصرية الإسرائيلية، يرجع تاريخها إلى عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات، والذي اعترض على ضم إسرائيل للقدس الشرقية، وإعلان القدس عاصمة لإسرائيل. ومن ناحية أخرى، كان تصريح السيسي وتأييده لحل الدولتين، وبأن القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، أثره في تراجع وإضعاف الخطاب الذي يتبناه عدد من التيارات السياسية التي دعمت السيسي والمؤسسة العسكرية في مواجهة الإخوان المسلمين والفصائل الإسلامية الأخرى، مثل: الناصريين، واليساريين، وحزب النور السلفي، حيث عززت تلك التيارات السياسية من وجودها في الساحة المصرية بالاستناد إلى خطاب لا يعترف بإسرائيل، ويرى أن القدس وجميع الأراضي الفلسطينية عربية.
لكن في ظل ظهور السيسي كزعيم شعبي أوحد لا ينافسه أحد في شعبيته؛ لم تستطع الفصائل السياسية التي دعمته أن تضغط عليه؛ لتعديل خطابه الإيجابي تجاه إسرائيل. فقد استفاد الرجل من حالة الفراغ الأيديولوجي لمؤيديه، حيث عمل على إعادة تسويق العلاقات المصرية الإسرائيلية، باعتبارها ضرورة في ظل وجود عدو إقليمي مشترك “حركة حماس”، وهو امتداد لعدو داخلي ” الإخوان المسلمين”، ونقل بذلك إسرائيل من خانة “صراع وجود” إلى خانة الشريك الضروري.
وفي أعقاب تولي السيسي رئاسة الجمهورية؛ قامت إسرائيل بعمليتها العسكرية “الجرف الصامد” على قطاع غزة، حيث كانت هذه الحرب فرصة مواتية للسيسي لتقديم نفسه للمجتمع الدولي بعيدا عن الأزمة السياسية الدائرة في مصر، فاستفاد من رفض إسرائيل لأي جهود وساطة دولية لوقف إطلاق النار في قطاع غزة أثناء تلك العملية العسكرية. ولم يثمر اجتماع باريس شيئا، ولم تتمكن الولايات المتحدة، وبريطانيا، وألمانيا، وإيطاليا، وقطر، وتركيا، والاتحاد الأوروبي من إنهاء الأزمة المشتعلة في قطاع غزة. ونتيجة لذلك، لجأت إسرائيل إلى القاهرة؛ لتستضيف جولة المفاوضات مع الفصائل الفلسطينية، وتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
إن توجه السيسي للتقارب العلني مع إسرائيل ليس نابعا فقط، من إيمانه ببرجماتية العلاقة مع الإسرائيليين، وإنما لمروره بأزمات ضخمة داخل مصر، منها: الخصومة مع المعارضة الإسلامية والعلمانية، وتصاعد وتيرة العنف والإرهاب في سيناء والصحراء الغربية، وتباطؤ الاقتصاد المحلي، وتناقص حصة مصر من مياه النيل. كل هذه الأمور دفعت السيسي إلى تجديد زعامته المحلية؛ من خلال احتلال مساحة دولية كمفاوض في أحد أكثر الملفات الدولية حساسية (مفاوضات السلام الإسرائيلية ¬ الفلسطينية)، حتى يساعده ذلك في موقفه المحلي، فيجنبه أي محاولات للإطاحة به.
لقد توافقت مبادرة الرئيس السيسي للسلام مع مساعي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي رأى بأن مبادرة السيسي هي فرصة استباقية، تجنبه عناء المبادرة الفرنسية المدعومة أوروبيا وأمريكيا، باعتبارها وسيلة لتخفيف الضغط الدولي في انتقاد إسرائيل؛ لعدم اتخاذها خطوات تفاوضية جادة مع الجانب الفلسطيني. فمبادرة السيسي لن تكلف نتانياهو سوى مزيد من التفاوض غير المقيد بإيقاف التمدد الاستيطاني في الضفة الغربية، وقد تؤدي إلى نقل بعض الصلاحيات للسلطة الفلسطينية في مناطق محددة من الضفة الغربية.
استفاد السيسي من حالة الفراغ الأيديولوجي لمؤيديه، حيث عمل على إعادة تسويق العلاقات المصرية الإسرائيلية، باعتبارها ضرورة في ظل وجود عدو إقليمي مشترك “حركة حماس”، وهو امتداد لعدو داخلي ” الإخوان المسلمين”، ونقل بذلك إسرائيل من خانة “صراع وجود” إلى خانة الشريك الضروري
لقد ظهر التطور العلني للعلاقات المصرية ¬ الإسرائيلية جليا، من خلال مشاركة السفير المصري حازم خيرت في مؤتمر “هرتسيليا” السادس عشر بإسرائيل، وعنوانه “أمل إسرائيلي، رؤيا أم حلم؟”، وتعتبر تلك المرةُ الأولى التي تشارك مصر بصفة رسمية في مؤتمر “هرتسيليا” المتخصص في مراجعة السياسات الأمنية والدفاعية للدولة العبرية. وقد صرح السفير المصري خلال ذلك المؤتمر؛ بأنه على إسرائيل والفلسطينيين الالتزام بالتوصل إلى سلام، وأن حل الدولتَين هو الحل الوحيد، ولا توجد بدائل له، ولم يبقَ الكثير من الوقت لتحقيقه، مؤكدا أن تجاهل الحقيقة لن يؤدي إلى تغييرها، بل قد يؤدى إلى انفجار، نحن نحاول تجنّبه.
لقد تطورت العلاقة بين البلدين إلى أبعد مدى، حيث قام وزير الخارجية المصري سامح شكري بزيارة لإسرائيل مؤخرا، وكانت هي الأولى من نوعها منذ عام 2007، وقد التقى برئيس الوزراء بنيامين نتانياهو في مقر رئاسة الوزراء بالقدس عوض تل أبيب، فكان هذا اللقاء في صدارة المشهد الإعلامي العربي، وذلك نظرا لرمزية زيارة القدس، وتخطيها الثوابت الدبلوماسية التقليدية التي طالما تمسك بها الرؤساء المصريون منذ عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، وحتى أثناء فترة الرئيس الانتقالي عدلي منصور.
وهكذا، وبعد اقتصار العلاقات المصرية مع إسرائيل لعدة سنوات، على الجانب الأمني والاستخباراتي فقط، صارت الدبلوماسية المصرية تتطلع اليوم، إلى دور محوري في تطوير العلاقات المصرية –الإسرائيلية، من خلال تلك الزيارة التي قام بها وزير الخارجية المصري للقدس. ولعل وقوف سامح شكري أثناء زيارته تلك، بجانب رأس تمثال تيودور هرتزل ـ مؤسس الدولة الصهيونية؛ كان بمثابة تصالح مع تاريخ نشأة إسرائيل، في تناقض مع الأسس التاريخية العربية. وبالطبع، هناك ارتياح إسرائيلي لهذا التحول الرمزي في العلاقات مع مصر، حيث قامت رئاسة الوزراء الإسرائيلية بنشر صورة نتانياهو مع شكري أثناء مشاهدتهما نهائي كأس الأمم الأوروبية، في جو حميمي، يعكس بالطبع، عدم وجود أي تخوف لدى النظام المصري من ردود فعل محلية محتملة حول تطور العلاقات المصرية الإسرائيلية. وعلى الجانب الآخر، يحاول نتانياهو الاستفادة من هذه الزيارة، وإظهارها كإنجاز سياسي له، استطاع من خلاله النجاح في تعزيز علاقة إسرائيل بأكبر عدو تاريخي لها “مصر”. كما أظهرت الزيارة أيضا، قدرة إسرائيل على نقل علاقتها مع الدول العربية إلى مستوى التحالف العلني، بعيدا عن جلسات الغرف المغلقة.
وعلى الرغم من أن السيسي اظهر دائما اهتماما كبير بتطوير العلاقات المصرية الإسرائيلية، إلا انه كانت هناك بعض التطورات الإقليمية التي جعلت هذا التقارب الدبلوماسي حاجة ملحة. لقد تزامن توقيت زيارة شكري للقدس؛ مع اتفاق تطبيع العلاقات الإسرائيلية التركية، والتي سبق وأن شهدت تدهورا كبيرا بعد حادثة اقتحام القوات الخاصة التابعة للبحرية الإسرائيلية للسفينة التركية “مافي مرمرة”، وهي في طريقها لكسر الحصار عن قطاع غزة. وقد أثمر التقارب التركي-الإسرائيلي مؤخرا، عن توصل الجانبين لاتفاق يتم بموجبه توصيل المساعدات إلى قطاع غزة، واستكمال مؤسسة الإسكان التركية مشاريعها في ذلك القطاع. وبعد هذا التقارب التركي-الإسرائيلي؛ أصبح الجانب المصري يعمل جاهدا، للحصول على تأكيدات من الإسرائيليين حول استمرار الدور المحوري الذي تلعبه مصر في ما يتعلق بالملف الفلسطيني، ولاسيما قطاع غزة المتاخم لشبه جزيرة سيناء.
إن توجه السيسي للتقارب العلني مع إسرائيل ليس نابعا فقط، من إيمانه ببرجماتية العلاقة مع الإسرائيليين، وإنما لمروره بأزمات ضخمة داخل مصر، منها: الخصومة مع المعارضة الإسلامية والعلمانية، وتصاعد وتيرة العنف والإرهاب في سيناء والصحراء الغربية وتباطؤ الاقتصاد المحلي
كما أن الزيارة التي قام بها نتانياهو لدول حوض النيل؛ قد أثارت موجة من الغضب على المستوى المحلى في مصر، نتيجة لتراجع الدور المصري في إفريقيا، مقابل التنامي الملحوظ للدور الإسرائيلي هناك. وجاء وجود شكري في القدس ليطمئن الرأي العام بأن وجود إسرائيل في منطقة حوض النيل؛ هو وجود الحليف وليس العدو. كما حمل تطلعات القاهرة إلى وساطة إسرائيلية فيما يخص الأزمة مع إثيوبيا، والتي تتعلق بملف مياه النيل، حيث تستعد إثيوبيا لتدشين مشروع سد النهضة الذي سيفقد مصر من 11إلى 19 بليون متر مكعب من المياه العذبة.
وتعتقد القاهرة بأن إسرائيل تمتلك القدرة على دفع إثيوبيا إلى التفاوض على حصة عادلة لمصر من مياه النيل. وهناك إشارات متبادلة بين مصر وإسرائيل، عن احتمالية دعوة مصر لرئيس الوزراء بنيامين نتانياهو للقيام بزيارة تاريخية للقاهرة، تكون مثل تلك الزيارة التي قام بها الرئيس الأسبق أنور السادات للقدس في عام 1977.
نشر هذا المقال لأول مرة على موقع فكرة