لو كنتُ فلسطينيا لحاولتُ أن أتعلم من اليهود، ومن أكبرهم أولا. ما هو المبدأ الذي وجّه دافيد بن غوريون منذ بدء مسيرته؟ خذ كل ما يعطونك إياه. لقد رد بالإيجاب على اقتراح تقسيم لجنة بيل (Peel Commission) وبعد ذلك على قرار الأمم المتحدة من 29 تشرين الثاني، من خلال الاعتراف بأن شيئا ما أفضل من لا شيء. لقد أراد أن يحصل بكل ثمن على مساحة رحبة وأرضية حدودية يمكن فيها بناء دولة مستقلة تحظى باعتراف دولي.
ثانية، كنت سأستجيب فورا بلا تردد لكلا الطلبين الأساسيين اللذين يضعهما اليهود كشرط لا تنازل عنه، واللذين من ناحيتي لا قيمة لهما سوى ما يحملان من رمزية. كنتُ سأوقّع فورا على مطالب نتنياهو وأعترف بإسرائيل دولة الشعب اليهودي القومية: كلما كان الموضوع متعلقا بالفلسطينيين فليس في هذا الطلب شيئا حقيقًّا. هذه مشكلة إسرائيلية داخلية، وإن كان اليهود يريدون تدمير المساواة والديمقراطية في بلادهم فلمَ ينبغي لذلك أن يزعجني؟ من الصحيح أن القصد هو الإضرار بحقوق العرب حاملي الهويات الزرقاء وفرض مفهوم المواطنة بالقومية اليهودية، لكن من ناحية الفلسطينيين فهناك في الأمر أفضلية إذ أن خلق هذا الوضع من عدم المساواة القانوني، الذي يوحي بالحكم العنصري، سيجعل العالم الغربي كله يثور ضد إسرائيل. في الوقت عينه، سيخوض اليسار والوسط في إسرائيل صراعا حول السلطة. وأضف إلى ذلك، بين الخط الأخضر والبحر المتوسط، العرب هم 20% من السكان، وسيعرفون كيف يهتمون بأنفسهم.
بنفس السياق، كنت سأعلن بصوت عالٍ أني متنازل عن حق العودة، لأن فقط من يحلم أحلام اليقظة يؤمن بأنه سيعود يوما إلى حيفا، الرملة وطبريا. أي إنسان عقلاني سيتردد في منح اليهود هواء دافئا مقابل إزالة العقبة الأخيرة أمام المفاوضات الجدية بشأن إعلان الدولة الفلسطينية، المستوطنات والحدود؟ كنت سأؤكد أنه ليست لدي أية مطالب بمناطق فقدناها في النكبة، والتي هي نفسها حرب استقلال اليهود، لأنه على أية حال، ليس هناك احتمال بالعودة إليها ثانية. بهذا كنت سأُرسي في الرأي العام الإسرائيلي والعالمي معا الخطّ الأخضر بمثابة الحدود المتفق عليها على كل الفلسطينيين، على كل دول العالم، على أغلب يهود العالم وعلى أغلب الإسرائيليين. أقلية يهودية فقط، عنيفة وصارخة- التي لا تمسك بخناقنا نحن الفلسطينيين فقط، بل تخنق أيضا المجتمع الإسرائيلي بنفسه- تحاول أن تقنع العالم بأننا ما زلنا نقاتل في حروب سنوات الـ 40. لكن عندما يحلم الفلسطينيون بقراهم التي لم تعد بعد، فما ذلك إلا ليقنعوا أنفسهم أن حياتهم لم تنته بعد. أعطوهم ليبنوا لأنفسهم حياة حقيقية وسينسون الأساطير.
الموضوع الثالث الذي كنتُ سأتعلمه من بن غوريون هو تأمين دعم دائم من دولة عظمى. أمريكا، عدا عن الجامعات، ما زالت مفقودة من ناحيتنا نحن الفلسطينيين؛ فهناك لليهود اليمينيين أكثر مما يجب من المال والتأثير. لكن الاحتمال في أوروبا أكثر واقعية: ما يُلفت النظر أن التعاطف مع العرب والمسلمين لا يعمل لصالح اليمين الإسرائيلي، وذلك ما تثبته البرلمانات الأوروبية أسبوعا بعد أسبوع. لقد أصبح الحكم الاستعماري الإسرائيلي مكروها أكثر فأكثر في أوروبا: يتجاهل اليمين الإسرائيلي ذلك، وهذه فرصة ممتازة لتطوير سياسة عقلانية، معتدلة، لكنها نشطة فيما يتعلق بالموضوع الفلسطيني، كما عرف اليهود في وقتهم كيف يقومون بذلك، حين كان لديهم التعقل والقيادة التي ترى أبعد من أنفها.
نشر هذا المقال لأول مرة على صحيفة هآرتس