منذ صيف 2014، لا ينزل اسم الأكراد عن العناوين. في ليلة وضحاها تقريبا أصبحوا اللاعبين الإقليميين الأهم في الشرق الأوسط: كان الأكراد هم الوحيدين الذين واجهوا الحرب البريّة ضدّ أعضاء “الدولة الإسلامية” (داعش) في جبهتين منفصلتين، في سوريا والعراق، وبذلوا أيضًا كلّ ما بوسعهم.
وقد علمنا مؤخرا أن مقاتلات ومقاتلي الأكراد استطاعوا تحرير كوباني من أيدي داعش والتي تقع في منطقة الأكراد السورية، بعد نضال بطولي استمر لأكثر من أربعة أشهر. أيضًا في جبهة كردستان العراق فقد استطاع مقاتلو البيشمركة صدّ أعضاء داعش عن كركوك الغنية بالنفط ومن مناطق استراتيجية أخرى، وتحرير سنجار، التي تصدّرت العناوين في أعقاب حملة القتل المروّعة التي قامت بها داعش ضدّ اليزيديين.
الغموض والعمل من وراء الكواليس يبدوان الطريق الأفضل لإقامة العلاقات في هذه المرحلة بين البلدين
وفي أعقاب هذه التطوّرات يواجه المجتمع الدولي اليوم سؤالا مهمّا: ما هي المكانة المناسبة التي يجب إعطاؤها للأكراد في الساحة السياسية الدولية، وهل ينبغي تقديم مساعدات مباشرة لهم وهو الأمر الذي قد يُعزّز طموحاتهم نحو الاستقلال؟ إسرائيل نفسها تواجه هي أيضا معضلة: هل يجب مساعدة الأكراد في العراق وفي سوريا أيضًا؟ إذا كان الأمر كذلك، فإلى أية درجة يجب جعل ذلك علنيّا؟ أي نوع من العلاقات يجب تطويره؟
ومن أجل الإجابة على تلك الأسئلة يجب أن نتتبع قليلا التاريخ المعقّد لعلاقات إسرائيل مع الأكراد. ينبع هذا التعقيد من كون الأكراد ليسوا قطعة واحدة، حيث يعيشون في أربعة دول مختلفة: تركيا، إيران، العراق وسوريا. وحيث إنّهم لم يقيموا دولة خاصّة بهم أبدا. وفقا لذلك تطوّرت علاقات مختلفة تماما على سبيل المثال بين الأكراد في العراق وأولئك الذين هم في تركيا.
بين التعاوُن والتجاهل الدبلوماسي
تعود جذور العلاقات مع أكراد العراق إلى الخمسينيات، عندما كانت القاعدة العامّة هي “عدوّ عدوّي صديقي”. تمّ إرساء تلك العلاقة ضمن نظرية الأطراف التي طوّرتها إسرائيل في تلك الفترة، والتي اعتبرت أنّه يجب تعزيز العلاقات مع دول ولاعبين غير عرب من أجل الخروج من العزلة التي فرضتها الدول العربيّة علينا. كانت الأقليّة الكردية في العراق أحد هؤلاء اللاعبين. كان هناك أيضًا تقارب في المصالح الاستراتيجية: بحسب رؤيا إسرائيل كان على الأكراد إضعاف أو إحداث الفتنة في قوات الجيش العراقي في حال حدوث تهديد على الجبهة الشرقية، والتي كان من المحتمل أن تشتمل في القرن الماضي على سوريا، العراق والأردن. بالنسبة للأكراد، كانت المصلحة هي الحصول على مساعدة في صراعهم القومي ضدّ الأنظمة العراقية المختلفة وخصوصا في عهد البعث.
أخّرت ثلاث عوامل رئيسية تطوير العلاقات الإسرائيلية الكردية: الأخذ بالاعتبار حساسية تركيا، والأخذ بالاعتبار موقف الولايات المتحدة بخصوص قضية الأكراد والمخاوف الكردية نفسها
في فترة ذروة العلاقات بين عاميّ 1965-1975، قدّمت إسرائيل المساعدة بشكل سرّي للأكراد على المستوى العسكري مثل تدريب البيشمركة؛ وهو جيش العصابات الكردية، إقامة الخدمة السرّية فرسطين، المساعدة في توفير الأسلحة، والمساعدة في المجالات الاجتماعية مثل إقامة مستشفى ميداني أو تجهيز الكتب الدراسية باللغة الكردية. تمتّعت إسرائيل بمعلومات استخباراتية وبمساعدة اليهود في الخروج من العراق. أدّت هذه العلاقات، التي انقطعت في منتصف السبعينيات، في نهاية المطاف إلى خيبة أمل لدى كلا الطرفين. خاب أمل إسرائيل من كون الأكراد لم يساعدوا في حرب يوم الغفران ولم يسيطروا على الجيش العراقي. يدّعي الأكراد دفاعا عن أنفسهم بأنّ إيران كانت من الممكن أن تقاتلهم إذا اتخذوا خطوة كهذه بسبب الاتفاق الذي أُبرم بين إيران والبعث عشية الحرب. وقد خاب أمل الأكراد من جانبهم من كون إسرائيل قد تركتهم عام 1975 بعد اتفاق الجزائر بين العراق وإيران. وتدّعي إسرائيلي دفاعا عن نفسها بأنّه في اللحظة التي توقفت فيها إيران عن مساعدة الأكراد، والتي انتقلت من خلالها أيضًا المساعدات الإسرائيلية، لم تعد لديها أية طريق مادية أخرى للاستمرار في المساعدة.
ومن الواضح للجميع اليوم بأنّ المراسي القديمة – لدى كلا اللاعبَين – قد أُنزلتْ مؤخرا. بالنسبة لإسرائيل فإنّ الدول غير العربية تحديدا، إيران وتركيا، هي التي تتخذ اليوم مواقف متطرّفة تجاهها، وبخصوص تهديد الجبهة الشرقية فلم يعد موجودا منذ وقت طويل. بالنسبة للأكراد فإنّ النظام العراقي لم يعد يهدّدهم كما كان في يوم من الأيام. فضلًا عن ذلك، فقد طوّروا هم أيضًا علاقات وثيقة مع تركيا وإيران بالإضافة إلى عدد غير قليل من الدول العربيّة.
ثمّة منطق عكسي وجّه علاقات إسرائيل مع الأكراد في تركيا. أخذت إسرائيل دائما في الأخذ بالاعتبار حساسية تركيا فيما يتعلّق بالمسألة الكردية، لدرجة أنّه في فترة ما تلقّت وسائل الإعلام الإسرائيلية توجيهات بألا تستخدم مصطلح كردي أو كردستان. تصرّفت إسرائيل بهذه الطريقة لأنّ تركيا كانت على مدى فترة طويلة الدولة المسلمة الوحيدة التي اعترفت رسميا بدولة إسرائيل. ومن ناحية أخرى، فقد كانت علاقاتنا مع حزب العمّال الكردستانيّ، PKK، إشكاليّة؛ سواء لأنّ التنظيم كان عدوّا لدودا لتركيا وتمّ تعريفه من قبلها ومن قبل دول الغرب كتنظيم إرهابي، وسواء لأنّه طوّر علاقات وثيقة مع سوريا ومع منظمة التحرير الفلسطينية، بل وشارك في حرب لبنان الأولى عام 1982 ضدّ إسرائيل. وهنا إذن كانت لدينا مصالح مشتركة مع الحكومة التركية، ولذلك ساعدنا الجيش التركي في الاستخبارات وفي بيع الطائرات دون طيّار.
تغييرات نموذجية في مطلع القرن
من الناحية التاريخية، فقد أخّرت ثلاث عوامل رئيسية تطوير العلاقات الإسرائيلية الكردية: الأخذ بالاعتبار حساسية تركيا، والأخذ بالاعتبار موقف الولايات المتحدة بخصوص قضية الأكراد والمخاوف الكردية نفسها. في مطلع القرن الواحد والعشرين حدثت تغييرات نموذجية في كلّ المنطقة، ويجب إعادة النظر في هذه الحقائق ومن ثمّ أيضًا العلاقات مع أجزاء كردستان المختلفة.
الشيء الرئيسي الذي حدث هو أن تركيا نفسها طوّرت علاقات وثيقة جدّا مع الأكراد في العراق بل وبدأت عملية سلام مع حزب العمّال الكردستانيّ. في المقابل، جعلت تركيا من إسرائيل كيس اللّكم الثابت بالنسبة لها، وعزّزت علاقات وثيقة مع تنظيم حماس الذي يعتبر تنظيما إرهابيّا. ولذلك، فقد السوط التركي في المسألة الكردية الكثير من قوّته ولم يعد هناك ما يجبر إسرائيل على الاستمرار في أن تأخذ بعين الاعتبار حساسية تركيا في هذه المسألة.
كان هناك تطوّر كبير آخر أدى إلى انهيار الدول القومية سوريا والعراق، والفراغ السياسي الذي تركاه خلفهما. تحاول ملء هذا الفراغ اليوم قوّتان متعارضتان: الإسلاميون والأكراد. بشكل ليس في صالحهم أصبح الأكراد اليوم رأس الحربة في الحرب ضدّ الإسلاميين المتطرّفين، ومن هنا أتت المصلحة الملحّة لدى العالم الحرّ بما في ذلك إسرائيل لدعمهم ضدّ قوى الظلام.
كردستان العراق أكثر استقرارا وازدهارا بكثير من الجزء العربي من العراق. بل إنّها بدأت بتصدير النفط بشكل مستقلّ، ومن هنا فإنّ دولا عديدة في العالم ومن بينها دول الغرب ودول عربية طورت معها علاقات مباشرة. بل وتساعدها بعض الدول الغربية في المجال العسكري
إنّ صعود الإسلاميين، وعلى رأسهم داعش، جلب معه أيضًا تغييرا معيّنا في موقف الولايات المتحدة بخصوص الأكراد. بدأت الولايات المتحدة بمساعدتهم وإنْ لم يكن برغبة مكتملة. أي، إنها تقوم بذلك ليس لأنّها تطلب منحهم اعترافا بحقّهم في تقرير المصير، وإنما لأنّها فهمت بأنّهم الجهة الوحيدة القادرة على إيقاف داعش. مثال توضيحي على هذه الازدواجية هو أنّ الولايات المتحدة قد نفّذت أكثر من 700 هجمة جوّية ضدّ داعش من أجل مساعدة الأكراد في كوباني بسوريا، ولكن من جهة أخرى فإنّها ترفض الاعتراف بالحكم الذاتي الذي أقاموه هناك في صيف عام 2012. وقد رأينا أمرا مشابها أيضًا بخصوص كردستان العراق: حيث نفّذت الولايات المتحدة هجمات جوّية ضدّ داعش ولكنّها ترفض تقديم مساعدة عسكرية مباشرة لقوات البيشمركة الكردية، والتي تحمل 90% من عبء إيقاف داعش.
تستمرّ الولايات المتحدة في إصرارها على توفير السلاح فقط بواسطة حكومة بغداد، التي تسحب أرجلها في هذا الشأن. هذه السياسة مستغربة جدّا على ضوء حقيقة أنّ الجيش العراقي قد انهار في يوم حاسم كبيت من ورق. ولأنّ إسرائيل ترتبط ارتباطا وثيقا بالولايات المتحدة، فإنّها بحاجة في علاقاتها مع الأكراد أن تحفظ لنفسها مع ذلك القدرة على المناورة والعمل المستقلّ في مجالات معيّنة حيوية لها. هناك أيضًا من يعتقد أنّ على إسرائيل أن تحاول ترجيح كفة الميزان لدى الولايات المتحدة لصالح الأكراد، ذلك أنّ مفهوم السلامة الإقليمية للعراق والذي تمسّكت به الولايات المتحدة قد عفا عليه الزمن.
على المستوى العملي فقد تحوّلت كردستان العراق إلى نوع من الدولة داخل دولة، ولكنّها أكثر استقرارا وازدهارا بكثير من الجزء العربي من العراق. بل إنّها بدأت بتصدير النفط بشكل مستقلّ، ومن هنا فإنّ دولا عديدة في العالم ومن بينها دول الغرب ودول عربية طورت معها علاقات مباشرة. بل وتساعدها بعض الدول الغربية في المجال العسكري.
تغيير آخر، يحدث من وراء الكواليس، هو أنّ الأكراد من أجزاء كردستان المختلفة وخصوصا في الشتات، يحاولون اليوم سواء كأفراد أو كرؤساء للتنظيمات، أن يجدوا مسارات إلى داخل قلب إسرائيل. تهدف تلك التوجهات إلى الحصول على المساعدة الإنسانية، كما فعل اليزيديون مؤخرا. وهناك أيضًا محاولات لتلقّي المساعدة العسكرية أو مساعدة اللوبي الإسرائيلي في الغرب، وقبل كلّ شيء في الولايات المتحدة، لصالح المسألة الكردية.
جاء وقت كردستان
تطرح التطوّرات المذكورة أعلاه تشكّكات غير سهلة في إسرائيل. فعلى الصعيد العملي يُطرح السؤال إذا ما كان من الجيّد مساعدة الأكراد في الوقت الذي يتّهمون فيه إسرائيل بشكل دائم بمحاولة تقطيع الدول الموجودة؟ وهناك سؤال مؤثّر آخر وهو: ما هو المكسب الذي ستحقّقه إسرائيل من وقوفها بجانب الأكراد؟ تساؤل آخر هو: هل من الجيّد أن نقف علنًا عن يمين الأكراد، كما فعل مؤخرا رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الخارجية ليبرمان والرئيس السابق شمعون بيريس؟
على المستوى الشعبي فهناك تماهٍ مع إسرائيل ورغبة في فتح علاقات معها وجعلها نموذجا يُحتذى. ولكن طالما أنّ القيادة تأمُل بالحصول على مساعدة أيّا كانت من إسرائيل فإنّها تتحفّظ تمامًا عن عرض علنيّ لعلاقة كهذه خوفا من ردود فعل البلدان المجاورة، وخصوصا إيران وتركيا
للأكراد أيضًا الكثير من المعضلات. على المستوى الشعبي فهناك تماهٍ مع إسرائيل ورغبة في فتح علاقات معها وجعلها نموذجا يُحتذى. ولكن طالما أنّ القيادة تأمُل بالحصول على مساعدة أيّا كانت من إسرائيل فإنّها تتحفّظ تمامًا عن عرض علنيّ لعلاقة كهذه خوفا من ردود فعل البلدان المجاورة، وخصوصا إيران وتركيا.
حتى لو لم تكن هناك إجابات قاطعة لتلك التساءؤلات، فهناك بعض الاستنتاجات العامّة.
لدى إسرائيل كما لدى العالم الغربي مصالح واضحة في أن ينجح الأكراد في صراعهم ضدّ الإسلاميين. إنّ حقيقة كونهم جهة موالية للغرب، معتدلة، علمانية نسبيّا ولديها قدرة إدارية مثبتة، تشكّل رصيدًا مهمّا في ضوء قوى التدمير والخراب في المنطقة. ولقد ثبت أيضًا بأنّهم جهة أكثر ودّية مع إسرائيل من بقية شعوب المنطقة، وذلك بفضل الشعور بالمصير المشترك بين شعبين صغيرين لا يُعترف بحقّهما في دولة خاصّة بهما.
على المستوى العملي فهناك مجال واسع للتعاون وخصوصا مع الإقليم الكردي في العراق. وبالإضافة للجانب الأمني والتجاري فقد افتُتح أفق محتمل جديد وهو شراء النفط من الإقليم الكردي العراقي، والذي لم تستطع دول أخرى الشراء منه بسبب المعارضة القانونية لحكومة العراق. وقد يتطوّر هنا أيضًا مثلّث من العلاقات غير المحتملة بين إسرائيل، الإقليم الكردي في العراق وتركيا، التي ينتقل النفط الكردي عن طريقها. ويجب على إسرائيل أيضًا أن تُقدّم المساعدات الإنسانية على قدر الإمكان للأكراد في سوريا وفي أماكن أخرى لا يزالون فيها يُضطهدون من قبل دولهم.
هناك استنتاج مهمّ آخر وهو أنّ الغموض والعمل من وراء الكواليس يبدوان الطريق الأفضل لإقامة العلاقات في هذه المرحلة.
البروفسور عوفرا بنجو هي باحثة بارزة في مركز موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وإفريقيا، ومحاضرة قسم تاريخ الشرق الأوسط وإفريقيا في جامعة تل أبيب
نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في موقع ميدا