عوفر أديريت

موريه يشارك في منازلة في العراق (تصوير العائلة)
موريه يشارك في منازلة في العراق (تصوير العائلة)

كاتب وملاكم.. اليهودي من بغداد الذي انتصر على نجل رئيس الحكومة

في عيد رأس السنة العبرية، توفي الكاتب الإسرائيلي سامي معلم (شموئيل موريه) من أصول عراقية، الحائز على جائزة إسرائيل، وكبار الباحثين في الشعر العربي. من بين المعزيين العرب كان رئيس السلطة أبو مازن

قُبَيل قدومه إلى إسرائيل في عام 1951، جمع سامي معلم (شموئيل موريه) في سن 18 عاما صحفا نُشرت فيها قصائده ومؤلفاته واحتفظ بها في ملف. عندما رأى موظف سلطة الضرائب في مطار بغداد الملف، قال لموريه غاضبا ومتسائلا: “لماذا تنقل معك قصائد عربية إلى “إسرائيل”؟ فالعبرية هي اللغة الرسمية فيها!”.

لم يساعد ختم وزارة الداخلية العراقية الذي صادق على أن يخرج موريه مواد من العراق، لأن موظف الجمرك مزق الوثائق وألقاها في سلة النفايات. إلا أن موريه لم يبقَ لا مباليا. فعندما بدأ الموظف بالبحث في حذائه لمعرفة إذا كان يخبئ فيه “ذهبا” أخرج موريه من سلة النفايات الملف الممزق ووضعه في حقيبته.

في إسرائيل أيضا، استمر موريه بنشر قصائده، مقالاته، ومؤلفاته في الصحف العربية. “نشر قصائد حب بائس تعبيرا عن المشاعر الصعبة في المساكن المؤقتة والسقيفات”، قال قبل عشر سنوات في مقابلة معه لمؤلفَين عراقيَين، وهما هرتسل وبلفور حكاك. ولكن تبدل المزاج السيء لاحقا بسيرة ذاتية أكاديميّة غنية، أصبح موريه في ذروتها أحد أهم باحثي الأدب العربي المعاصر في العالم، وحصل على جائزة إسرائيل في الدراسات الشرقية.

وُلِد موريه في عام 1932، في بغداد لعائلة ثرية، عريقة، وكان خبيرا بالثقافة العراقية. كانت والدته سنيورة معلمة لغة فرنسية في مدرسة “اليانس”. أما والده أبراهام ابن حاخام وخطيب معروف، كان مدقق حسابات في شركة بريطانية خبيرة بمجال تصدير واستيراد بضاعة وآلات زراعية، ولاحقا أصبح تاجر أراض ومقاولا.

كتب موريه أن والده “تمرد ضد التقاليد وقيم الاحتشام المتبعة في تلك الفترة”، بعد أن تنزه مع خطيبته في عربة يجرها حصانان ومزيّنة بقناديل تعمل بالنفط في شارع “رشيد” الرئيسي ومن هناك تجولا في متنزه “أبو النواس”.

أصبح والده ثريا بفضل عمله. “كان والدي من بين الأوائل في بغداد الذين اشتروا من الاختراعات الأوروبية المختلفة”، قال موريه متحدثا عن جهاز المذياع الذي اشتراه والده “عندما كان الأغنياء قادرين على شراء أغراض كهذه” فقط، وعن النزهات العائلية في: “دور السينما في بغداد لمشاهدة أفلام السينما الصامتة”.

شموئيل موريه (النت)
شموئيل موريه (النت)

تذكر موريه دائما الحياة المتوترة إلى جانب المسلمين، قائلا: إنها “حياة خوف، حذر، ونفور”. ووصف الكثير من حالات الاستفزاز والشتم التي تعرض لها اليهود في المدينة.

في الحرب العالمية الثانية، في أعقاب الأجواء المعادية للبريطانيين والموالية للنازيين، عانى اليهود أكثر من المضايقات والمطاردة. ولكن هذه المضايقات احتدمت أكثر في أحداث “الفرهود” عام 1941 التي راح ضحيتها نحو 180 يهوديا. “أغلقنا الأبواب بإحكام، ووضعنا على السطوح زجاجات، حجارة، وأنابيب حديد”، قال موريه. حتى أن والده أخرج مسدسه ولقّمه. رغم ذلك، في النهاية، وقف صديق العائلة المسلم، أبو علوان، في أسفل المنزل حاملا سكينا طويلة دفاعا عن العائلة.

في البداية، تعلم موريه في مدرسة عامة عربية تدعى “السعدون” التي درس فيها أولاد لعائلات عراقية مشهورة. رُسِمت على جدران المدرسة أثناء الحرب صلبان معقوفة وكُتبت جمل مثل: “يعيش هتلر، حامي العرب”، و “الله في السماء وهتلر على الأرض”. تذكر موريه من هذه الفترة حادثة عنيفة مع أحد الطلاب المعتبرين في المدرسة، يدعى فيصل وهو نجل رئيس حكومة العراق، رشيد عالي الكيلاني، الذي هاجمه بالعصا.

“لقد بالغ سامي بأعماله الشيطانية. ضرب نجل رئيس الحكومة. كاد يخرج عينيه من مكانهما”، قالت مديرة المدرسة لوالده. ولاحقا، تعلم موريه في المدرسة الإعداديّة اليهودية “فرنك عيني”.

عندما تذمر موريه موضحا أنه لا يتعلم العبرية فيما عدا عبر الكتاب المقدس، دعاه أحد أصدقائه إلى الصف للمشاركة في دروس العبريّة التي تنظمها الحركة السرية الصهيونية. أنهى دراسته الثانوية في مدرسة “شماش” اليهودية في فرع علوم الرياضيات. وفاز فيها بالجائزة الأولى في الملاكمة وبجائزة الكتابات الأدبية.

بدأ موريه سيرته الأدبية في سن 16 عاما. أرسل إلى صحيفة “العراق”، “اليوم”، “الكرخ”، و “النبأ” قصائده وقصصه تحت اسم “سامي ابراهيم”. تابع العمل في هذا المجال بعد أن قدِم إلى إسرائيل في عام 1951 أيضًا.

اعتاد والده الذي ظل في العراق لعشر سنوات بعد هجرته على مدح العراق حتى آخر أيام حياته قائلا: “العراق فريد من نوعه”. “شعرت أن كل شيء في العراق أفضل. فهناك الاحترام المتبادل بين الأشخاص، بما في ذلك كبار السن، وهم سخاء ويستقبلون الضيوف”، قال موريه.

اقتبس موريه أقوال والده ومنها: “فواكه العراق ومنها، الشمام، البطيخ أو العنب والبرتقال، الليمون، والتفاح هي الأفضل. يضاهي حجم كل وردة في العراق حجم صنية. الأرض العراقية خصبة جدا لدرجة أن البطيخ ينمو في جوانب الطرقات المعبّدة”.

استمر موريه بنشر قصائده وقصصه بالعربية في البلاد أيضا، وفي الخمسينيات تعلم في الجامعة العبرية اللغة والأدب العربي وتاريخ الدول الإسلامية. ارتكز موضوعه الدكتوارة في جامعة لندن على القصائد العربية المعاصرة. بدءا من الستينيات، عمل محاضرا للغة والأدب العربي في الجامعة العبرية في القدس، وفي جامعة حيفا، وبار إيلان. إضافة إلى هذا كان مؤسس جمعية الأدباء العرب باللغة العربية وجمعية الأكاديميين العراقيين، التي أصدرت عشرات الكتب التي شكلت مصدرا أساسيا للبحث حول يهود العراق.

عندما نال جائزة إسرائيل في مجال البحث في الدراسات الشرقية في عام 1999، كُتبَ عنه: “وضع أسسا جديدة كليا لبحث التطورات حول القصائد العربية المعاصرة وأحدث تجديدات كثيره هامة في بحث تاريخ المسرح والتمثيل العربي”. عند وفاته، قال هرتسل حكاك أثناء ذكر مناقبه: “كان موريه مشهورا في مجال بحث الأدب، الذي حظي بفضله بمكانة هامة بين باحثي الأدب العربي المعاصر في العالم”.

أثارت أبحاثه ومقالاته اهتماما في العالم العربي أيضا. مثلا، في عام 1969، نُشر مقالان له في كتاب صدر في القاهرة. كتب أكاديمي من جامعة القاهرة: “أنتظر اليوم الذي ينجح فيه الخبراء العرب في كتابة أبحاث هامة وشاملة حول ثقافة العدو، أفكاره، ومؤلفاته، كما يكتب عنا”.

حظي إخوته بنجاح في مجالات اختصاصهم أيضا: “كانت أخته غلاديس مؤلفة، واسبرنس كاتبة. عمل أخيه يعقوب موظفا في بنك إسرائيل، ويعمل اليوم بروفيسورا في جامعة في بلفاست. يعمل أخيه رايموند بروفيسورا للفيزياء الجزيئية في جامعة بن غوريون، ويعمل أخيه مردخاي رساما.

عاش موريه في مفتسيرت، وتوفي عشية عيد رأس السنة العبرية الماضي تاركا وراءه زوجة وثلاثة أطفال وخمسة أحفاد. قالت تسيونيت فتال كوبرفاسر، التي كتبت كتابا عن حياة اليهود في بغداد، إن العراقيين رثوه وعددوا مناقبه أيضا. “إنهم حزينون بسبب رحيله، وآسفون لأن العراق خسر مميزين أمثاله، ونادمون لأنه لم يحظَ برؤية بغداد ثانية”، وفق أقوالها. قال ابنه أفي إن رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، اتصل بالعائلة لتعزيتها بعد وفاة والده.

نُشر هذا المقال للمرة الأولى في صحيفة “هآرتس”

اقرأوا المزيد: 935 كلمة
عرض أقل
عائلة ليفي في الخرطوم (يهوشع ليفي, هآرتس)
عائلة ليفي في الخرطوم (يهوشع ليفي, هآرتس)

الجالية اليهودية التي لا يذكرها أحد تقريبا

القليلون هم من يعرف أنّه حتى سنوات الخمسينيات عاش في السودان مئات اليهود، الذين اضطروا إلى التفرق عندما ازداد الوضع سوءًا. يهوشع ليفي، من آخر من تبقى من المهاجرين: "سنموت قريبا ولن يكون هناك من يذكرنا"

قبل أسبوعين ارتدى يهوشع ليفي، وهو مهندس سفن يبلغ من العمر 81 عاما، بدلة، وخرج من شقّته الجميلة في تل أبيب، متوجّها إلى جامعة بار إيلان. وقد تم إعلامه قبل يوم من ذلك فقط، عن طريق الصدفة تماما، بوجود مؤتمر في الجامعة تحت عنوان: “الخروج، الهجرة، التهجير والتشريد”، في ذكرى اللاجئين اليهود من الدول العربية.

لم يتفاجأ ليفي بأنّه لم يتلقّ دعوة رسمية للمؤتمر. وقف في الاستراحة جانبا، وتمعّن في الجمهور الكبير الذي ملأ القاعة – أعضاء منظمات يهودية من مهاجري ليبيا، العراق، دمشق وغيرها – وشعر بالوحدة. “سنموت قريبا ولن يكون هناك من يذكرنا”، كما قال.

ينتمي ليفي إلى جالية صغيرة، نادرة ومنقرضة، من اليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل من السودان.‎ ‎لم يعلم منظّموا المؤتمر والمشاركون فيه أبدا عن وجود هذه الجالية. أيضًا الباحثون المختصّون بيهود الدول العربيّة لم يسمعوا عنها، ولا عن طريق الصدفة.

بلغ تعداد الجالية في ذروتها أقل من ألف شخص. نقطة في بحر بالمقارنة مع 260 ألفا من يهود المغرب، 135 ألفا من يهود الجزائر، 125 ألفا من يهود العراق، 90 ألفا من يهود تونس و75 ألفا عاشوا في مصر قبل قيام الدولة.

هاجر نحو 500 من أبنائها إلى إسرائيل، وتفرّق البقية في العالم

تفكّكت الجالية بعد عام 1956، عندما حصل السودان على الاستقلال وانضمّ إلى الجامعة العربية. هاجر نحو 500 من أبنائها إلى إسرائيل، وتفرّق البقية في العالم. “ليس لدينا منظمة لأننا قليلون جدا”، كما يقول يهوشع ليفي. “سافر زعماء الجالية السودانية الكاريزماتيون إلى أمريكا وإنجلترا. وأولئك الذين وصلوا إلى هنا أرادوا الاندماج، أن يكونوا مثل الجميع”.‎ ‎

ولكن بالنسبة إلى ليفي فالأرقام ليست مهمة. القصص، التراث، التقاليد وتاريخ جاليته لا تزال تشغله حتى بعد 65 عاما من هجرته إلى  إسرائيل لوحده من الخرطوم، عاصمة السودان، عندما كان عمره 16 عاما.

الحاخام سلومون مالكا
الحاخام سلومون مالكا

كان جدّه لأمه، فرج شوعا، الشخصية المهيمنة في العائلة. لقد قدِم إلى السودان من مصر عام 1900 بالقطار، “مع ماكينة خياطة زينغر في يده”، كما يحكي ليفي، وكان تاجرا للنسيج. أقام شوعا الكنيس الأول للجالية في غرفة صغيرة استأجرها بالخرطوم. قام بنفسه بتدريس الأطفال هناك التوراة والعبرية والصلاة.

أقام شوعا الكنيس الأول للجالية في غرفة صغيرة استأجرها بالخرطوم. قام بنفسه بتدريس الأطفال هناك التوراة والعبرية والصلاة

كان شوعا الجدّ يزور فلسطين  كثيرا، والتقى في إحدى زياراته لطبريا الحاخام سلومون مالكا، ودعاه ليكون الحاخام الرئيسي ليهود السودان. وقد شارك في جنازته التي جرت عام 1949 كهنة وشيوخ من جميع أنحاء السودان، وفاء لإرث التسامُح الديني الذي خلّفه وراءه.

ولدت ابنته الكبرى، رحمة ، والدة ليفي، في الخرطوم عام 1901، وهي الأولى من بين 11 أخا وأختا. عندما كانت في السادسة عشر من عمرها أخذها والدها إلى مصر ليجد لها خاطبا.

“كان في السودان القليل جدّا من الرجال اليهود، وكان من المعتاد حينذاك الذهاب إلى مصر، حيث كانت هناك جالية أكبر بكثير. اعتادت الخاطبة على تقديم عدة رجال، واختار الوالد لابنته واحدا منهم”

“كان في السودان القليل جدّا من الرجال اليهود”، كما يوضح ليفي. “وكان من المعتاد حينذاك الذهاب إلى مصر، حيث كانت هناك جالية أكبر بكثير. اعتادت الخاطبة على تقديم عدة رجال، واختار الوالد لابنته واحدا منهم”. وهكذا التقت والدته بوالده، شاشون ليفي، وأسس الإثنان منزلهما في الخرطوم. “كنّا نضحك على لغته العربية، والتي كانت مختلفة عن لغة جدّنا، وعلى كيفية نطقه لمختلف الكلمات”، تذكر المهندس ليفي الفروقات بين يهود مصر ويهود السودان.

ولد لشاشون ورحمة ثمانية أطفال. وولد يهوشع ليفي عام 1933. “لم تكن حياتي في السودان جيّدة. لا أذكره كحنين”، كما يقول. “كان هناك معاداة للسامية من قبل السودانيين وعانيت منها وأنا طفل. عندما كنت أخرج من الحيّ كان الأطفال ينقضّون عليه بالضربات. دخلت أحيانا في شجارات أيضًا ضدّ خمسة. عندما كنت أخرج إلى الشارع كانوا ينادون عليّ “يا يهودي، ستكون جمرا لجهنّم”.

كنيس الخرطوم (صورة من مجلة "بعاميم")
كنيس الخرطوم (صورة من مجلة “بعاميم”)

كان هناك شتيمة أخرى تلقاها في طفولته في الخرطوم وهي: “اليهود ملعونون، وبعد ذلك أموات المسيحيين”. بعد سنوات من ذلك فقط شرح له عربي من إسرائيل معنى هذه الشتيمة: اليهود ملعونون بكل الأحوال، حتى لو غيّروا دينهم. ولكن لدى المسيحيين فرصة للنجاة فقط إذا قاموا بتغيير دينهم في حياتهم. وإنْ لم يفعلوا ذلك، فسيُلعنون في موتهم.

بعد حرب 1948، بدأ بالتساؤل لماذا يصرخون عليه في الشارع: “يا يهود، اذهب إلى فلسطين”

بعد حرب استقلال إسرائيل عام 1948، بدأ بالتساؤل لماذا يصرخون عليه في الشارع: “يا يهود، اذهب إلى فلسطين، ماذا تفعل هنا”. “سألت أمي ماذا نفعل نحن هنا؟ ولماذا لا نذهب إلى دولتنا؟”، كان يتذكّر. “شعرت بفقدان الأمن. كنت أمشي في الشارع دون أن أعلم من سيهاجمني. وعندها قرّرت المغادرة”.

هاجر عام 1949 وحده على متن طائرة، “طائرة داكوتا، مع مراوح”، كما وصفها، على خطّ الخرطوم – اللد، والذي تضمّن توقّفا على الحدود المصرية السودانية للتزوّد بالوقود. انضمّت أسرته إليه في وقت لاحق. كان آخر من غادر السودان من أسرته هو شقيقه، الذي بقي هناك حتى عام 1960.

بعد فترة ما من وصوله للبلاد، ولدى بلوغه 16 عاما ونصف، زوّر ليفي سنّه في شهادة الهجرة الخاصة به حتى يتمكّن من الانضمام إلى الجيش الإسرائيلي. خدم في الكتيبة 7 من الفوج 9، وشارك في العمليات الانتقامية التي جرت في سنوات الخمسينيات. بعد تسريحه من الخدمة العسكرية درس في كلية الميكانيكا في التخنيون بحيفا، وعمل في شركة “هيما” في بناء سفن الصيد. حصل على اللقب الثاني في هندسة السفن من هولندا.

عمل بعد الدراسة في أحواض بناء السفن في إسرائيل، وخطّط هناك “أشياء جيّدة”، كما يقول ويقصد، من بين أمور أخرى، السفن حاملة الدبابات التي شاركت في حرب لبنان الأولى عام 1982. أخذته المهنة لاحقا إلى بريطانيا أيضًا، وقد كان هناك، من بين أمور أخرى، مستشارا لعملاق السفن سامي عوفر. لم تجعله رحلاته حول العالم وإقامته في إسرائيل ينسى السودان، وطنه الذي تركه. تعمّق في أوقات فراغه ودرس التاريخ الأسري وتاريخ الجالية المنسيّ لأجل الأجيال القادمة.

قدِم اليهود إلى السودان من مصر، تركيا ودول أخرى، في القرن التاسع عشر لأجل العمل والتجارة. كانت الدولة تُحكم حينذاك من قبل مصر، تحت رعاية بريطانيا

سيطر البريطانيّون على السودان من جديد في نهاية القرن وأقاموا فيها حكمًا مشتركا مع المصريين. سُمح لليهود عام 1898 بالعودة لممارسة حياتهم العامّة، وتوسّعت الجالية واستوعبت المزيد من اليهود من مصر، من بينهم جدّ ليفي، فرج شوعا. وعادت أيضًا سبعة – من أصل الأسر الثمانية الصغيرة التي عاشت في السودان – إلى اليهودية وإلى الجالية. بحسب كلام ليفي، “رفضت أسرة واحدة فقط. فهم ربّ الأسرة، الذي أنجب خمس فتيات سود من نساء سودانيّات، بأنّه لن يكون لديهنّ فرصة للاندماج في المجتمع اليهودي”. استوعبت الجالية في فترة الحرب العالمية الثانية مئات اليهود الآخرين.

المهدي محمد أحمد
المهدي محمد أحمد

قدِم اليهود إلى السودان من مصر، تركيا ودول أخرى، في القرن التاسع عشر لأجل العمل والتجارة. كانت الدولة تُحكم حينذاك من قبل مصر، تحت رعاية بريطانيا. عام 1882، وفي أعقاب ثورة المهدي محمد أحمد، هُزم الجيش المصري وقُتل الجنرال البريطانيّ تشارلز غوردون، “حاكم السودان”. ساءت أوضاع اليهود فورا وأجبِروا على اعتناق الإسلام، الذهاب إلى المسجد والزواج من نساء مسلمات. تحدّث ليفي عن ثمانية أسر يهودية أجبرتْ على العيش كمسلمة واعتمدت أسماء عربية. وهكذا تحوّل بن تسيون إلى بنسيون، حاخام إلى حكيم، ومندل إلى منديل. اعتاد زعيم تلك الأسر، بن تسيون كوشطي، على الصلاة متخفّيا في الصباح، قبل ذهابه إلى المسجد.

لم تكن أسرة ليفي من الأسر الثرية في الجالية، ولكنها استفادت من الرفاه والازدهار. كان لدى بعض الأسر خدم وخادمات، غاسلات ومقدّمات للرعاية. أمضى أبناؤهم أوقاتهم في أندية مرموقة، شربوا الشاي على ضفاف النيل وشاهدوا الأفلام في سينما حديثة.

عندما اعتُقل عمّه قال للسودانيين: “أنا سودانيّ أكثر منكم. ولدتُ هنا”

ساءت أحوال اليهود مجدّدا عام 1956، عندما نالت السودان استقلالها. “لقد أرادوا أن يكونوا على قدم المساواة مع العرب، حينها بدأوا بمعاداة اليهود واتهمونا بالتجسّس لصالح إسرائيل”، كما يقول ليفي. عندما اعتُقل عمّه قال للسودانيين: “أنا سودانيّ أكثر منكم. ولدتُ هنا”. ولكن خلال عدّة سنوات تركت الجالية السودان، مخلّفة وراءها ممتلكاتها الشخصية والعامّة.

عام 1974 تمكّن أحد أبناء الجالية من العودة إلى السودان واستخراج عظام أكثر من 17 من أبناء الجالية الذين دُفنوا هناك. في عملية خاصة، ومع دفع رشاوى للسكان المحلّيّين، تم تهجير العظام إلى إسرائيل ودفنتْ في جفعات شاؤول في القدس. أما القبور الأخرى التي بقيت في السودان، فقد دُمّرت وتحطّمت على مرّ السنين. عام 1980، وفي أعقاب مفاوضات بين يهود السودان والحكومة، تم إخراج تسع كتب توراة منها ونُقلت إلى الجاليات اليهودية في سويسرا، بريطانيا، الولايات المتحدة وإسرائيل.

“من الصعب أن نصدّق كم خرج أشخاص ناجحون من تلك الجالية الصغيرة”، يقول ليفي بفخر، ويتحدّث عن يهود السودان، بعضهم أثرياء جدّا، تفوّقوا في مجالات عمل مختلفة حول العالم بعد تفكّك الجالية. القائمة طويلة وتشمل أسماء مثل تمام، غؤون وسروسي بالإضافة إلى أقارب ليفي.

“كان أخي، موريس ليفي، رئيس شركة البناء الضخمة Parsons Brinckerhoff.‎ ‎ابن خالي، سلفادور شوعا، هو رئيس رابطة أطباء القلب في الولايات المتحدة. ابن خال آخر، عزرا شوعا، كان مهندسا نوويا عمل في مشاريع سرية في البنتاغون”، كما يقول. “ولا زال 95% من المواطنين في إسرائيل لا يعرفون بأنّه كان هناك يهودا في السودان”، كما يلخّص.

نُشرت هذه المقالة لأول مرة في صحيفة هآرتس

اقرأوا المزيد: 1371 كلمة
عرض أقل