دوتان هليفي

تلميذ اللقب الثاني لعلوم الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب
باركور غزة (Flash90/Aaed Tayeh)
باركور غزة (Flash90/Aaed Tayeh)

باركور غزة: دمار مبانٍ أو دمار بيوت؟

تجميل الدمار، الأمر الذي يُعبّر عنه من خلال نشاط مجموعة باركور غزة وتغطيتها الإعلامية، يُركّز الأنظار على دمار المباني بدل دمار البيوت والعائلات

يتم تداول هذه الظاهرة تقريبًا في كل وسيلة إعلامية مُتاحة: تعرضُ مجموعة من الشبان الغزيين للعالم خراب غزة نتيجة حرب “الجرف الصامد” من خلال ألعاب بهلوانية ومن خلال قفزات من أماكن عالية دون أية وسائل حماية أو شبكات إنقاذ. تدمج جماعة الشبان الموهوبين تلك ما بين نوعين من الرياضات الشعبية المعروفة. النوع الأول هو الباركور (Parkour)، مجموعة من التقنيات الرياضية التي تهدف إلى تخطي عقبات بالانتقال من نقطة إلى أُخرى داخل المدينة، مثل تسلق الجدران، القفز من فوق الحواجز، السيارات أو الدرابزينات، التنقل بين السطوح وغير ذلك. النوع الثاني هو الركض الحر (Free Running) – ألعاب بهلوانية في بيئة مدينية والتي تستخدم الطبيعة المحلية كميدان لأداء حركات مُرتجلة.

باركور غزة (Flash90/Aaed Tayeh)
باركور غزة (Flash90/Aaed Tayeh)

النتيجة هي نسخة جديدة للحيز المديني، وهو: استخدام المدينة، بخلاف القوانين التي تم تخطيطها وفقها. تُلغى المسارات المُعرّفة – شوارع، طرقات أو أزقة وتحلُ مكانها مسارات جديدة يتم ارتجالها من قبل المتدربين في اللحظة الحقيقية (اسم هذه الظاهرة مُشتق من الكلمة الفرنسية Parcours، التي تعني مسار أو ممر). تستند هذه الرياضة بشكل كبير على سهولة الوصول إليها وانتشار وسائل الإعلام الرقمية. بكلمات أُخرى، إن لم تتم مُشاركة آخر عرض قفز عن السطوح على الفيس بوك، إذًا لا يكون قد حدث أساسًا. إن إخراج الصور المشغولة بإتقان ومقاطع الفيديو الخاصة بالحركات البهلوانية المُتقنة، الذي ترافقه موسيقى متوافقة، هو جزء هام من نشاط هواة الباركور.

مسألة إعادة إعمار غزة هي مسألة سياسية واقتصادية مُعقّدة، تُعيقها ظواهر مثل ظاهرة الباركور

قرر “فريق الباركور والركض الحر” في غزة أخذ هذه الهواية باتجاه آخر. حظي أولئك الشبان في السنوات الأخيرة، وتحديدًا بعد حرب صيف 2014، بشهرة واسعة نظرًا لاختيارهم الجري، القفز والسقوط تحديدًا في المواقع التي دُمرت خلال الحروب الأخيرة في القطاع. بالنسبة لهم هذه طريقة ممتازة، ليُظهروا للعالم، حجم الدمار في غزة ونيل تعاطف العالم تجاه الشبان الذين يعيشون فيها. تُظهرهم الكثير من مقاطع الفيديو وكأنهم يُطالبون حقا بإعادة الحياة إلى المناطق المُدمّرة التي تخلو من الحياة. وإثبات أن الحياة أقوى من كل شيء. تحليل آخر، حداثوي، قد يرى بحركة الباركور في غزة كنوع من “الاحتجاج” على الدمار الإسرائيلي من خلال تفكيك الحيز الذي طالبت إسرائيل بتفكيكه. على أي حال، نجحت تلك المجموعة بتسويق خراب المدينة بشكل ممتاز وحتى أنها باتت تجذب مُهتمين من العالم، الذين يأتون للتمرن معهم على تلك الرياضة ولتوثيق نشاط المجموعة.

لا يعمل فريق باركور غزة في فضاء فارغ. النقاش الإعلامي العالمي، بما في ذلك الإسرائيلي والعربي، بخصوص إعادة إعمار مدينة غزة دائمًا ما يتركز على الشكل الظاهري للدمار والخراب. تشكل مقاطع فيديو جوية ترافقها الموسيقى على خلفية الدمار جزءًا من هذا التوجه. وصل في شهر شباط الأخير فنان الغرافيتي العالمي “بانكسي” إلى غزة لكي يطبع بعض نماذج رسوماته على جدران البيوت المُهدّمة في المدينة وإظهار دمارها للعالم، أو لمعجبيه على الأقل. علقّ فريق باركور غزة على الفيديو الذي نشره، خلال زيارته إلى غزة، وبدافع زمالة فناني الشارع أطلقوا نداءً للمزيد من الناس لأن يأتوا ويروا الدمار عن قرب.

في الدمار عنصر ممنوع ومُدمّر يجذب إليه العين؛ ويتم الإشباع بملامسة سطحية للخراب ولكن لا توجد رغبة حقيقية بمعرفة ما الذي يقف خلف الدمار

على ما يبدو أن عملية إعادة إعمار غزة المُتلكئة تحتاج لهذا الاهتمام الإعلامي، ولكن بنظرة أوسع، ومن خلال تحليل أوسع للحاجة للوسائط، ليس مؤكدًا بأن هذه الموضة تدفع قضية إعادة الإعمار بالاتجاه الصحيح. مسألة إعادة إعمار غزة هي مسألة سياسية واقتصادية مُعقّدة، تُعيقها ظواهر مثل ظاهرة الباركور. تكمن المشكلة فيما ممكن تسميته ماسوشية الدمار: اعتادت العين الغربية، في السنوات الأخيرة، على رؤية دمار الشرق الأوسط، بدءا من سوريا، مرورًا بالعراق وصولا إلى غزة. تُسلي فوضى من الدمار والمُصوّرة بشكل جيد، وصور قبل وبعد التفجيرات التفكير مثل لعبة “جد الفرق”. تركّز نظرة على الدمار، من خلال الشاشة، على التجربة الحسية للمشاهد وتُشبع غريزة التلصص التي طورتها وسائل التواصل الاجتماعي. رغم كل شيء، فإن إلقاء نظرة على الدمار هو أشبه بالدخول إلى بيت سبق أن كان قائمًا. ليس عبثًا قد حظيت الظاهرة الفنية – المعمارية الخاصة بتصوير البيوت المتهاوية، في المدن الأمريكية، بالاسم المناسب تمامًا “بورنو الدمار” (Ruin Porn). هناك في الدمار عنصر ممنوع ومُدمّر يجذب إليه العين؛ ويتم الإشباع بملامسة سطحية للخراب ولكن لا توجد رغبة حقيقية بمعرفة ما الذي يقف خلف ذلك.

باركور غزة (Facebook)
باركور غزة (Facebook)

الانجذاب إلى الخراب متجذر جيدًا في الثقافة الغربية. منذ أن “كشف” رواد عصر النهضة خراب مباني الكولسيوم (مدرج روماني قديم)، التي بقيت مُهملة، لمئات السنين، في روما، فقد أثارت بقايا من تلك المباني خيال مؤرخين، رسامين وشعراء، الذين رأوا فيها تحية من الماضي الذي كان بلا شك أفضل من الحاضر. عززت النظرة الأوروبية للشرق هذه النظرة، أي أن كل مبنى مُدمّر معناه أثر لشيء ما قد يُعيد متأمله إلى حياة المسيح أو إلى حكايات التوراة. ترك الخرائب والآثار على حالها المُدمّرة والرومانسية هو ادعاء هام ضد جهود إعادة إعمار أو ترميم مواقع تاريخية. ورثت الصهيونية، ومن بعدها الثقافة الإسرائيلية، الكثير من هذا الحب للخرائب. الخراب العربية التي تظهر هنا وهناك من بين أشجار الصنوبر في الغابات التابعة للصندوق الوطني اليهودي (كاكال) أو المغطاة بكثبان الرمال في محمية طبيعية ما دائمًا ما تُعزى، في نفوس الإسرائيليين، إلى سكان الأرض القدامى – الصليبين، الرومان أو بني إسرائيل. تتخطى الرومانسية الاستشراقية، بالطبع، المالكين الفلسطينيين الحقيقيين لتلك البيوت الحجرية “العتيقة” وتنساهم: الخرائب أهم من فعل التهريب والتدمير ذاته.

تجميل الدمار، الأمر الذي يُعبّر عنه من خلال نشاط مجموعة باركور غزة وتغطيتها الإعلامية، يُركز الأنظار على دمار المباني بدل دمار البيوت والعائلات. هكذا تُشوّش المسؤولية الفلسطينية، الإسرائيلية والعالمية قضية الدمار، الذي هو بمثابة مأساة اجتماعية وسياسية مُستمرة دون أجل منظور

تخلق فيديوهات الباركور، التي يتم إطلاقها من غزة، إضافة إلى العرض المُصمم لدمار المدينة، تمامًا ذلك الفصل بين الدمار وبين فعل التدمير. تجميل بقايا البيوت المُدمّرة، وكأنها كانت دائمًا جزءًا من طبيعة مدينة غزة منذ الأزل، يُشوّه أساس العنف السياسي الذي يتضمنه فعل التدمير. رُكام الخرائب الباقية منذ سنوات بعد أن هدأت النيران هي نوع من الدكتاتورية؛ بداية من “دكتاتورية الضاحية” التي نتجت عن حرب لبنان الثانية، مرورًا بحروب غزة وأيضًا هدم البيوت غير القانونية في النقب أو الأراضي المُحتلة، التي بقي ركامها مكانه.

لا ينتهي العنف السياسي بهدم البيوت بل يستمر طوال الوقت طالما بقيت الخرائب تنتظر إعادة الإعمار. تجميل الدمار، الأمر الذي يُعبّر عنه من خلال نشاط مجموعة باركور غزة وتغطيتها الإعلامية، يُركز الأنظار على دمار المباني بدل دمار البيوت والعائلات. هكذا تُشوّش المسؤولية الفلسطينية، الإسرائيلية والعالمية قضية الدمار، الذي هو بمثابة مأساة اجتماعية وسياسية مُستمرة دون أجل منظور. أدركوا، في أماكن أُخرى من العالم، أن هدم البيوت هو ليس ظاهرة هندسية بل مصيبة اجتماعية وسياسية والتي تُعرف بالاسم Domicide؛ تدمير حق الناس بالحصول على حياة منزلية من خلال تدمير مساكنهم. تسود في أنحاء العالم عملية “دوميسايد” تؤدي لاقتلاع الناس من بيوتهم وأن يعيشوا حياة نزوح ولجوء. هذا هو التمثيل الحقيقي للبيوت المُدمّرة في غزة.

نُشرت هذه المقالة لأول مرة على موقع Can Think

اقرأوا المزيد: 1053 كلمة
عرض أقل
معبر رفح (Rahim Khatib/Flash90)
معبر رفح (Rahim Khatib/Flash90)

بشائر خير في معبر إيرز

إنّ قرار إسرائيل الأخير حول تمكين الطلاب الغزيين من الخروج من القطاع عن طريق معبر إيرز بدلا من معبر رفح المغلق هو خطوة مرحّب بها، وربما هي إشارة مشجعة لتخفيف الحصار عن غزة

تُظهر الشهادات من الأيام الأخيرة أنّ هناك ضغوط متزايدة داخل قطاع غزة على ضوء تجميد رواتب موظفي حماس وإعادة الإعمار المؤجلة بعد عملية “الجرف الصامد”. تُمسُك إسرائيل بالوضع من خلال صمّامات يمكنها تخفيف هذه الضغوط ومنع اندلاع جولة أخرى من العنف: وهي، بطبيعة الحال، التي تُستخدم اليوم بشكل أساسي في عبور البضائع إلى الداخل والخارج.

المعبر الوحيد الذي لا تتواجد فيه إسرائيل، فعليًّا على الأقل، هو معبر رفح. غاب المعبر الفلسطيني – المصري عن الخطاب الإسرائيلي، بشكل طبيعي، ولكنه مركز مهمّ لفهم ما يحدث في القطاع، وخصوصا بعد العملية المصرية في هدم أنفاق التهريب من غزة، وفي الأشهر الأخيرة، من أجل توسعة الأراضي التي تعزل القطاع عن مصر. يجلس منذ أسابيع طويلة متظاهرون في خيام احتجاج أمام المعبر، يتجمّعون في ميدان الجندي المجهول في مدينة غزة ويرفعون لافتات أمام وزارة الداخلية في المدينة. وقد أقيمت يوم الجمعة الأخير صلاة جمعة بحضور بضع مئات من المشاركين، أمام بوابات المعبر المغلقة، وتم بعدها إلقاء خطابات.

وقد عُرِف يوم السبت الماضي أنّه سيتمّ فتح المعبر في 20 كانون الثاني لثلاثة أيام. ومنذ اللحظة التي أُعلن فيها عن ذلك انتشرت في الشبكات الاجتماعية شروط تقديم طلب للعبور، وتم بعد يومين من ذلك نشر قوائم من تمّت له الموافقة ممّن سيحظون بالعبور في كل واحد من الأيام الثلاثة. تم تقسيم أسمائهم إلى قوائم وفقًا للحاجة (الطبية، الأسرية، الإقامة، التعليم) ووفقا لأرقام الحافلات التي سيركبونها لدى دخولهم إلى المعبر. يهدف التسجيل المسبق والكتالوج المفصّل إلى منع التجمّعات بل والعنف وهو ما ظهر في المرات الماضية التي تم فيها فتح المعبر. وقد أعلن أمس مدير فرع المعابر والحدود في وزارة الداخلية بغزة، ماهر أبو صبحة، أنّ القائمة قد أُغلقت بعد أن تمت الموافقة على عبور 8000 شخص. أما أولئك الذين لم يتمكّنوا من التسجيل هذه المرة فسيعبّرون عن خيبة أملهم الكبيرة في الفيس بوك.

هناك تاريخ طويل من الفتح والإغلاق لمعبر رفح. وقد جرى ذلك في فترات وخصوصا منذ فكّ الارتباط الإسرائيلي عن قطاع غزة في شهر آب عام 2005، فقد تمّ حينها وضع قوات تابعة للسلطة الفلسطينية في المعابر تحت إشراف ممثّلين عن الاتحاد الأوروبي (‏EUBAM Rafah)، وأشرفت إسرائيل على الداخلين والخارجين من غرفة مراقبة في كرم أبو سالم. تمّت إدارة المعبر منذ ذلك الحين وفقا لـ “اتفاق المعابر” بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وبعد اختطاف جلعاد شاليط في شهر حزيران 2006 تمّ تقليص نشاط المعبر بشكل ملحوظ، بحسب طلب إسرائيل، ومع صعود حماس إلى الحكم في القطاع في حزيران 2007 تم تجميد اتفاق المعابر وأُغلق المعبر بشكل تامّ.

فتحت مصر المعبر في فترة حكم حماس لقطاع غزة لفترات متباعدة، لحاجات مثل عبور الطلاب أو الأشخاص الذين هم بحاجة إلى علاج طبّي. أدّت الضغوط في القطاع إلى اختراق الجدار في كانون الثاني عام 2008 بالقرب من المعبر، واجتاز عشرات الآلاف الحدود إلى مصر دون رقابة. بعد أحداث الأسطول التركي في حزيران 2010 أعادت مصر المعبر للنشاط الجزئي، وبعد الانقلاب ضدّ حكم مبارك في مصر تم إيقاف التنسيق بين إسرائيل ومصر بشكل تامّ، وتسارع نشاط المعبر. مع صعود محمد مرسي إلى الحكم في حزيران 2012 تم فتح المعبر بشكل كامل وعاد حجم نشاطه إلى الفترة التي سبقت اختطاف شاليط: نحو 40 ألف شخص في الشهر.

ومن أجل تلبية هذه النطاقات وتنظيم نشاط المعبر أجريَت فيه عمليات تعديل جدّية: فقد تمّ بناء المبنى الذي أقيم عام 1994 من جديد، ليلبّي المعايير الدولية للمعابر الحدودية. تم فيه تركيب أجهزة لقياس المغناطيسية، وماسحات التصوير المقطعي المحوسب للأمتعة، ناقلات للأمتعة والحقائب وتكييف للهواء، وتمّت توسعة صالات الانتظار وبدأت تعمل فيه كافتيريا. تمّ تنفيذ المشروع، الذي قُدّرت تكلفته بنحو مليون ونصف المليون دولار، من قبل مجلس التعاون الخليجي (GCC) وتبرع بدعمه البنك الإسلامي للتنمية (IBD) ومؤسسة الإغاثة الإسلامية (IIRO)، كجزء من مشروع إعادة إعمار غزة بعد عملية “الرصاص المصبوب” (كانون الأول 2008). ولكن، بعد الانقلاب العسكري في مصر في تموز 2013 وسلسلة الهجمات على قوات الجيش والشرطة المصرية في سيناء، تم إغلاق المعبر مجدّدا بأمر من الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، وتم فتحه منذ ذلك الحين لفترات متباعدة فقط. تم إغلاقه في شهر تشرين الأول الماضي بشكل تام تقريبا بعد الهجمة القاتلة على قاعدة عسكريّة في سيناء والتي قُتل فيها 33 جنديّا مصريا. وقد عمل المعبر بالمجموع منذ ذلك الحين لمدى أربعة أيام فقط، وعبر من خلاله عدد قليل من الناس.

على مرّ السنين، أصبح معبر رفح رمزًا للامبالاة العربية تجاه حالة غزة من ناحية، ومقياسا يشير إلى حالة العلاقات بين حركة حماس، السلطة الفلسطينية، مصر وإسرائيل من ناحية أخرى. وتُعتبر قضية الطلاب الذين علِقوا في القطاع، والتي تصدّرت العناوين في الإعلام الفلسطيني والعربي في الأسابيع الماضية، مثالا جيّدا لكيفية تشابك جميع هؤلاء اللاعبين مع بعضهم البعض. أدى إغلاق المعبر إلى عدم قدرة آلاف الطلاب الغزيين الذين يدرسون في جامعات الولايات المتحدة، أوروبا أو الدول العربيّة، على الخروج من غزة في بداية السنة الدراسية الأكاديمية الحالية. فقد بعضهم بسبب ذلك تأشيرات الدخول الخاصة بهم، المنح الدراسية، أو الرسوم الدراسية التي دفعوها، وهناك من أُجبِروا على تعليق دراستهم أو التخلّي عنها تماما.

ودعا العشرات من الطلاب العالقين الرئيس عباس والرئيس السيسي إلى إيجاد حلّ لمشكلتهم، وقالوا إنّ النتيجة ستكون تحوّل الشعب الفلسطيني إلى شعب جاهل. لقد طلبوا حلّا بديلا لمشكلة معبر رفح، واقترحوا، بما يحتاج إلى شجاعة كبيرة ليقال، أن يخرجوا من القطاع عن طريق معبر بيت حانون، وهو معبر إيرز. وقد وقّع على عريضة تطالب باستخدام المعبر الإسرائيلي، وفقا للناطق باسم المجموعة المحتجّة باسم جاد الله، 1500 طالب. وذكر موقع “مسلك” أنّه قد تمّ تقديم طلب رسمي لمنسّق أعمال الحكومة في الأراضي المحتلة. تمّت الموافقة على عبور بعض الطلاب ومنذ شهر كانون الثاني ترك بالفعل عشرات الطلاب القطاع عن طريقه. وفي أعقاب فتح معبر رفح اليوم نشر الطلاب بيانات شكر لكلا الرجلين اللذين تلقّيا الثناء العلني على الخطوة المصرية: الرئيس أبو مازن وخصمه محمد دحلان، واللذين يتمتّعان بالنقاط التي يمنحها لهم إنجاز كهذا في الرأي العام.

ولكن ما يحدث في المعابر لا يعبّر عن السياسة الإقليمية فحسب، وإنما قد يقوم بصياغتها. تحجم إسرائيل عن التدخّل باعتبارات مصر الأمنية في سيناء وبقرار فتح المعبر أو إغلاقه. ولكن لدى إسرائيل التزام أخلاقي إيجابي للسماح بدخول وخروج الناس من القطاع بشكل حرّ بقدر الإمكان، وخصوصا إذا أخذنا بالحسبان الضغوط التي تُصبّ فوقها. ولذلك فإنّ قرار إسرائيل بالسماح للطلاب بالخروج من القطاع عن طريق معبر إيرز هو قرار مرحّب به، وعلينا أن نأمُل بأنّ هذه هي بداية رفع الحصار عن القطاع.

نشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع Can Think.

اقرأوا المزيد: 993 كلمة
عرض أقل
أقباط مصريون يسيرون في طريق الآلام  (JACK GUEZ / AFP)
أقباط مصريون يسيرون في طريق الآلام (JACK GUEZ / AFP)

الربيع العربي يأتي – الفصح قادِم

آلاف الأقباط المصريين، الذين يصلون إلى إسرائيل بمناسبة عيد الفصح، يتحدَّون بأعمالهم المؤسسة الكنسية القبطية والرأي العام في مصر حول التطبيع مع إسرائيل

يُعتبَر الرفع التدريجي للقيود والحدود بين الأقليات في الدول العربية المختلفة إحدى نتائج “الربيع العربي”. والحالة الخاصّة التي تندرج في هذا الإطار هي الحضور المتزايد للحجّاج الأقباط إلى أماكن تقدسّها الكنائس في القدس. قُبَيل عيد الفصح القريب، وكما يحدث في كلّ عام منذ كانون الثاني 2011، بدأ الإعلام المصري يثير تساؤلات حول انسجام الزيارات إلى القُدس مع السياسة العربية حِيال إسرائيل. في هذه المقالة، سأدرس دلالات هذه الحالة الخاصّة.

إنّ عادة الحجّ التي جرت لقرون، بشكلٍ عامّ في فترة عيد الفصح، هي أحد مصادر فخر الكنيسة القبطيّة. إنّ الحجّ القبطيّ – المؤسس على قصّة ذهاب مريم، يوسف، والطفل يسوع إلى مصر هربًا من الملك هيرودس، المسجّلة في الكتاب المقدس – مثّل العلاقة الخاصّة بين الكنيسة في مصر وبين الأراضي المقدّسة المجاوِرة. كواحدة من الطوائف الصغيرة في القُدس، تحتفظ الكنيسة القبطيّة بمِلك متواضع في كنيسة القيامة، يشمل معبد بئر المياه الخاصّ بهيلانة ومعبد الملاك قرب ما يُعرَف بقبر المسيح. أصبح المكانان المذكوران مركزَي زيارة وجدانيَّين بالنسبة للحجّاج على مدى أجيال. لكن بعد حرب الأيام الستة وفَرض السيادة الإسرائيلية على البلدة القديمة في القدس، انقطعت هذه العادة بشكلٍ مطلقٍ تقريبًا، ولم تُستأنَف مذّاك، حتّى بعد التوقيع على معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.

الحجاج الأقباط يصلون إلى القدس عام 2010 (AHMAD GHARABLI / AFP)
الحجاج الأقباط يصلون إلى القدس عام 2010 (AHMAD GHARABLI / AFP)

وفق الموقف الرسمي للكنيسة القبطيّة، فإنّ أتباعها، إلى جانب كونهم “مسيحيّين”، هم أيضًا “عرب” و”مصريّون” وطنيّون، لذا يرفضون زيارة المدينة المقدسة ما دامت واقعة تحت الاحتلال الإسرائيليّ. يمكن أن تُعتبَر هذا الزيارة تطبيعًا (كلمة أصبحت مصطلحًا مركزيًّا في علاقات إسرائيل بالدول العربية)، أي: إقامة علاقات “طبيعيّة” مع دولة إسرائيل والتسليم بوجود كيان ذي سيادة على أراضي فلسطين المحتلّة. وتمّت إجازة هذه المقاربة من قِبل بابا الأقباط الراحل، شنودة الثالث، الذي أفتى عام 1981 بأنّ الحجّ إلى القُدس يجري فقط إلى قُدسٍ محرّرة “يدًا بيد مع إخوتنا المسلمين”. وهكذا اختار شنودة، لأهداف ذات صلة بالسلام الوطنيّ، موقعًا إلى يمين جيرانه المُسلمين في مصر خصوصًا والعالم العربيّ عمومًا، إذ توقّفوا هم أيضًا عن زيارة المسجد الأقصى وقبة الصخرة بعد 1967.

فضلًا عن ادّعاء التضامُن العربيّ، ادّعت الكنيسة القبطيّة أيضًا أنه من غير الممكن زيارة القُدس، ما دامت المنطقة القبطيّة التاريخية في المدينة مسلوبة منها. وتقصد الكنيسة بذلك استيلاء شرطة إسرائيل عشيّة عيد الفصح عام 1970 على الأملاك القبطيّة في مركز “دير السلطان” على سطح كنيسة القيامة، حيث استبدل رجال الشرطة الأقفال في البطريركيّة القبطيّة، ونقلوا المفاتيح إلى جيرانهم – رهبان الكنيسة الإثيوبية. نُظر إلى ذلك العمل، الذي أخلّ بالوضع القائم منذ أجيالٍ عديدة في كنيسة القيامة، كسرقة همجيّة تهدف إلى سلب الطائفة الصغيرة حقّها بسبب انتمائها إلى دولة عدوّ – مصر. وجرى النظر إلى نقل المفاتيح إلى الرهبان الإثيوبيين تحديدًا، على ضوء العلاقات المعقّدة بين الكنيستَين إثر الخلاف القديم العهد على منطقة “دير السلطان”، كعملٍ ساخر كلّ غايته توطيد علاقات إسرائيل الدبلوماسية مع إثيوبيا تحت حُكم هيلا سيلاسي على حساب الكنيسة القبطيّة.

البابا شنودة الثالث (Wikipedia)
البابا شنودة الثالث (Wikipedia)

لم يغيّر اتّفاق السلام مع مصر، فضلًا عن النقاشات المتكررة في المحكمة العُليا الإسرائيلية، هذا الوضع إلى اليوم. عام 2001، وردًّا على دعوة المُفتي المصري الشيخ طنطاوي المسلمين إلى زيارة المسجد الأقصى في القدس، حذّر البابا شنودة أتباعه من أنّ “الأقباط الذين يزورون القُدس يُضعِفون موقف الكنيسة في شأن دير السلطان”. وقد اتّضح أنّ قوة جاذبية القُدس كبيرة تتخطّى جميع الادّعاءات المُقنعة، إذ إنّ حظر الحجّ إلى القُدس هو فتوى غير شعبيّة بين الأقباط، على أقلّ تقدير. واصل القليلون زياراتهم خفيةً، فيما أعلن كثيرون أنهم التزموا بالحظر إكرامًا للبابا الراحل فقط، منتظرين الفرصة لإعادة الزيارات إلى طبيعتها وإلى الوعي المصري.

لم تتأخر الفرصة لتتحقق. فقد جعل حدثان وقعا عام 2012 مجموعة من الأقباط يُحاوِلون استئناف الزيارات إلى القُدس. ففي شهر شباط، أثناء انعقاد مؤتمرٍ في الدوحة، دعا رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، المسلمين والعرب في العالم إلى زيارة أماكنهم المقدّسة في القدس والتعبير عن دعمهم للشعب الفلسطيني. بعد ذلك بشهرٍ واحد، رحل البابا شنودة الثالث، قبل أن يتمكن من استجابة الدعوة. حاوَل نحو ألفَي قبطيّ انتهاز الفرصة وزيارة المدينة المقدسة في فترة عيد الفصح في تلك السنة. كانت النتيجة مخيِّبة. فقد عاد الحجّاج بخفَّي حُنين، إذ أُغلق الدير والحصّة التابعان للأقباط في وجههم، ولم يوافق الرهبان على إجراء قدّاس العيد في حُضورهم. وسارعت البطريركيّة القبطيّة في الإسكندريّة إلى التصريح بأنّ حظر الحجّ باقٍ على حاله بعد وفاة البابا. أثار الأمر ضجيجًا وجدلًا داخليًّا لدى الطائفة القبطيّة في مصر، تحوّلا إلى جزءٍ من الجدَل الفقهي – السياسي لدى سياسيين وفقهاء مسلمين حول دعوة الرئيس عباس المثيرة للجدَل. على أية حال، توقّفت الزيارات.

القدس Abir Sultan/Flash90)
القدس Abir Sultan/Flash90)

بعد بضعة أشهر، لم يتوقّف الضجيج حول المسألة كما يبدو. فالبابا الجديد، تواضروس الثاني، انتُخب في تشرين الثاني 2012، لقيادة الكنيسة القبطيّة في مصر، وسُرعان ما واجه المعضلة. ففي الصحافة المصرية، قيل إنّ هذا كان التساؤل الأول الموجّه إليه من أفراد جماعة الأقباط. من أجل بلورة إجابة مدروسة، اجتمع “المجمع المقدّس” للكنيسة القبطية في مصر برئاسة البابا ليتداول في المسألة مجدّدًا. في النهاية، قرّر المجمع، لخيبة أمل كثيرٍ من الأقباط، إبقاء القديم على قدمه، وعدم إتاحة زيارة القُدس للأشخاص المعنيّين بذلك. وكانت الاعتبارات مبرّرة، إذ إنّ وضع الطائفة القبطيّة في مصر آنذاك كان حسّاسًا إثر تعزيز مكانة الشريعة الإسلامية في الدستور المصري الذي كانت تجري بلورته في ذلك الوقت. لهذا السبب، آثر زعماء الطائفة عدم التسبّب بحساسيّة لا لزوم لها بين الأقباط وجيرانهم المسلمين. وقد قدّم أسقف حلوان في القاهرة، الأنبا بسنتي، بعض العزاء في مُقابلة تلفزيونية إذ قال: “كلّ قبطيّ يحلم بزيارة القُدس، لكنّ مصر هي القُدس الثانية، لأنها البلاد الوحيدة التي زارتها العائلة المقدَّسة وقضت فيها فترةً طويلة”.

لكنّ “القُدس الثانية” أيضًا لم تكن ودّية كثيرًا تجاه الأقلية القُبطيّة في تلك الفترة. فبعد سلسلة من الأحداث الدامية، أُبلغ في مصر أنّ أكثر من مئة ألف قبطي حصلوا على تأشيرات إقامة في دول أجنبيّة في حال جَعَلَ وقوعُ مصر تحت سلطة الإخوان المسلمين حياتَهم لا تُطاق. وقُبَيل عيد الفصح عام 2013، عادت إلى العناوين في مصر مسألة النقاش حول زيارات “المسيحيّين” إلى القُدس، وهذه المرّة مع إضافةٍ هامّة. فقد نقلت صحيفتا اليوم السابع والشرق الأوسط، فضلًا عن موقع الإنترنت المصري الجورنال، أنّ الإعلام الإسرائيلي تحدّث أنّ إسرائيل وعدت بمنح العائلات القبطية التي تصل إليها حقّ الهجرة، شرط امتلاك وثائق تدلّ على اضطهادهم دينيًّا على الأراضي المصرية، واستيفاء بعض الشروط الاقتصاديّة والمهنيّة. اتُّهمت إسرائيل باستغلال الوضع الاجتماعيّ في مصر بشكل تهكميّ لتربح داعمين لها بين الأقليّة القُبطيّة. في تلك الأنباء، أُفيد أنّ رجُلًا يُدعى منصور الصموئيلي، يترأس مكتب محامين يُعنى بطلبات الهجرة إلى إسرائيل، شهد على أنّ 237 قبطيًّا قدّموا طلباتٍ رسميّة للهجرة إلى إسرائيل. مع ذلك، ليست صحّة تلك المعلومات أكيدة، فقد نفتها السفارة المصرية في إسرائيل جملةً وتفصيلًا، كما نقلت قناة العربية التلفزيونية عن مصدر إسرائيلي رسميّ قوله إنّ تلك الأمور لا أساس لها من الصحّة. يبدو أنّ ذلك “السبق الصحفي” هدف إلى تلطيخ سُمعة الذين زاروا القُدس في ذلك العام رغم الحظر والتهديد، ومنع آخَرين من الاحتذاء بهم.

احتفال الفصح في الكنيسة القبطية (CRIS BOURONCLE / AFP)
احتفال الفصح في الكنيسة القبطية (CRIS BOURONCLE / AFP)

لكنّ الجهود لم تُجدِ نفعًا. ففي شباط من هذا العام، نُشر أنّ نحو عشرة آلاف قُبطيّ زاروا القُدس عام 2013. ففي مصر، يعمل نحو 20 شركة سفر في تنظيم رحلات للحجّاج الأقباط لمدّة أسبوع إلى القُدس في فترة عيد الفصح. وتعمل تلك الشركات بشكلٍ مشابه للشركات التي تسوّق رحلات الحجّ الشهيرة في العالم العربي، حتّى إنّها تصوّر السفر على أنه موازٍ من الناحية الدينية للحجّ الإسلاميّ. يتراوح سعر رحلة كهذه بين تسعة آلاف وعشرة آلاف جنيه مصري (4000 – 5000 شاقل جديد إسرائيلي)، وهي مشروطة بالتأشيرة الإسرائيلية طبعًا، التي تُعطى للنساء والأطفال وللرجال المولودين بعد عام 1970. قُبَيل عيد الفصح عام 2014، كتب الصحافي مجدي نجيب وهبة في موقع الإنترنت الذي يديره، “صوت الأقباط المصريّين”، مقالة استثنائيّة في لهجتها حول المنع الكنسيّ لزيارة القُدس. وجّه وهبة نقدًا للبابا شنودة ولخلَفه على ذلك، متهمًا إيّاهما بالانجرار إلى النقاش السياسيّ العربيّ ضدّ إسرائيل، حيث شكّلا ألعوبة في يد القوى المُعادية لمصر أيضًا. وهنا تساءل بتهكُّم إن كان الأمل بتحرير القُدس يشمل أيضًا الأمل أن تُتاح للأقباط زيارة أماكنهم المقدّسة في ظلّ الصراعات بين فتح وحماس، أو في أسوأ الأحوال، تحت سلطة حركة حماس. وشدّد على أهمية السلام مع إسرائيل، مقتبسًا من كلمات المسيح، ومنتقدًا بشكلٍ غير مباشر الكنيسة على عملها بخلاف ذلك. ولم يُخفِ وهبة في مقالته دعوَته إلى تحدّي الكنيسة وزيارة القُدس.

تشهد هذه الكلمات، التي تتحدّى المؤسسة الكنسيّة القبطية من جهة وقاعدة النقاش السياسيّ المصري من جهة أخرى، على تطوّر في السلوك السياسيّ والاجتماعيّ للأقباط في مصر. فصحيح أنّ النقاش حول الحجّ القبطيّ يدور على هامش الأحداث التاريخيّة التي تعيشها مصر، لكن لهذا السبب تحديدًا يمكن أن يتيح ذلك نظرةً إلى تعقيد تلك الأحداث. ففيما يبدو أنّ المجتمَع المصريّ يعيش عملية تسييس متسارِعة، يُعلِن الأقباط أنّ زيارة القُدس شأنٌ دينيّ محض، ليست له أية معانٍ سياسيّة. وفيما يبدو أنّ الشارع المصري يتطرّف في نظرته إلى قضيّة التطبيع مع إسرائيل، يجد عدد أكبر وأكبر من “المسيحيين” والمسلمين أنفسهم يدوسون أراضيها أو يتعاونون معها، علانيةَ أو خفيةً.

نُشر المقال على موقع‏‎ Can Think‏،  المختص بشؤون الشرق الأوسط. نشير إلى أنّ موقع‎ “Can Think” ‎هو مشروع مستقل، لا يمتّ بصلة إلى أية جهة سياسية أو اقتصادية، ويعمل بموجب نموذج اشتراكي. الكُتاب والعاملون في الصحيفة هم أكاديميون، يقدمون تحليلات موضوعية من منظور بحثي‎.‎‏

اقرأوا المزيد: 1410 كلمة
عرض أقل
الأمين العام للامم المتحدة بان كي مون يزور روابي (Flash90/Issam Rimawi)
الأمين العام للامم المتحدة بان كي مون يزور روابي (Flash90/Issam Rimawi)

هوية مدنية فلسطينية جديدة في روابي

تعتبر المدينة الفلسطينية الجديدة قرب رام الله، روابي، في نظر المبادرين إليها، فرصة ذهبية لنقل التاريخ المدني الفلسطيني إلى مسار جديد، في الطريق إلى الدولة المستقبلية

في نهاية الأسبوع الماضي، تقرّر أن يكون اسم الميدان الذي سيستقبل القادمين من أبواب المدينة الفلسطينية الجديدة على اسم المدينة نفسها: ميدان “روابي”. وكان مئة ألف من زوار صفحة المشروع في موقع الفيس بوك هم من اتخذوا قرار هذه التسمية واستبعدوا التسميات الأخرى التي كانت مقترحة مثل: “الزيتونة” و”الكروم”، وهم محتلنون أسبوعيًا بتقدم عملية البناء. هذا التصويت، الأول بين ثلاث عمليات تصويت، وهو جزء من البناء التسويقي المتقن الذي يجعله أكثر بريقًا من مجرد مشروع هندسي، وذلك من خلال الموقع الإلكتروني على شبكة الإنترنت، وصفحة فيس بوك ومجموعة متنوعة من التغطيات الإعلامية. من المفترض أن تكون روابي، كما يقول شعارها، مكانًا لـ “السكن، العمل والحياة”، طريقة جديدة للعيش نحو الدولة الفلسطينية المستقبلية. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ هناك وظيفة مهمة لاختيار الأسماء التي تكسب المدينة أهمية في تحديد طبيعتها المستقبلية.

إضافة إلى الجوانب الديموغرافية والسياسية، علينا أن نفهم بناء المدينة الجديدة على خلفية التاريخ العمراني الفلسطيني منذ 1948. لقد فرقت الحرب شريحة النخبة المدنية الفلسطينية، بما في ذلك القدس، يافا، حيفا، الرملة وطبريا. وفي إسرائيل، تحوَلت الأقليات العربية من السكان الذين بقوا في المدن أو نقلوا إليها كلاجئين، إلى أقلية ذات مستوى متواضع. وبالإضافة إلى ذلك، لم تجذب المدن اليهودية بعد عام 1948 إليها العرب القرويين، مما أدى إلى دخول الخدمات المدنية إلى داخل القرى وإلى زيادة هائلة في عدد سكانها. وقد اعتبرت دولة إسرائيل مع الوقت بعض هذه القرى مدنًا، رغم أنها كانت تفتقد أي طابع اجتماعي أو اقتصادي مدني. هكذا تكونت القرى العربية داخل إسرائيل بشكلها الحالي بحيث تكون نوعًا من القرية المدنية أو المدينة القروية.

إحدى المزاعم المنتشرة ضد سياسة الحكومة الإسرائيلية تجاه السكان العرب هي أنها تعتمد اتجاها واضحًا لـ “عدم التمدن”، أو منع عملية التمدين “الطبيعي” الذي يطبق على سكان الدولة اليهود. وكذلك الأمر في مناطق الضفة الغربية بعد عام 1948 كانت هناك عقبتان في طريق تطور البيئة والمجتمع المدني. كانت العقبة الأولى هي شريحة اللاجئين الكبيرة التي اعتمدت تدريجيًا على المدن الكبرى. أما العقبة الثانية فكانت سياسة الإهمال المتعمد من جانب الحكومة الهاشمية، التي سيطرت على الضفة الغربية بين عامي 1948 و 1967، والتي كانت تهدف إلى إضعاف مدن الضفة وتقوية مدن شرقي الأردن. وهكذا، منذ عام 1948، وقفت الصعوبات والعراقيل أمام عمليات التمدن والتنمية الحضرية الفلسطينية، سواء في إسرائيل أو في الضفة الغربية.

اعمال البناء للبنية التحتية في روابي (Flash90/Issam Rimawi)
اعمال البناء للبنية التحتية في روابي (Flash90/Issam Rimawi)

وقد تبلور هذا الفهم في السنوات الأخيرة، وعلى أساسه تنمو في الخطاب الفلسطيني الرؤية في تغيير رواية اللجوء التي تطالب بالعودة إلى الديار في القرية، وإلى شجرة الليمون في البستان. لقد أدت التجربة “القروية” الحالية ومحاولة إضفاء الرومانسية على الماضي الفلسطيني، كما يقال، إلى بناء ذاكرة يكون بحسبها المجتمع الفلسطيني مجتمعًا قرويًا فقط، حيث تم في الواقع نسيان الحياة المدنية أو تناسيها.

يمكننا أن نفهم مشروع المدينة الجديدة روابي كجزء من محاولة فتح صفحة جديدة في التاريخ المدني الفلسطيني. وبذكاء كبير اختار المبادر إلى المشروع، رجل الأعمال الفلسطيني بشار المصري، ألا يحاول إعادة يافا العربية، أو استنساخ رام الله أو بناء مانهاتن الفلسطينية. وبصفتها مدينة مخطط لها مسبقًا من الألف إلى الياء، فقد استمدّ المصري الإلهام من مدينة موديعين الإسرائيلية، واختار تأسيس مدينة سكنية لأبناء الطبقة الوسطى الحالية، وهي جيل من العائلات الفلسطينية الشابة التي ترى مستقبل أولادها في دولة فلسطينية حديثة.

ومن خلال فهمه بأنّ الأسماء والمصطلحات لا تستمدّ من الواقع فحسب بل تشكل هذا الواقع، سعى المصري إلى أن يضفي على المدينة طابعًا يتمثّل بتسمية أجزاء المدينة. لقد تعلم الفلسطينيون جيدًا من جيرانهم اليهود بأن عملية التسمية هي عمل سياسي بحد ذاته، ولذلك فمن الواجب أن يتم استثمار الفكر فيها.

اختار المصري تحديد مسار خاص. ومن خلال اختيار الاسم النهائي “روابي” (وتعني التلال) استبعد أسماء أخرى مثل “مدينة عرفات” أو “مدينة الجهاد”، وربط بين المدينة كرمز للبنية الجديدة، وبين التضاريس التي تشكل المنطقة. وتمت كذلك تسمية أحياء المدينة بأسماء فريدة، وربما غريبة بعض الشيء، والتي أخذت من لغات سامية قديمة: “مكتمة”، “صوان”، “إكشاف”، “ترصة”. إن اختيار اللغات غير المتداولة – وتحديدًا الأكادية والآرامية – يهدف إلى الرمز للعلاقة بين المدينة والماضي الفلسطيني “الكنعاني”. ويهدف الادعاء الفلسطيني الذي يقول إن أصول الفلسطينيين تعود للكنعانيين إلى دحض الادعاء اليهودي الذي يدعي عن وجود علاقة تاريخية مع أبناء يعقوب (إسرائيل) الذين سكنوا المنطقة، وللتأكيد على أقدمية الفلسطينيين. ويمثّل هذا الادعاء صيغة هجومية، وذلك على ضوء الموقع الجغرافي لمدينة روابي المجاور للمستوطنات: حلميش (نافي تسوف)، عطيرت، عفرة وبيت إيل.

مبعوث الرباعية، توني بلير، خلال زيارته لمدينة روابي (Flash90/Issam Rimawi)
مبعوث الرباعية، توني بلير، خلال زيارته لمدينة روابي (Flash90/Issam Rimawi)

وأطلق على أحياء أخرى في مدينة روابي أسماء “وروار”؛ وهو اسم عربي لطائر محلي، و”دليم”؛ وهو اسم قبيلة عربية مهمة في سوريا والعراق. وتم إعطاء النماذج المختلفة من المباني في مدينة روابي أسماء عربية مثل “مرمر”، “بلور”، “زان” أو “وتر”. وتؤكد الأسماء العربية التي اختيرت ذلك الاتجاه لربط المدينة بالطبيعة التي تحيط بها وللخصائص العربية الأصولية، مع تجنب وجود صلة مباشرة مع رموز الصراع الفلسطيني من العهد السابق. ويبدو على الأقل حتى الآن أن هذه الأسماء مفضلة على ميدان أو شارع “الشهداء” الشائع في مدن أخرى، وعلى الإشارة إلى أحداث وشخصيات من التاريخ الفلسطيني المعاصر.

ومن المقرر حتى نهاية السنة أن تسكن الـ 600 عائلة الأولى في أحياء “الصوان” و”مكتمة” في روابي. وستكون هذه فرصة مهمة لرفع التاريخ المدني الفلسطيني إلى مسار جديد، في الطريق إلى الدولة المستقبلية. ويعتقد بناة مدينة روابي بأنه من أجل حدوث ذلك يجب قطع الصلة بين تجربة السكن في المدينة الجديدة وبين المدن الفلسطينية التقليدية وبينها وبين عالم مصطلحات الصراع المشحون. وستخبرنا الأيام إن كانت المصطلحات “الرقيقة” التي عرفت بها أجزاء المدينة المختلفة ستساعد في إيجاد هوية فلسطينية جديدة.

نشر المقال على موقع Can Think،  والمختص في شؤون الشرق الأوسط. ونضيف أن الموقع “Can Think” هو مشروع مستقل، لا يمت بصلة إلى أي جهة سياسية أو اقتصادية، ويعمل بموجب نموذج اشتراكي. الكُتاب والعاملون في الصحيفة هم أكاديميون، يقدمون تحليلات موضوعية من منظور بحثي.

اقرأوا المزيد: 885 كلمة
عرض أقل
ماراثون القاهرة (AFP)
ماراثون القاهرة (AFP)

هنا يركضون بسعادة: روح حضرية جديدة في القاهرة

مبادرة "عدائي القاهرة" ترمز إلى الروح الحضرية الجديدة التي تهب في العاصمة المصرية وتحقق قيم الثورة المصرية بصورة فعلية.

تحتفل مجموعة تضم الآلاف من الشباب في القاهرة، في الشهر القادم، بالذكرى السنوية الأولى لإقامة منظمة اجتماعية غير مألوفة في المشهد الحضري المصري. وتحوّل الأمر الذي بدأ كمبادرة فردية غير جادة لبعض الهواة، بسرعة إلى جسم تطوعي بارز يضم العشرات من الأعضاء الذين يستطيعون تحفيز الآلاف للخروج من منازلهم إلى شوارع القاهرة.

وتلقى المبادرة دعمًا ومساندة واهتمامًا ملحوظًا في أوساط المجتمع المصري ووسائل الإعلام المصرية. أطلقت هذه المجموعة على نفسها اسم “عدائي القاهرة” (Cairo Runners). والتقى أعضاء هذه المبادرة الشبابية، في العام الماضي، كل يوم جمعة من أيام الأسبوع صباحًا من أجل الجري معًا في شوارع المدينة. ولا تهدف هذه المجموعة إلى المحافظة على أجسام رياضية فحسب، بل إن الإقبال على هذه المبادرة الشبابية هو أساسًا نتيجة لتوجه جديد يهدف إلى حياة حضرية مختلفة، يسعى إليها شباب القاهرة.

بادر إبراهيم صفوت إلى القيام بلقاءات الركض في شوارع القاهرة، واستوحى فكرته من فكرة مشابهة في باريس. وكان يهدف صفوت ومجموعة من الأصدقاء عملت معه إلى النجاح في جذب العشرات من الأشخاص من أجل المشاركة في الركض لمسافة 22 كيلومترًا، أي تنظيم نصف ماراثون في شوارع القاهرة. ولكن بعد تنظيم مبادرة الجري الأولى، والتي تم تنظيمها في حي الزمالك وهو أحد الأحياء الراقية في القاهرة، في شهر كانون أول من العام 2012، تغلغلت هذه المبادرة إلى جميع شوارع وأحياء القاهرة.

تعرف عشرات الآلاف من الأشخاص على مبادرة “عدائي القاهرة” من خلال صفحات التواصل الاجتماعي وأصبح عدد المشاركين يزداد تدريجيًا، من عشرات إلى مئات. والفكرة بسيطة للغاية: يبادر المنظمون، قبل أسبوع من كل لقاء، إلى نشر خارطة تبين المسار الذي سيسلكه المشاركون بالإضافة إلى التعليمات الخاصة ومعلومات عامة حول أسلوب الحياة الرياضي. تتم إقامة مواقع لشرب الماء، خلال اللقاءات، ويتم أيضًا تحديد المصادر بواسطة لافتات ومتطوعين يقومون بتوجيه المشاركين في المفارق والمحاور. وساهمت الأجواء الجيدة خلال اللقاءات، على مدار عدة أشهر، في ازدياد عدد المشاركين. فشارك في شهر أيار من العام الجاري وفي نصف الماراثون الذي تم تنظيمه، حوالي 2000 عداء في هذا السباق برعاية فرع “نايك” في مصر وشركة “كوكا كولا”.

لكن لا تنتهي ولا تتوقف هذه المبادرة عند هذا الحد، فقد استغل القائمون على هذه المبادرة التغطية والاهتمام اللذين حصلوا عليهما من أجل محاولة التأثير على الشباب ومحاربة ظواهر مرفوضة. وهنالك ظاهرتان مزعجتان تحديدًا، الأولى، التحرش الجنسي حيث تم نشر شعارات مناهضة لهذه الظاهرة.

يُشار إلى أن ظاهرة التحرش الجنسي المنتشرة في شوارع القاهرة منذ تراجع تواجد العناصر الشرطية منذ شهر كانون الثاني عام 2011، قد تحوّلت إلى إحدى الظواهر التي تساهم في تقييد حرية تحرك المرأة. وكانت هناك مشاركة واضحة وظاهرة للنساء في تدريبات الركض ضمن هذه المبادرة، بعضهن يلبسن الحجاب والبعض الآخر دونه.

ويحرص القائمون على هذه المبادرة على تأكيد رفض ظاهرة التحرش الجنسي وتعهدوا بالمساعدة في تقديم شكاوى للشرطة ضد كل من يشتبه بقيامه بالتحرش الجنسي خلال التدريبات. يحرص المبادرون، إضافة إلى ذلك، إلى هذه الفعالية التأكيد على أهمية المحافظة على نظافة المدينة. وأطلق هؤلاء العديد من الشعارات التي ترفض إلقاء النفايات، وشددوا على أهمية محافظة كل شخص على النظافة وعدم إلقاء القمامة على الأرض والتخلص من هذه العادة السيئة. وأنه يتوجب على كل شخص أن يبدأ بنفسه وأن يحرص على عدم إلقاء أي شيء على الأرض وهذا سيساهم في تغيير مهم في محيطه.

ويضطر القائمون والمشاركون في مبادرة “عدائي القاهرة” إلى التعامل مع تحديات كان يمكن أن تتسبب في إبقاء الكثيرين منا في منازلهم. فالظروف والشروط التي من الواجب توفرها لإقامة لقاءات جري وركض في مدينة مثل القاهرة، وبشكل خاص خلال العام الأخير، لم تكن متوفرة وقائمة. ويدرك كل شخص قام بزيارة القاهرة في الفترة الأخيرة تمامًا، أن شوارع القاهرة ليست مكانًا مناسبًا للمشاة وسائقي الدراجات الهوائية. وتعتبر مثل هذه النشاطات نادرة جدًا في شوارع القاهرة المزدحمة. كما ويسيطر الغبار والتلوث على الأجواء في القاهرة ويصعبّان مهمة القيام بأي نشاط رياضي في الشوارع. كما أن الأرصفة ضيقة في أغلب الأماكن، وهي غير موجودة في بعض الأماكن، كما أن ممرات المشاة غير موجودة بشكل كاف وحق الأولوية للمركبات دائمًا .

وتنطلق لقاءات الجري التي تتم دون الاستعانة بالشرطة لإغلاق الطرق، في ساعات الصباح الأولى، من أجل الامتناع قدر المستطاع عن الالتقاء بالحركة النشطة للسيارات والمركبات. ويحرص المشاركون في الجري غالبًا، على ارتداء سترة عاكسة وعلى الركض ضمن مجموعات حتى يكون بالإمكان ملاحظة تواجدهم على الشارع.

بادر المنظمون في النصف الأول من العام الجاري وبسبب التظاهرات التي كانت تتم في المدينة، إلى إقامة لقاءات الركض في مناطق بعيدة عن وسط المدينة حتى يكون بإمكانهم القيام بنشاطهم بشكل آمن. وقام المنظمون، في شهر رمضان، بوضع حلول خلاقة بالنسبة للصائمين، حيث كان يتم تنظيم النشاطات الرياضية قبل ساعة واحدة من موعد الإفطار.

اندلعت في المدينة أحداث عنيفة، بعد انتهاء شهر الصيام، ترافقت مع إقصاء الرئيس مرسي. حيث اضطرت مبادرة “عدائي القاهرة” إلى تجميد نشاطها لمدة شهرين. وتم الحرص خلال تلك الفترة على مواصلة نشر المعلومات حول أسلوب الحياة الصحي والتغذية وذلك باستخدام شبكات التواصل الاجتماعي. واجه المنظمون بعد عودتهم إلى ممارسة نشاطاتهم، وذلك في شهر أيلول من العام الجاري، أجواءً مليئة بالتوتر في المدينة وبادروا إلى نشر شعارات تقول: “نحن عداؤو القاهرة نؤمن بالاحترام المتبادل تجاه التوجهات والمواقف السياسية المختلفة”، ولا نرغب في رؤية أي إشارات سياسية أو أي شعارات تتحدث عن دعم المجلس العسكري أو جماعة الإخوان المسلمين.

وطالب المنظمون كل من يرغب بالمشاركة في النشاطات التي ينظمها “عداؤو القاهرة” بعدم إحضار أي إشارات تدل على توجهات سياسية. وأن أي شخص لا يلتزم بذلك لن يكون مرحبًا به. ورغم حالة التوتر التي تجتاح المدينة في الأشهر الأخيرة، إلا أن رسالة المنظمين قد تم استيعابها. وتؤكد مشاركة المئات في إعادة انطلاق هذه الفعاليات والنشاطات، أن العديد من الأشخاص يرغبون في ترك السياسة وراءهم والاستمتاع بساعات من النشاطات الاجتماعية والمرح.

ماراثون القاهرة 2002 (AFP)
ماراثون القاهرة 2002 (AFP)

هذه المبادرة ليست الوحيدة، وعلينا أن نستوعب ظاهرة “عدائي القاهرة” في إطار التغيير الذي طرأ على سكان القاهرة، وعلى رأسهم الشباب، منذ ثورة شهر كانون الثاني من العام 2011. وأثار التواجد الحاشد في ميادين القاهرة وشوارعها خلال العامين الأخيرين تساؤلات حول من يمتلك الشوارع والميادين العامة وما هو النشاط الذي يجب أن يقام في تلك الأماكن.

ومنذ إقصاء مبارك وإلغاء قانون الطوارئ الذي حكم نظام مبارك بواسطته، وفي أعقاب تراجع التواجد الشرطي في الشوارع والفوضى السائدة في المدينة، أصبحت هناك حالة من الفراغ الذي امتلئ بأساليب وأشكال مختلفة. بالإضافة إلى الظواهر السلبية كالسيطرة على الساحات والأماكن العامة من جانب الباعة المتجولين والمباني غير القانونية، فقد كان هناك من يحاول أن يعزز الواقع الحضري في المدينة.

هذا المصطلح، الذي وضعه الفيلسوف وعالم الاجتماع هنري لا فبر في نهاية سنوات الـ 60، تمت ترجمته، وبات يُعرف في العالم العربي بـ “الحق في المدينة” إلى جانب “الفراغ العام أو المجال العام”. وبات هذا المصطلح في بؤرة النقاش في المنتديات وحلقات النقاش المختلفة: الأكاديمية وغير الأكاديمية للتخطيط، التصميم والهندسة في القاهرة. وكان حق سكان المدينة في الدستور المصري الجديد من بين الأمور التي تمت مناقشتها في تلك المنتديات. وهي التي ساهمت في خلق حالة من المعرفة والاهتمام بالمشروع الحكومي الذي يطلق عليه اسم “القاهرة 2050”. والذي سيتم العمل في إطاره على إزالة أحياء سكنية تاريخية في المدينة لصالح شق طرق واسعة في القسم الغربي من المدينة. كما تناقش تلك المنتديات وبشكل دائم موضوع توفير السكن للمواطنين الذين يقيمون في مناطق الفقر.

إلى جانب هذه النشاطات، يسلط العديد من مواقع الإنترنت الرائدة في مصر الضوء على نقاشات حول مستقبل المدينة ومكان السكان في الخطط التطويرية القادمة. وتقوم بعض المدوّنات مثل مدونة تضامن، Cairo Observer أو Cairo From Below، بنشر مواقف وأراء حول تطوير المدينة وتحاول الترويج لمبادرات وتصميمات شبابية لمشاريع مقترحة في المدينة، كإغلاق الشوارع أمام السيارات، وعمليات البناء الخضراء، وإقامة الحدائق في المدن وتشجيع استخدام الدراجات الهوائية. تشكّل جميع هذه الاقتراحات جزءًا من الأفكار التي يتم اقتراحها من أجل مستقبل القاهرة.

ولكن هل نحن على وشك أن نشهد حالة من التغيير الحضري؟ من الصعب علينا الإجابة على هذا السؤال. خاصة وأن مصر تواجه صعوبات كبيرة في هذه الأيام، والقاهرة تحتاج إلى وقت طويل قبل أن تتحول إلى أمستردام. لكن من المؤكد أن المصممين والمهندسين والمخططين الشباب سيكون لهم دور مهم في تخطيط شكل القاهرة في المستقبل. كما أن ثمة ظاهرة ملفتة وهي رغبة الشباب في القاهرة بالتعرف بصورة أكبر على تاريخ المدينة، ولهذا السبب يتم تنظيم العديد من الجولات داخل المدينة. هذه المجموعات لا تتجول وتتعرف على الأماكن التاريخية في المدينة الإسلامية القديمة فحسب، بل تتعرف أيضًا على المشاكل التي تواجهها مناطق مختلفة من القاهرة، كمنطقة منشية ناصر في شرق المدينة من جهة والأحياء الغنية وأسلوب الحياة المتطور في بعض مناطق المدينة.

تعمل مجموعة “عداؤو القاهرة” على أساس هذه الروح الجديدة المنبعثة في أوساط الشباب في القاهرة، من النساء والرجال، الذين يرغبون في استغلال الأجواء والمساحات في المدينة من أجل احتياجاتهم ورغباتهم، وحقهم في المدينة. ويحاول المنظمون لهذه المبادرة تعريف المشاركين على أحياء المدينة، وكذلك زرع روح التفاؤل في أوساط المشاركين. وفي ظل عدم وجود متنزهات رئيسية في وسط المدينة (باستثناء كورنيش النيل) فإن ممارسة رياضة الجري في شوارع المدينة تعتبر وسيلة للتأكيد على حقوق المشاة في استخدام الشوارع بشكل آمن. وتشكّل المشاركة الواسعة للنساء في تلك النشاطات حماية من التحرشات الجنسية تجاه النساء اللواتي يلبسن ألبسة رياضية، ومحاولة للتأكيد على ضرورة الاحترام المتبادل.

وترمز مبادرة “عدائي القاهرة” إلى الروح الحضرية الجديدة التي تهب في العاصمة المصرية وتحقق قيم الثورة المصرية بصورة فعلية. ففي الوقت الذي تصعّب فيه الصراعات السياسية مهمة توقع من سيقود مصر في السنوات القادمة، يحاول بعض النشطاء من سكان المدينة ومن وراء الكواليس انتزاع حقوقهم الاجتماعية ومحاولة التأسيس لبيئة حضرية يومية بصورة أفضل.

 

نشر المقال على موقع Can Think،  والمختص في شؤون الشرق الأوسط. ونضيف أن الموقع “Can Think” هو مشروع مستقل، لا يمت بصلة إلى أي جهة سياسية أو اقتصادية، ويعمل بموجب نموذج اشتراكي. الكُتاب والعاملون في الصحيفة هم أكاديميون، يقدمون تحليلات موضوعية من منظور بحثي. 

اقرأوا المزيد: 1506 كلمة
عرض أقل