محمد الدجاني الداودي

مسلم يؤدي فرائض ومناسك الحج (AFP)
مسلم يؤدي فرائض ومناسك الحج (AFP)

المصالحة في خضم الصراع

شهد العقد المنصرم تصعيدًا في الراديكالية السياسية والتطرف الديني، ويبدو لأسباب عديدة أن الخطاب الراديكالي اكتسب شعبية بين العامة، فهو يخدّر عقولهم ويأخذهم بعيدًا عن واقعهم البائس إلى حلم

حين كنت ألقي المحاضرات حول مفهوم الوسطية، كان جمهوري الفلسطيني يطرح عليّ سؤالين متكررين، الأول: “لماذا يجب أن يكون الإسلام معتدلاً لإرضاء الغرب والولايات المتحدة؟” أما السؤال الثاني فهو: “كيف سيُنهي الاعتدال الاحتلال؟” وهذان سؤالان مهمان على المرء الإجابة عنهما بدقة وإقناع.

للإجابة عن السؤال الأول، كنت أستعين بالقرآن الكريم الذي يحث المؤمنين في آيات عدة على الاعتدال في كل شيء، وبسنّة الرسول محمد (ص) – أفعاله وأقواله – التي تشكل مثالاً على الاعتدال والتسامح والمغفرة.

الاعتدال ليس مفهومًا إسلاميًا بحت، وإنما قيمة مشتركة بين كل الديانات الأخرى

أما السؤال الثاني، فينطوي على تعقيدات أكثر. كيف يمكن الإجابة عن مثل هذا السؤال الشائك في زمنٍ يعيش فيه الفلسطينيون نزاعًا مطولاً ويعانون يوميًا من الاحتلال العسكري الصارم، ومن اليأس لانعدام الاستقرار السياسي، ومن الحكم الرديء، والاضطرابات الاجتماعية، والأحوال الاقتصادية المتردية، ناهيك عن الأخبار اليومية عن مصادرة الإسرائيليين للأراضي الفلسطينية، وعن السجن العشوائي، وتقييد الحركة للمواطنين، وانتهاكات حقوق الإنسان. كيف أتعامل مع هذا السؤال دون أن أبدو منفصلاً عن الواقع أو مفرطًا في المثالية؟

شهد العقد المنصرم تصعيدًا في الراديكالية السياسية والتطرف الديني، ويبدو لأسباب عديدة أن الخطاب الراديكالي اكتسب شعبية بين العامة. فهو يخدّر عقولهم ويأخذهم بعيدًا عن واقعهم البائس إلى حلم، مما يعني أن اعتماد خطاب العقلانية والمنطق والموضوعية معهم لن يجدي ولن يكون لديهم الاستعداد لتقبل فكرة الحوار معك أو الاستماع إليك. وقد قال لي إمام فلسطيني لأحد مساجد رام الله: “حين أتحدث في خطبة الجمعة عن الأخلاق والقيم الدينية، أكتشف لاحقًا أن المصلّين انسحبوا إلى مسجد آخر يلقي إمامه خطابًا سياسيًا محتدمًا في خطبة الجمعة ويتهجم فيه على إسرائيل وعلى حليفها الأمريكي ويصف المسيحيين واليهود بالكفار الذين لا يجدر بالمسلم أن يسلّم عليهم أو يرحب بهم في منزله. فماذا أفعل؟ أخطب لنفسي؟ أخطب لمسجدٍ فارغ؟”

لكن الوصول إلى أذهان الجماهير يتطلب زيادة جاذبية الاعتدال بالنسبة إليهم، وذلك من خلال التكلم بلغة يجلّونها ويحترمونها، وهي لغة القرآن الكريم. فهي لغة تجتاح الحواجز وتخترق الآذان الصمّاء. لذلك، وللوصول إلى الجماهير، يجب أن تُعتبر الوسطية – بصفتها دربًا متوسطًا – بمثابة إيعازٍ من الله للمؤمنين، وهذا الأمر يتم بدراسة القرآن وتعليم رسالته السمحة والمسالمة والإنسانية.

من الناحية الدينية، تعني كلمة “وسط” العدل والتوازن والتسامح والاعتدال والحل الوسط والتوسطية

الاعتدال ليس مفهومًا إسلاميًا بحت، وإنما قيمة مشتركة بين كل الديانات الأخرى. وبالتالي، يتألف هدف الوسطية من شقين: توحيد المجتمع وبناء جسور التفاهم مع الآخر. فالاعتدال يؤدي إلى المصالحة في خضم النزاع، مما يؤدي بدوره إلى حياة من التعاون والازدهار ممهدا الطريق أمام المفاوضات بشكل تعاوني لحل النزاع.
تشتق كلمة وسطية من الجذر “وسط.” من الناحية اللغوية، تعني هذه الكلمة المنتصف – مثل منتصف الدائرة أو منتصف الطريق. ولكن من الناحية الدينية، تعني كلمة “وسط” العدل والتوازن والتسامح والاعتدال والحل الوسط والتوسطية. والواقع أن كلمة “وسط” نفسها مذكورة في القرآن أكثر من مرة، إذ نجدها في الآية 143 من سورة البقرة “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً” أي أمة عادلة ومتسامحة.

كما أن المبادئ الجوهرية المتعلقة بالحرية والمساواة والإخوة والاعتدال والعدالة الاجتماعية هي قيم دينية تأسيسية تحمل دلالاتٍ اجتماعية وسياسية مهمة. وتشمل بعض القيم الاجتماعية المنبثقة عن هذه المبادئ الأساسية في الإسلام تلك التي تشدّد على التعارف (معرفة أحدنا الآخر)، والتعاون (التآزر والمساعدة المتبادلة في الصفقات) والتكامل (الإكمال والتتمة).

في ما يخص السؤال: “كيف يؤدي الاعتدال إلى إنهاء الاحتلال؟”، فجوابي بسيط: إذا نظر إسرائيليٌّ قلق على أمنه الشخصي والعائلي والقومي إلى مجتمع فلسطيني مجاور ورآه يتبنى ثقافة مسالمة ومعتدلة ورأى أن الأولوية الكبرى في ذهن الفلسطيني هي السعي لتأمين حياةٍ أفضل له ولعائلته، وإذا في المقابل نظر الفلسطيني إلى المجتمع الإسرائيلي المجاور ورآه يسعى إلى السلام والأمن من أجل ضمان مستقبل مزدهر للأطفال الإسرائليين، تنمو الثقة وتتلاشى عند ذلك علة وجود الاحتلال.

التقاليد الإسلامية واليهودية تدعم مفهوم المصالحة؛ وهناك مبررات لعملية السلام في نصوص كلتا الديانتين

التقاليد الإسلامية واليهودية تدعم مفهوم المصالحة؛ وهناك مبررات لعملية السلام في نصوص كلتا الديانتين. ومن هذا المنطلق، ينبغي علينا أن نعمل مع بعضنا البعض وليس ضد بعضنا؛ يجب على كل طرف أن يعتبر الآخر شريكًا في السلام لا عدوًا في النزاع. ربما يكون الاعتراف بأحدنا الآخر نقطة بداية جيدة، فتعترف إسرائيل بدولة فلسطين كعضو في الأمم المتحدة، وتعترف دولة فلسطين بإسرائيل ضمن حدود 1967 كوطنٍ للشعب اليهودي وتطلق أسرائيل سراح الأسرى الفلسطينيين ويتوقف الفلسطينيون عن التحريض لعدم التطبيع.

يجب أن نسأل أنفسنا عن الاتفاق الأكثر قانونية ودوامًا واستدامة واعترافًا من قبل المجتمع الدولي: اتفاق مع السلطة الفلسطينية أو اتفاق مع دولة فلسطين؟ من الناحية الإستراتيجية، تتمثل المصلحة الفضلى لكل من إسرائيل والولايات المتحدة بدعم اعتراف أعضاء الأمم المتحدة بدولة فلسطين لتصبح عضوًا في الأمم المتحدة. والجدير بالذكر أن الاعتراف بدولة فلسطين لا يعني دعم “حماس” أو تأييد “فتح،” بل هو اعتراف بحق الشعب الفلسطيني أن يكون عضوًا فعالا في المجتمع الدولي. وهذه خطوة كبيرة في جهود إضعاف الراديكالية والتطرف لأنها تقول، وبصوت مرتفع، إن الدبلوماسية تؤتي ثمارها والعنف ليس الوسيلة الصحيحة لحل الصراع.

أنني كمسلم أشعر بالخجل مما يرتكبه بعض الأفراد أو الحركات باسم ديني، ولكنني أشعر بفخر بالغ حين أقرأ، على سبيل المثال، عن تسامح وغفران عمر بن الخطاب، ثاني الخلفاء الراشدين، الذي رأى رجلاً يهوديًا مسنًا يتسول فمنحه أجرًا شهريًا، أو عن صلاح الدين الأيوبي الذي أرسل طبيبه الخاص لمعالجة خصمه المريض ريتشارد الأول ملك إنجلترا، أو حين أقرأ عن تاريخ الأندلس المنور حيث تعايشت الديانات الثلاثة في سلام وتناغم. وهذا هو جوهر الوسطية: ترك إرثٍ من السلام والتعايش والمصالحة والرأفة والتعاطف والاحترام، وهذا هو الإرث الذي نودّ أن يرثه أولادنا. قد يبدو الأمر الآن أشبه بالحلم، ولكنني أشعر في صميم قلبي أنه سيصبح يومًا ما حقيقة واقعة.

لا بد من أن تعلو أصوات الحكمة والاعتدال حتى تصبح مسموعة. ولا يجدر بالأغلبية المعتدلة أن تقف صامتة ومكتوفة الأيدي فيما يلوح شبح الدمار والفوضى في الأفق. علينا أن نتخطى خوفنا من الفشل ونستثمر طاقاتنا الخلاقة في المستقبل. المصالحة هي نقطة البداية، ويجب أن تبدأ اليوم قبل الغد حتى يعمّ السلام.

محمد سليمان الدجاني الداودي هو مؤسس حركة الوسطية للإسلام المعتدل، وأستاذ العلوم السياسية.

نشر هذا المقال لأول مرة على موقع “منتدى فكرة”

اقرأوا المزيد: 927 كلمة
عرض أقل
طفل يؤدي صلاة العيد في المسجد الأقصى (AFP)
طفل يؤدي صلاة العيد في المسجد الأقصى (AFP)

دعوة إلى الإسلام المعتدل

كيف يمكن إصلاح الدين؟ كيف يمكن تطهير الإسلام، لا بل جميع الديانات، من المتطرفين والمتشددين الذين يحرضون على الكراهية والتعصب والعنف باسم الله

ألقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خطاباً حماسياً في جامعة الأزهر بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، دعا فيه إلى إصلاح الدين وتطهير الإسلام من الأفكار المتطرفة. بالرغم من أنه لا يجوز التغاضي عن هذه المناشدة، لا سيما إثر السلسلة المأساوية من الهجمات الإرهابية التي شهدتها باريس، إلا أنها تفرض عدة تساؤلات معقّدة: كيف يمكن إصلاح الدين؟ كيف يمكن تطهير الإسلام، لا بل جميع الديانات، من الراديكاليين والمتطرفين والمتشددين الذين يحرضون على الكراهية والتعصب والعنف باسم الله. هل بإمكان الدولة أن تفرض إصلاحا دينياً من دون أن تحظى بدعم السلطات الدينية الرسمية؟ وهل يمكن القيام بمراجعة صادقة لتفسيرات القرآن لتجنب الغلو من دون التسبب باندلاع ثورة مضادة؟

تتشارك النصوص الدينية، سواء لدى الإسلام أو اليهودية أو المسيحية، بقيم مماثلة قائمة على السلام والعدالة والرحمة والتسامح والمصالحة والاعتدال، حتى أن القرآن يحذّر من التطرف الديني بقوله تعالى في سورة النساء: “لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ”. كذلك أوصى النبي محمد (ص) أتباعه بتبني الاعتدال في قوله: “خير الأمور أواسطها”. وبالرغم من ذلك، يبشر العديد من الدعاة عن تفوق دينهم على الديانات الأخرى، ولا يبدون اهتماماً بالحوار البنّاء القائم على الاحترام المتبادل والاعتدال والتفاهم بين الأديان.

صدق السيسي عندما قال بأن صلب المشكلة يكمن في “نصوص وأفكار تم تقديسها على مئات السنين،” إلا أن هذه الخطوة من قبل الرئيس المصري، والمرحب بها، ليست سوى البداية. فالمسلمون المتطرفون يعمدون منذ فترة طويلة إلى تفسير آيات القرآن بحيث تخدم أجنداتهم السياسية الخاصة، ولم يتحلّ سوى قلة من المعتدلين بالشجاعة لمواجهتهم.

على سبيل المثال، هناك تفسير خاطئ للآيتين السادسة والسابعة من سورة الفاتحة التي جاء فيها ما يلي: “اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ.” فتفسير المتطرفون الإسلاميون لهاتين الآيتين هو أن الذين أنعم الله عليهم هم المسلمون والمغضوب عليهم هم اليهود والضالّين هم المسيحيون. إلا أن التفسير الأدق والمنسجم أكثر مع ما ورد في القرآن لهاتين الآيتين فهو أن المؤمنين مباركون، سواء أكانوا مسلمين أو يهود أو مسيحيين، والكافرين ملعونون والضالين هم المنافقون. فالإسلام رسالة سماوية موجهة للبشرية جمعاء.

وهناك الآية التاسعة عشرة من سورة آل عمران: “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ”. بالنسبة للمتطرفين المسلمين فإن هذه الآية تعني أن الله فرّق بين الإسلام والمسيحية واليهودية، ولكن في الواقع تشير كلمة “الإسلام” في هذا السياق إلى أولئك الذين يعبدون الله، بمن فيهم اليهود والمسيحيون والمسلمون. وهذا ما تبيّنه سورة آل عمران: “قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.”

علاوة على ذلك، تبنّى المتطرفون حديث منسوب للرسول الكريم محمد (ص) ورد في صحيح مسلم يتعلّق بتنبؤ النبي (ص) نشوب معركة فاصلة في يوم القيامة ما بين اليهود والمسلمين، والتي ستكون نتيجتها هزيمة اليهود وإبادتهم. ويصف الحديث كيف أن الأشجار والحجارة ستدعو المسلمين إلى قتل اليهود المختبئين خلفها. غير أن هذا الحديث يناقض تعاليم الإسلام ونص القرآن و السنة النبوية. فنجد في سورة آل عمران الآية التالية: ” نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ.” وفي سورة العنكبوت، نجد الآية التالية: “وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.” هناك العديد من النصوص الأخرى في القرآن والحديث بما فيها السير الذاتية للرسول الكريم المسجلة في مجموعة أحاديث صحيح البخاري، التي تعارض القراءة المتطرفة التي تم ذكرها آنفاً. فالبخاري يروي حادثة وقف فيها النبي محمد (ص) احتراماً لجنازة صودف مرورها بجانبه، وعلّق الصحابة قائلين: “إنها جنازة يهودي،” فأجاب النبي: “أليست نفساً؟”

لا يجوز أن يبقى المسلمون المعتدلون مكتوفي الأيدي، إذ علينا أن نوحد جهودنا ونقر بأن ديانتنا يتم استغلالها من قبل أقلية صغرى لغايات سياسية. ولا بد من أن نرفع أصواتنا عالياً، نحن الأغلبية المعتدلة الصامتة، ومهما كانت المخاطر المحدقة بنا لكي ندافع عما نؤمن به. فأصواتنا الموحدة قادرة على كبح جماح الإسلام المتطرف، وعلينا أن ننطلق من قدرتنا على الإبداع والابتكار لتعزيز الاعتدال في الدين والسياسة والحياة، ونسعى إلى تشكيل عالم تسوده المساواة والعدالة والديمقراطية والازدهار. فهذا هو الطريق الصواب.

نشر هذا المقال لأول مرة على موقع “منتدى فكرة”

اقرأوا المزيد: 641 كلمة
عرض أقل
دار العرض "حارسٌ أنا لأخي" في متحف الهولوكوست ياد فاشيم (Flash90/Mark Feyman)
دار العرض "حارسٌ أنا لأخي" في متحف الهولوكوست ياد فاشيم (Flash90/Mark Feyman)

تدريس الهولوكوست في فلسطين

تشكل عملية تدريس موضوع الهولوكوست في فلسطين تحدّ كبير بسبب استمرار الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي

تشكل عملية تدريس موضوع الهولوكوست (وانا هنا لا اريد استخدام الترجمة العربية “المحرقة” لانها لا تعبر عن الواقع) في فلسطين تحدّ كبير بسبب استمرار الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي. واذا كان الغرب يعتبر بان مسألة تدريس المحرقة لا تقتصر على اليهود،  فان العرب، لا سيما الفلسطينيين، ينظرون اليها بطريقة مغايرة أي كشأن يهودي بحت.  وهنا تكمن التحديات أمام تدريس الهولوكوست في فلسطين. ونجدها على أربع مستويات: التعليمية والسياسية والدينية والنفسية.

فعلى المستوى التعليمي، لم تكن احداث ووقائع الهولوكوست تُذكر بصفة تقليدية في النصوص المدرسية العربية أو الفلسطينية، كما لم تكن ولا تزال لا تُدرّس في المدارس أو الجامعات العربية او الفلسطينية. فهذا أمر يتم تجاهله كلياً في دروس التاريخ بسبب النزاع العربي الاسرائيلي. وبهذا، فإن غالبية العرب والفلسطينيين يجهلون هذا الحدث المأساوي في التاريخ الانساني،

وعلى المستوى السياسي، فإن الفلسطينيين هم الأمة الوحيدة في العصر الحديث التي لا تزال تحت الاحتلال العسكري، وشأنهم شأن بعض الشعوب الأخرى، فهم محرومون من حق تقرير المصير وإقامة دولة فلسطينية مدنية ديمقراطية ومستقلة. ومن ثم، فإن معظم الفلسطينيين ينظرون إلى الهولوكوست باعتباره مصدر يوم نكبة عام 1948 الذي يحتفل به الإسرائيليون باعتباره عيداً للاستقلال للدولة اليهودية. ويدفع الصراع العديدين للنظر إلى تلك المسألة على أنها دعاية صهيونية تهدف إلى خلق تعاطف مع القضية اليهودية. في حين يعتبره البعض دعاية صهيونية او حدث مضخم لكسب العطف الدولي للدولة اليهودية.

وعلى المستوى الديني، فإن النزعة الراديكالية لدى البعض في فلسطين، في تدريس دين الإسلام تشدّد على وجود تصادم في القيم والمعتقدات ما بين الإسلام من جانب، واليهودية والمسيحية من جانب آخر. وعليه فان تفسير عدد من آيات القرآن الكريم وشرحها يتم بطريقة تدعم هذه الحجة. على سبيل المثال، يقول الله تعالى في الآية 143 }وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً{  ولكن بدلاً من تفسير الآية على أنها تدعو للعدالة والتسامح والاعتدال، يجري تفسيرها على النحو التالي: “المسلمون أمة وسط بين اليهود الذين قتلوا الأنبياء والمسيحيين الذين ألهوا نبيهم”. المثال الآخر هو طريقة تدريس الآيات الأخيرة من سورة الفاتحة والتي تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (المسلمين بدلاً من المؤمنين) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ  (اليهود بدلاً من غير المؤمنين) وَلَا الضَّالِّينَ (المسيحيين بدلاً من المنافقين)}. ايضا، طريقة تدريس الآيات التي تعتبر الدين عند الله سبحانه وتعالى الاسلام فهل نعنى بدلك الدين الاسلامي فنستثني الديانات السماوية الآخرى كاليهودية والمسيحية أو نعني من آمن بالله وسلم له وعبده فلا نستثني الديانات السماوية الآخرى كاليهودية والمسيحية.

ومن بين الأحاديث الواسعة الانتشار التي تُنسب، أو إن أردنا الدقة، التي تُنسب خطأً إلى الرسول (ص)، قوله:  ” لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون  حتى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر،  فيقول الحجر أو الشجر : يا مسلم ! يا عبدالله ! هذا يهودي خلفي  فتعال فاقتله  إلا الغرقد  فإنه من شجر اليهود .”  والنص الديني الذي يتم تدريسه في المدارس يقول: ” في هذا الحديث النبوي يخبرنا الرسول (ص) بأحد أشكال المعارك بين المسلمين واليهود…” تجدر الاشارة هنا الى ان هذا الحديث يتناقض مع آيات القرآن التي تعظِّم حرمة الحياة بحسب ما يرد في الآيات التالية: }وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ{  [سورة الإسراء، الآية 33]،}  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ{ [سورة الأنبياء، الآية 107] وتشمل هذه الرحمة جميع البشر ومن بينهم اليهود والمسيحيين وغير المؤمنين. وما من شك في أن الحديث المشار إليه أعلاه يتناقض مع الآيات التالية: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [سورة هود، الآية 118] } لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}  [سورة البقرة، الآية 256] ؛ {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ.{ [سورة الكهف الآية 29]؛ }إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.{ [سورة السجدة الآية 25 ] }فالله يحكم بينكم يوم القيامة} [سورة النساءالآية141]. كما أن النص يتعارض مع رواية البخاري التي تقول: “مرت جنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام لها احتراما للميتً، فقيل له يا رسول الله: “إنها جنازة ليهودي”. فاجاب: “أليست نفساً؟”

إن القرآن الكريم يحترم التوراة والإنجيل ويصفهما بالكتابين المقدسين. كما يشير إلى اليهود والمسيحيين بلفظ: “أهل الكتاب”، أو “الذين أوتوا الكتاب”. وهناك نحو 60 آية في القرآن تخاطب اليهود مباشرة كما في قوله تعالى: }يا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ{ [سورة البقرة؛ الآية 47].

اما على المستوى النفسي، فإن المجتمع الفلسطيني يعاني من جرح عميق لم يبرأ بعد. ورغم أن احداث الهولوكوست وقعت في الماضي، إلا أن محنة الفلسطينيين ما زالت مستمرة في الحاضر. ومن ثم، يصعب جداً أن تطلب من الضحايا الذين يعانون من احتلال لوطنهم ومصادرة مستمرة لأراضيهم وممتلكاتهم ومعاناة احبائهم في المعتقلات وحرمانهم من حقوقهم الانسانية أن يتعرفوا على معاناة  الآخر.  

استراتيجية لتدريس الهولوكوست

يطرح الفلسطينيون السؤال التالي: “لماذا ينبغي أن نتعلم عن الهولوكوست؟” وإجابتي هي ان قيمة التعرف على الهولوكوست تكمن فيما يلي:

(1) ان التعلم عن الهولوكوست مؤشر على احترام الحقيقة. اما إنكار الحقيقة أو تجاهلها فانه يدمِّر القيم التي يعتز بها المرء.

(2) ان هذا هو الشيء الصواب. فانتقادنا على  أمر ما لا يعني بان علينا تجنبه او نتجاهله.

(3) إنكار الهولوكوست خطأ تاريخي وغير مقبول أخلاقياً.

(4) الحاجة إلى التعرف على الدروس المأساوية من الماضي ضرورة لتجنب حدوثها مرة أخرى في المستقبل.

(5) يحث القرآن الكريم على طلب المعرفة والعلم: }…وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْما.ً{  [سورة طه، الآية 20]. وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (سورة الزمر، الاية 9)

(6) يحث االرسول (ص) على طلب المعرفة والعلم: وقد روي عن الرسول (ص) قوله: “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”. وقوله: “اطلبوا العلم ولو في الصين”.

(6) يقول الحكماء أنه بدون معرفة الشر لا نستطيع أن نفهم معنى الخير.

(7) إظهار التعاطف والشفقة تجاه معاناة الآخرين، حتى إذا لم تجمعكم صداقة أو أواصر محبة، سوف يجعل هذا العالم مكاناً أفضل للعيش فيه.

إن النهج التعليمي يمثّل أهمية قصوى عند تدريس مواضيع حساسة. لذا فإنني أشجّع التعلم النشط من خلال إقرار الخطوات التالية لتدريس مثل هذا الموضوع المثير للجدل:

(1) تدريس اهمية التفكير الناقد والإبداعي.

(2) تدريس اهمية تبني الوسطية والاعتدال.

(3) تدريس المحرقة إلى جانب عمليات الإبادة الجماعية الأخرى في التاريخ الحديث، كما حدث في رواندا، مع شرح الروابط والتشابكات. وسيكون من المفيد للغاية الاستعانة بأفلام وثائقية كأداة تعليمية.

لقد وجدت صعوبة بالغة في العثور على نص دراسي باللغة العربية عن الموضوع، لهذا شاركت في تأليف كتاب مع زينة بركات ومارتن رو بعنوان: (الهولوكوست – المعاناة البشرية: هل يوجد مَخرج من العنف؟) (2012)

وفي الختام، عندما تم عرض فيلما وثائقياً عن الهولوكوست في جامعة القدس، رفع أحد الطلاب يده وسأل: “لماذا ينبغي أن نتعلم عن المحرقة في حين أن الإسرائيليين جعلوا استخدام مصطلح النكبة غير قانوني وحظروا ذكر أي شيء بخصوصه في نصوصهم المدرسية؟” وكانت إجابتي دقيقة ومقتضبة: “لا تهتم بما يفعله الآخر، بل افعل ما تراه الصواب”.

الأستاذ محمد سليمان الدجاني الداودي هو مؤسس حركة الوسطية في  فلسطين، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة القدس.

نُشرت المقالة للمرة الأولى في موقع “فكرة”

اقرأوا المزيد: 1051 كلمة
عرض أقل