عينات ليفي

تتنقل عينات ليفي بين إسرائيل والمغرب منذ عام 2012. تعمل في مجال تخطيط رحلات تعليمية في المغرب وتطويرها، وتطور علاقات تعاونية مع جهات مختلفة. عنات خبيرة في الحلبة السياسية والاجتماعية الخاصة بالمغرب وتطور مجال توثيق التراث اليهودي المغربي توثيقا رقميا

يهود المغرب.. من جالية محلية إلى جالية افتراضية

  • صورة لغرفة داخل المتحف اليهودي في فاس
    صورة لغرفة داخل المتحف اليهودي في فاس
  • صور للجالية اليهودية في فاس
    صور للجالية اليهودية في فاس
  • صور للجالية اليهودية في فاس
    صور للجالية اليهودية في فاس

تنجح مجموعة فيس بوك خاصة في جمع أبناء الجالية اليهودية، نسلهم وجيرانهم المسلمين من مدينة فاس مجددا، وذلك بعد أن تفرقوا وانتشروا في أنحاء العالم

بدأت الفكرة في مبنى صغير قريبا من مقبرة يهودية، بالقرب من القصر الملكي في فاس. في الماضي، استُخدِم هذا المبنى كبناية لمدرسة “أم البنين” التي كانت جزءا من مؤسسات التربية اليهودية التي أقيمت عام 1912. بما أنه لم يبقَ شبان في الجالية اليهودية، ولم تعد هناك حاجة إلى المدارس، أقام ادموند غباي، أحد أواخر اليهود في المدينة، متحفا بدلا من المدرسة. تُعرض في المتحف أدوات تُستخدم في الطقوس الدينية، كتب، شهادات، وأغراض وصور عائلية وتاريخية. جُمعت هذه الأغراض في المتحف في كل مرة غادر فيها أحد أبناء الجالية المدينة أو توفي.

هناك في المتحف قاعة مركزية، كانت تُستخدم سابقا كنيس، ولكن أصبحت اليوم قاعة عرض. يمكن الخروج من القاعة إلى غرفة الصور، التي تنتصب فيها طاولة خشبية صغيرة، وعليها ألبومات عائلية، تدعو الزوار إلى الغوص في أعماق ذكريات الماضي. يمكن الانتقال من هذه الغرفة إلى غرفة أخرى فيها كتب تعليمية وشهادات مدرسية، ثم إلى غرفة أخرى فيها معدّات طبية لمستشفى يهودي يُدعى “بيكور حوليم”، وغيرها.‎ ‎

يعرض المتحف الصغير الذي أقامه غباي القليل عن ماضي الجالية اليهودية العريقة في المغرب. كانت تُعتبر هذا الجالية في فاس أحد مراكز اليهودية الأكثر ازدهارا في العالم. لقد عاش اليهود في فاس بدءا من القرن التاسع، ونجحت المدينة على مر التاريخ بالازدهار وجذب كبار الحاخامات مثل الرمبام (موسى بن ميمون)، الذي عاش في المدينة القديمة، ودرس في جامعة القرويين، التي تعتبر الجامعة الأولى في العالم. لقد طرأت تغييرات على تعامل نظام الحكم مع اليهود على مر العصور، وشهدت الجالية اليهودية تعاملا مختلفا، ولكنها صمدت طوال سنوات. لقد بدأت هذه الجالية تتلاشى في نهاية الأربعينات، بسبب احتدام النضال من أجل استقلال المغرب والنشاطات الصهيونية في المملكة. هاجر يهود كثيرون إلى إسرائيل، فرنسا، وكندا، فتقلص عددهم في فاس. تشهد الأرقام على ذلك، ففي عام ‏1947‏ عاش في فاس ‏22,500‏ يهودي، في عام 1951‏ انخفض تعدادهم إلى 12,650‏، ووصل في السبعينات إلى 70‏ حتى ‏1,000‏، أما اليوم فيعيش في فاس 50‏ يهوديا فقط.

صور للجالية اليهودية في فاس

رافق الهجرة من فاس إلى إسرائيل ودول أخرى الشعور بالهجرة واللجوء، سواء كان قرار الهجرة بمحض الإرادة أم قهرا، وسواء كان مصدرا للفرح أو الحزن. لم يؤثر هذا الشعور في الجيل الأول الذي قدم إلى إسرائيل فحسب، بل في كل الأجيال التي قدمت إلى إسرائيل لاحقا وواجهت الفارق بين الحياة في إسرائيل والحياة في فاس. يمكن أن نفهم هذا الفارق بشكل أفضل عبر التمييز الذي عرضه المؤرخ دومينيك لاه كبريه في كتابه “كتابة التاريخ، هي كتابة صدمة”. ميز لا كبريه بين نوعين من الصدمة: الأولى هي صدمة الخسارة – الخسارة هي فقدان شيء لم يعد في الحاضر، ومنها فقدان الجالية، المنزل، الشوارع والمناظر المعروفة، الأصدقاء وذكريات الطفولة، وخسارة أبناء العائلة أحيانا الذين انتشروا في العالم؛ الثانية – هي صدمة من نوع النقص – الشعور بأن هناك ضياعا، شعورا غير مفسّر، يتجسد أحيانا في الصعوبة في وصف هذا النقص.

جولة افتراضية في متحف فاس:

يمكن تطبيق التمييز الذي عرضه لا كبريه على انقراض الجالية اليهودية في فاس. يشعر بالضياع بشكل أساسي أبناء الجيل الأول، الذين وُلِدوا في فاس وهاجروا إلى إسرائيل أو إلى دول أخرى. فقد تركوا في فاس كل ممتلكاتهم مثل المنزل، الأصدقاء، أبناء الجالية، وما شابه. بالمقابل، يشعر أبناء الجيل الثاني والثالث ونسلهم الذين ولدوا في إسرائيل بشعور من النقص. فقد سمع جزء منهم فقط عن مدينة فاس، ولكنهم لا يعرفون الكثير عنها. تعزز الشعور بالخسارة على مر السنوات، بسبب الأهمية القليلة التي حظي بها تراث الجالية اليهودية التي أصلها من الدول العربية والإسلامية في المواد التعليمية في المدارس الإسرائيلية وفي السيناريو الإسرائيلي.

أدموند غباي مؤسس المحتف في فاس

في عام 2003، زرت متحف ادموند غباي للمرة الأولى. تخالف الثروة التراثية المعروضة في غرف المتحف تماما الشعور بالنقص الذي شعرت به سابقا فيما يتعلق بهويتي المغربية. فهمت خلال القليل من الوقت الذي زرت فيه المتحف أن أفضل شيء للتعافي من الشعور بـ “النقص” هو الشعور بـ “الوفرة”، وأن هذه الوفرة قائمة في المغرب وفي ذكريات مواطنيها. استوعبت هذه الحقيقية تدريجيا، حتى زرت المتحف ثانية بعد مرور ثلاث سنوات، أي في عام 2016. في هذه المرة، كانت أمامي أربعة أيام لتوثيق المتحف بمساعدة طاقم من المتطوعين.

في اليوم الأول من توثيق المتحف تساءلنا، من أين نبدأ؟ فقد بدا كل شيء هاما ومثيرا للفضول. هل علينا البدء بتوثيق الصور القديمة، أم بالصور التي على الطاولة؟ توثيق الصور التي على الحائط، أم المستندات المنتشرة في الغرف؟ لقد قررنا تقسيم المهام، فالتقطت ابتسام صورا للأغراض، أما أنا التقطت صورا للألبومات. شعرنا بشعور مميز عندما شاهدنا الصور في الألبومات. تضمن جزء من الصور صورا لعائلات كانت ترتدي ملابس احتفالية بمناسبة التقاط الصور. والتُقطت صور أخرى في احتفالات جماهيرية، وبدا الفرح على وجوه الأطفال.

صور للجالية اليهودية في فاس

في اليوم الثاني من توثيق الصور كنا قد نجحنا في توثيق المئات منها، ولكننا لم نعرف ما هي القصص التي تخفيها. تساءلنا ما الذي يمكن القيام به لمعرفة هذه القصص، فخطر في بالي العثور على الأشخاص الذين يظهرون في الصور، وتذكيرهم بماضيهم. لهذا بحثت عن طريق للعثور على القادمين من فاس، وجمعهم والاستعانه بهم من أجل “التعرف الجماعي” على الصور التي في المتحف. وهكذا في اليوم الثاني من التوثيق افتتحت مجموعة فيس بوك تحت اسم ‏The Jewish Fes-book Project‏ – يهدف المشروع إلى “توثيق الجالية اليهودية في فاس”.

في غضون أيام، انضم إلى المجموعة 600 عضو، وأصبح تعدادها لاحقا نحو 2.200 عضو. شكلت زيادة عدد المشاركين في المجموعة دليلا عكسيا على نقص عدد أبناء الجالية اليهودية في فاس. تم توزيع الصور التي تم توثيقها في المتحف ضمن أربع مجموعات: اهتمت المجموعة الأولى بصور الأطفال، والثانية بالنساء، والثالثة بالرجال، والرابعة بالصور الجماعية. طُلِب من أعضاء المجموعة أن يذكروا السنة والموقع اللذان التُقِطت فيهما كل صورة ووضع “تاج” على الأشخاص الذين يظهرون في الصورة. وهكذا في كل مرة تم وضع تاج لشخص معين في الفيس بوك، ظهرت الصورة في صفحته على الفيس بوك، وهكذا انشترت المجموعة سريعا. في وقت لاحق، أصبح أعضاء المجموعة نشطاء يوثقون الصور، وقد نشروا صورا عائلية وساعدوا على التعرف إلى الصور التي رفعها أصدقاء آخرون، وشاركوا الآخرين بذكريات الماضي.

لم تركّز المجموعة على “الصور” ولم تثر جدالات حول أحداث الماضي، بل ركزت على استعادة الذاكرة، على ذكريات الماضي التي نُسيت أو ربما تم نسيانها عمدا. بهدف تذكّر الماضي، استُخدِمت وسائل تساعد على التذكر مثل طرح أسئلة: “في أي شارع سكنت عائلتك في فاس؟”، يتطلب هذا السؤال تذكّر أسماء الشوارع في مراحل مختلفة. في حال شاهد أحد أعضاء المجموعة اسم شارع يذكره بماضيه، كان يشارك أعضاء المجموعة الأخرى فورا، وهكذا فعل سائر الأعضاء أيضا. أتاح الكشف عن أسماء الشوارع أن يتعرف سائر أعضاء المجموعة الآخرين على الجيران، الأصدقاء، والعائلة.

جولة افتراضية في كنيس ابن دنان:

هناك طريقة أخرى لاستعادة الذكريات وهي إجراء جولات افتراضية في مواقع التراث اليهودي في فاس من خلال عرضها بزاوية 360 درجة (بشكل يحاكي الواقع). هكذا رُفعت أمام المجموعة جولة افتراضية في كنيس “ابن دنان” الذي أقيم في القرن السابع عشر في الحي اليهودي في الملاح، في فاس. منذ عام 1999 أصبح الكنيس موقعا عالميا للحفاظ على التراث من قبل اليونسكو. كما سمحت جولة افتراضية أخرى لأعضاء المجموعة بإجراء زيارة افتراضية في الكنيس على اسم رؤوفين بن سعدون، الواقع في الطابق العلوي في أحد المباني في الشارع. أقيم المبنى في عام 1920، وكان يعتبر أحد أجمل المباني المميزة في المدينة. سمحت الجولات الافتراضية لأعضاء المجموعة أن يتذكروا طفولتهم المتعلقة بالكنيس، مثل قراءة التوراة، احتفالات البار متسفاه، حفلات الزواج، الآباء والأجداد، حاخامات الجالية، واحتفالات جماهيرية أخرى جرت في الموقع. لم تكن الكنس في المغرب مراكز دينية فحسب، بل كانت مراكز لقاء لأبناء الجالية اليهودية.

نجح يهود مدينة فاس في المغرب، في أن يتحولوا من جالية محلية شهدت تراجعا في عدد أفرادها إلى جالية افتراضية جديدة في الفيس بوك، يلتقي أفرادها معا عبر هذه المنصة. فقد التقى عبر الصفحة أصدقاء وأبناء عائلة بعد أن انقطعت العلاقات بينهم منذ سنوات. ساعدت إمكانية ترجمة “المنشورات” على التواصل بين أعضاء المجموعة وتذكّر الماضي. وأتاحت المواد المعروضة في صفحة الفيس بوك والنقاش الذي دار حول كل صورة، استعادة الذاكرة والتعاون المثمر. كانت المواد الوثائقية التي عُرِضت متوفرة كل الوقت وفي كل مكان، وكان الوصول إليها متاحا ما ساعد على نشرها والتعرف إليها.

صورة لغرفة داخل المتحف اليهودي في فاس

كما أثارت المجموعة اهتماما لدى المسلمين المغاربة من مدينة فاس الذي أعربوا عن اهتمامهم بيهود مدينتهم. فقد أعدت طالبات أحيانا واجبات مدرسية تناولت شؤون اليهود المغاربة ووجدن في المجموعة مصدر معلومات، وأحيانا اهتم الممثلون بإنتاج فيلم حول الموضوع، أو اهتم باحثون أكاديميون يهتمون بيهود المغرب بالمجموعة أيضا. ولكن أكثر من كل شيء، شارك مسلمون من المغرب في المجموعة من خلال عرض القصص التي سمعوها من أجدادهم عن جيرانهم اليهود الذي عاشوا قريبا منهم في الماضي.

لقد ساهمت معلومات المسلمين كثيرا من أجل المجموعة، سواء كان ذلك في إكمال الذاكرة من الناحية الإسلامية، أو بتوثيق أحداث الماضي، مثل التعرّف إلى القبور، صور اللافتات، الشوارع، وغيرها. يذكّر الحيز الافتراضي المشترك بين اليهود والمسلمين الذي نشأ في المجموعة حول يهود المغرب بأن الحديث يجري عن تراث مشترك لكل مواطني المغرب يهودا ومسلمين على السواء.

جولة افتراضية في كنيس رأوبين بن سعدون:

نُشِر هذا المقال للمرة الأولى في منتدى “منتدى التفكير الإقليمي

اقرأوا المزيد: 1392 كلمة
عرض أقل
تعيش الجالية اليهودية بسلام منذ آلاف السنوات إلى جانب أكثرية من المسلمين في المغرب(AFP)
تعيش الجالية اليهودية بسلام منذ آلاف السنوات إلى جانب أكثرية من المسلمين في المغرب(AFP)

حنين المسلمين في المغرب إلى التراث اليهودي

يعمل شبان مسلمون على إحياء التراث اليهودي المغربي وجعله متاحا أمام الجميع. هل سيتعاون اليهود في المغرب مع هؤلاء الشبان؟

منذ سنوات، أتنقل بين إسرائيل والمغرب. لقد بدأت رحلتي إلى المغرب كرحلة شخصية متواضعة للتعرّف إلى أصولي المغربية، ولكن مع مرور الوقت أصبحت هذه الرحلة أوسع وذلك في أعقاب القصة الكبيرة حول هجرة يهود المغرب إلى إسرائيل، وقصة اليهود الذين ما زالوا يعيشون في المغرب حاليا. لا يمكن عدم التطرق إلى الماضي، ولكن ككل المواضيع التاريخية، فهو يطرح أسئلة حول الهوية في الحاضر التي تؤثر في المستقبل.

تتيح كل زيارة كشف المزيد من أجزاء البازل هذا. في زيارتي الأخيرة إلى المغرب، قضيت نحو شهرين في الدار البيضاء، التي تعتبر العاصمة الاقتصادية، وهي مدينة مليئة ومكتظة، وتثير إحباطا في ساعات معينة، لا سيّما إذا حاولتم العثور على سيارة أجرة في ذروة ساعات الازدحام في المساء. مع مرور الوقت، بعد أن عثرت على المقهى المحبوب لديّ وبدأت أتمتع بمشاهدة عروض ناجحة مع أصدقائي في ساعات المساء، تعرفت إلى تشكيلة ثقافية غنية في المدينة وتعلمت كيف أحترمها.

يعيش في وقتنا هذا في الدار البيضاء أكثر من سبعة مليون مواطن، معظمهم مسلمون. بقي فيها نحو 2.500 يهودي فقط – وهم يشكلون مجموعة قليلة من الجالية اليهودية التي عاشت فيها في الماضي. أصبحت الجالية اليهودية في يومنا هذا مستقلة تماما ولديها حاخمون، جزارون، مطهّرون، بعض المدارس، وكذلك 11 حتى 30 كنيسا قيد الاستخدام – تعمل الكنس في أيام معينة. المقابر والمؤسسات التابعة للجالية مُعتنى بها وتحكي قصة الجالية اليهودية التي لم تعد موجودة تقريبًا.

لقاءات يهودية اسلامية في المغرب (Association Mimouna)
لقاءات يهودية اسلامية في المغرب (Association Mimouna)

يجدر بنا أن نترك المعطيات الإحصائية، لأنه يمكننا أن نتعلم عن المدينة أكثر من السكان الذين يعيشون فيها. فاني مرجي، هي مغربية وصاحبة مصلحة تجارية لأزياء نسائية، انتقلت من المغرب إلى فرنسا، ثم وصلت إلى إسرائيل وزارت بعض الدول الأخرى، وفي النهاية عادت إلى المغرب مفعمة بالطموح ومليئة بالمعرفة. رأيت عبر نظراتها قصة الجالية اليهودية التي لم يبقَ منها تقريبًا سوى البنى، المؤسسات، والمنظمات. فهمت عبر وصفها تضاؤل الجالية اليهودية في المغرب وهجرتها، وشعرت باحترام كبير نحو من يعيش فيها الآن ونحو ماضي الجالية اليهودية العريق في المغرب. للحظات، ظهر حزن في نظراتها لم يكن في وسعها التغلّب عليه، وظهرت صعوبة لديها في التحرر من الماضي.

فاني هي أشبه بمرآة تعكس نقاط الاختلاف بيني وبينها، إذ أنني مقارنة بها وصلت إلى المغرب ولديّ القليل من المعلومات حول التراث اليهودي – المغربي. حتى زيارتي الأولى إلى المغرب، كنت أنظر إلى القصة المغربية في إسرائيل كعديمة الأهمية. لم أعرف ماذا يعني أن أكون مغربية ورفضت الاكتفاء بالإطراء على الأطعمة المميّزة والكثير من النكات الشعبية حول المغاربة، العراقيين، والأكراد. أردت أن أفهم بشكل واسع التراث المغربي وأن أتعرف إلى عادات الجالية وأن أسمع الأصوات المختلفة فيها. يمكن القول إنني قمت بهذه الرحلة تلبية لإشباع رغبتي لمعرفة الحقائق.

رغم أن معظم اليهود قد هاجروا المغرب منذ زمن، وبدأ يكتنف الغموض حول التعبير “جالية”، بقي في المغرب مصدران هامان حول تاريخ يهود المغرب: “البنية التحتيّة المنظماتية للجالية اليهودية ومؤسساتها، التي ما زالت قائمة بأشكال مختلفة، وكذلك سكان المغرب المسلمين.

“لم تعد الجالية اليهودية تعيش في المغرب بعد. ظلت فيها منظمات ومؤسسات فقط”، قالت فاني ردا على أسئلتي المتواصلة ومحاولاتي لمعرفة المعلومات حول ما تبقى. في الواقع، يدير الجيل المُتقدّم في العمر المؤسَّسات اليهودية، ويبرز هذا بشكل خاص عند زيارة المراكز اليهودية في فاس، مراكش، مكناس، وسائر الجاليات التي ما زالت تعيش فيها أقلية يهودية فقط. لا يمكن تجاهل الاضمحلال المتواصل وعدم التساؤل إلى أين اختفى الشبان من أبناء الجالية، ولماذا لا يشغلون مناصب في القيادة المحلية. لا شك أن هذا السؤال مؤلم بالنسبة للجيل الذي أرسل أولاده بعيدا عن المغرب، لذلك لم أطرحه. ربما ارتكبت خطأ عندم لم أسأل، ولكن في نظرة إلى الماضي يبدو أنني اخترت تأجيل مواجهة اعتراف الجالية الذي لا يمكن تجنبه حول تضاؤلها.

لقاءات يهودية اسلامية في المغرب (Association Mimouna)
لقاءات يهودية اسلامية في المغرب (Association Mimouna)

حاولت التوصل إلى إجابات من مصدر معرفة آخر تحديدًا – سكان المغرب المسلمين، الذين يتذكرون الجالية اليهودية الكبيرة التي عاشت في المغرب في الماضي. يمكن أن نلاحظ في كل مكان يزوره يهودي تأثر المسلمين المحليين ورغبتهم في مشاركة قصص يهود المغرب، التي تناولها الأشخاص. هناك شعور في أحيان كثيرة أن سكان المغرب يعتقدون أن هذا حقهم وحتى واجبهم، حيث إنه من وجهة نظرهم، ما زال هؤلاء اليهود مغاربة مثلهم تماما والهوية المغربية أبدية وفق أقوال يذكرونها في كل فرصة.

في السنوات الماضية، باتت تحكي وسائل الإعلام المختلفة في المغرب قصة اليهود. لقد اشتريت في إحدى نهايات الأسبوع في الدار البيضاء صحيفة ودُهشت عندما اكتشفت فيها تحقيقا تاريخيا واسعا حول اليهودية في المغرب ونشاطات الرفاه الخاصة بها. كان الحديث يدور عن جالية تحملت مسؤولية رفاه أبنائها واحترمت الجالية اليهودية جدا.

في السنوات الأخيرة، بدأت تُعرض أفلام حول اليهودية في المغرب في قنوات رسمية، وبدأت تثير حوارا مجتمعيا نشطا حول يهود المغرب في وقتنا هذا وحتى حول يهود المغرب في إسرائيل. أبرز هذه الأفلام هو فيلم للمخرج كمال هشكار، بعنوان “تنغير القدس: أصداء الملاح”، الذي بدأ يُعرض في قناة المغرب الثانية الرسمية ‏2M Maroc)‎‏). ‏‎ ‎‏عُرض الفيلم الذي حظي بحملة تسويقية كبيرة في أنحاء المغرب والعالم العربي وأثار صدى ونقاشا كبيرا في وسائل الإعلام. إن الربط الذي أجراه المُخرج بين المغاربة المسلمين وبين المغاربة اليهود الذين يعيشون في إسرائيل، شكل تحديا حول وجهات نظر عربية وإسلامية، تعتقد أن إسرائيل كيان غريب في الشرق الأوسط.

أكثر من أي شيء، تأثرت بمجموعة من الشبان المسلمين، التي أقامت عام ‏2007‏ “جمعية ميمونة”، بهدف أن يتعرّف الجيل الشاب في المغرب إلى قصة يهود المغرب. عندما سمعت للمرة الأولى عن “ميمونة” ضحكت من اسم المجموعة؛ كان يبدو لي اسما سطحيا، لأنني كنت أعرف في ذلك الحين “عيد الميمونة” في إسرائيل فقط، الذي حظي بانتشار واسع في إسرائيل.

ولكن كان معنى الـ “ميمونة” مختلفا، هاما أكثر بكثير في المغرب. كما في كل عام، في عيد الفصح اليهودي، كان هناك فرق بين اليهود والمسلمين لأنه كان يُحظر على اليهود تناول الأطعمة التي تحتوي على خميرة. فلم يزر اليهود جيرانهم المسلمين أو لم يشتروا من متاجرهم أثناء العيد. بعد انتهاء عيد الفصح، كان اليهود يدعون أصدقاءهم المسلمين للاحتفال معهم بعيد الميمونة لنقل رسالة أن العلاقات بين الجاليات يمكن أن تعود إلى مسارها العادي. كان يشكل عيد الميمونة بالنسبة للأقلية اليهودية التي تعيش في أوساط أكثرية من المسلمين، وسيلة للتواصل بين الجاليات ونقل رسالة من الصداقة وحسن الجوار بينها.

في العقد الماضي، بدأت تعمل منظمة “ميمونة” في أنحاء المغرب بهدف مقاومة ظاهرة النسيان. يعتقد أعضاءؤها أن اليهودية تشكل جزءا لا يتجزء من التراث المغربي ويعترف بذلك دستور الدولة منذ عام 2011. الوطنية المغربية متعددة وكثيرة الثقافات، وتُعتبر التشكيلة الثقافية التي تميّز الهوية المغربية أفضلية وإحدى القيم المغربية الهامة. تظهر الصعوبة في أوساط الجيل الشاب في المغرب، الذي لا يعرف التراث اليهودي الخاص ببلاده ولم يتعرّف إليه، سواء بسبب أن القليل من اليهود يعيشون في المغرب في وقتنا هذا أو بسبب اختفاء التراث اليهودي من كتب التاريخ المغربية. يمتلأ الفراغ الناتج بمحتويات مثيرة للغضب من “الأراضي المقدسة” التي تنقلها وسائل إعلام إسلامية وعربية وتصف اليهود والمسلمين كأعداء لدودين. وهكذا مع مرور الوقت، بدأت العلاقات المميّزة التي كانت بين اليهود والمسلمين في المغرب طيلة سنوات تتلاشى.

الكنيس في جربة (AFP)
الكنيس في جربة (AFP)

يُطرح السؤال ما الذي يجعل شبان مسلمون يقيمون منظمة هدفها الثقافي والسياسي عكسي. أثناء حديثي مع أعضاء المنظمة حول الظروف التي أدت إلى أن يعملوا على تخليد التراث اليهودي المغربي في ذاكرة الجيل الشاب، تفاجأت من أنهم شعروا بتضامن مع الماضي التاريخي المجهول الخاص بيهود المغرب. كانت القصص التي سمعوها من أجدادهم عن يهود المغرب بداية رحلة حول يهود المغرب. تتضمن الحركة في يومنا هذا عشرات الأعضاء، يعملون في عدة مدن وجامعات ويجرون مؤتمرات حول يهود المغرب، يمررون دروسا بالعبرية، ينظمون رحلات في مواقع يهودية، يعقدون أمسيات تتضمن أكل الحلال وفق الشريعة اليهودية، ولديها منزل متنقل تعرض من خلاله التراث اليهودي أمام الجميع. هناك أهمية كبيرة للمنظمة، لأنها تحافظ على ذاكرة مهددة بالاختفاء، تحييها، ويثير حقيقة وجودها أملا في قلوب اليأسين.

في محادثة في مراكش مع المهدي بودرى من مؤسسي جمعية “ميمونة” تحدثنا عن الصعوبات التي تتعرض لها الجالية اليهودية في المغرب، تكيّفها مع الثقافة الفرنسيّة وانفصالها عن المجتمَع المغربي المسلم. كما وتحدثنا عن كتب التاريخ المستخدمة في المدارس في المغرب التي تدعم هذا الانفصال، وتحدثنا عن نقص القيادة اليهودية الشابة القادرة على إحداث تغيير في العلاقات بين الجاليات.

سألت المهدي السؤال الذي لا يمكن عدم طرحه، حيث يشغل بالي منذ زمن: “هل الانفصال الخاص بيهود المغرب ما هو إلا توجها واضحا يسير كجزء من التاريخ؟”. نظر المهدي وقال بثقة: “لا، ما زال إنقاذ الجاليات المتبقية في المدن الكبرى مثل، فاس، مراكش، والدار البيضاء ممكنا”. كان لدى المهدي أيضا برنامج عمل: “أهم ما يجب القيام به لتحقيق الهدف هو توفير مكافآت للشبان اليهود وضمان أن يظلوا في المغرب. يمكن القيام بهذه الخطوة من خلال منح مكافآت للجامعات الجيدة هنا، وهكذا نطور قيادة شابة ونشطة تكون مطلعة عما يحدث في المغرب، ولا تتوجه إلى فرنسا”. نظرت إليه مندهشة تماما من رؤيته وثقته التامة حول النجاح في تطبيق البرنامج، وتساءلت للحظة إذا كنت متشائمة أو أنه مجنون.

مُصلية يهودية في كنيس تطلب رحمة الله ׁׂ(AFP)
مُصلية يهودية في كنيس تطلب رحمة الله ׁׂ(AFP)

كانت تغمر أشجار النخيل كل قطعة أرض في المغرب تقريبا. هناك سبب منطقي وراء نمو هذه الأشجار، إذ أن القانون في المغرب يحظر قطعها. يدور الحديث عن قانون يطبقه المغاربة بشكل قهري – إذا بنيتم منزلكم وتوسطته شجرة نخيل فعليكم قبول الواقع، وإبقاء الشجرة حتى وإن كانت في وسط الصالون. هكذا أصحبت أشجار النخيل شائعة في المغرب، ويحافظ عليها القانون إلى الأبد أو حتى تموت تلقائيا.

كما هي الحال مع شجر النخيل، يحافظ القانون المغربي على اليهود وتراثهم كجزء من التراث المحلي، ويحظر إلحاق ضرر به. ربما يكون خيار البقاء أو عدمه متعلقا بأيدي اليهود كما هي الحال مع أشجار النخيل.

نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في موقع منتدى التفكير الإقليمي

اقرأوا المزيد: 1472 كلمة
عرض أقل