درور زئيفي

هو مؤرخ اجتماعي وحضاري للشرق الأوسط. من مؤسسي موقع الإنترنت بالعبرية "يمكن التفكير" (Can Think)، الذي ينشر مقالات صحفية حول الشرق الأوسط.
الإرهاب في تركيا (AFP)
الإرهاب في تركيا (AFP)

الإرهاب في تركيا: دليل الحائرين

هناك عدة تنظيمات إرهابية ناشطة في تركيا، ذات أهداف مختلفة، أساس دعم مختلف، وطرق عمل خاصة. طالما تواصل الحكومة التركية عرض جميعها كجبهة إرهابية واحدة، ستفشل في مكافحة الإرهاب

بات الوضع في تركيا مربكا. بعد كل عملية إرهابية يبدأ المحللون فورا في طرح التساؤلات- الأكراد؟ داعش؟ وربما تنظيم فتح الله غولن، الذي حظي سابقا باختصارات خاصة به في تركيا ‎ FETO (Fethullah’s Terror Organization). هناك حتى حركة سرية ماركسية صغيرة تعمل ميدانيا. يُنشئ النشاط الموازي لكل هذه التنظيمات الإرهابية سلسلة من العمليات الإرهابية المقلقة تقوّض الاستقرار في تركيا.

يبدو الأمر معقّدا، ولكنه في الواقع بسيطا جدا. لدى كل واحد من هذه التنظيمات أجندة واضحة وتتفاوت فيما بينها. إن تحديد الأهداف وطرق العمل سيمكننا من فصل هذه الخيوط المتشابكة.

نبدأ تحديدا بالتنظيم الأخير، الأصغر والأقل أهمية. وهو الحركة السرية المعروفة باسم DHKP-C (اختصار بالتركية لـ “حزب التحرر الشعبي الثوري – جبهة”) هو بقايا راديكالية لحزب اليسار الثوري التركي المعروف بـ (DEV-SOL). عملياتها الإرهابية موجهة بشكل أساسيّ ضدّ الشرطة وأجهزة القانون التركية، وكذلك ضدّ أهداف أمريكية. ففي السنوات الأخيرة حاولت، من بين أمور أخرى، ضرب السفارة الأمريكية في أنقرة والقنصلية في إسطنبول. وكما هو حال الكثير من التنظيمات الإرهابية الماركسية العريقة بات التنظيم ينفّذ العمليات لكل من يدفع ثمنا أعلى.

عملية إرهابية في ملهى رينا في إسطنبول (AFP)
عملية إرهابية في ملهى رينا في إسطنبول (AFP)

FETO، تنظيم غولن، هو ليس تنظيما إرهابيا أبدا. يدعي الكثيرون في تركيا وخارجها أن رجل الدين التركي المقيم في الولايات المتحدة بنى منظومة مؤيدين من أجل السيطرة على تركيا. ربما يكون ذلك صحيحا. تسلل أعضاء التنظيم – الذي يسمي نفسه Hizmet (الخدمة بالتركية) – من خلال عمل بطيء وشمولي إلى مناصب رئيسية في الدولة من بينها الشرطة، منظومة القضاء وحتى في الجهاز الحكومي الرفيع، ولكن في بداية عام 2014 بدأ دفعهم خارجا وسُجن الكثير منهم، بعد أن انهارت إجراءات الكشف عن الفساد الكبير في القيادة ومحاولة إسقاط الحكومة.

شارك ضباط تم تعريفهم كأعضاء في تنظيم غولن في محاولة الانقلاب في تموز، ولكن وفقا لكل الشهادات فالحديث يدور عن حزب واحد فقط إلى جانب بعض المجموعات الساخطة في الجيش، وربما تعمل أيضا دون موافقة القائد. حتى اليوم لا تعرف ولا حادثة واحدة فيها إثبات مقنع حول مسؤولية التنظيم عن العمليات الإرهابية الواضحة. رغم ذلك، ادعت السلطات في تركيا أنّ قاتل السفير الروسي عضو في FETO، ولكن اعتمد الدليل على أدلة غير مثبتة لذلك لم يقتنع به أحدا. من المرجح أن أردوغان سيستمر في اتهام صديقه السابق في كل حادثة إرهابية لم يتم فك رموزها.

فتح الله غولن (AFP)
فتح الله غولن (AFP)

الأكراد، المجموعة الثالثة في القائمة، هم ليسوا مجموعة متجانسة حتى عندما يتعلق الأمر بعمليات إرهابية. عدّل تنظيم الـ PKK (حزب العمّال الكردستانيّ)، الذي بدأ طريقه كحركة سرية ماركسية، عن أيديولوجيّته نوعا ما مع مر السنين، ولكن لا يزال يشكّل تهديدا كبيرا على السيادة التركية في شرق الأناضول. بعد انهيار العملية السياسية قبل نحو عام ونصف بدأت حرب داخلية شاملة بين الجيش والشرطة التركية وبين قوات كردية تعمل بشكل سري. إلى جانب القتال المباشر ضدّ الجيش التركي (والذي أضر كثيرا بالكثير من المدن والقرى الكردية في شرق البلاد) يمتلك هذا التنظيم أيضًا ذراعا للعمليات الإرهابية، والذي يعمل بشكل أساسي ضدّ القوى الأمنية في شرق الأناضول.

عام 2004 بدأت تعمل حركة سرية كردية جديدة تحت اسم TAK (اختصار صقور حرية كردستان)، والتي انشقت عن الـ PKK على خلفية استعداد الحركة القديمة بالتوصل إلى تسوية سياسية مع تركيا. هناك من يدعي أنّ هذا التنظيم ليس سوى تغطية لعمليات مثيرة للجدل لـ PKK، ولكن الأرجح أنّه فرع متطرف للحركة السرية. في السنوات الأخيرة، تنفذ حركة “الصقور” معظم العمليات الإرهابية في تركيا. أهدافها الإرهابية بشكل أساسيّ هي عناصر الجيش والشرطة، وتشكل السيارات المفخخة التي قتلت عناصر شرطة قرب إستاد باشيكتاش والجنود في الشاحنة في مدينة قيصرية في الأسابيع الماضية أمثلة واضحة على ذلك. إلى جانب هذه الأهداف تشمل أهداف هذه الحركة السرية أيضًا مكاتب الحكومة والإدارات المحلية، بشكل أساسيّ في الشرق، وكل المتعاونين مع الحكومة التركية في أوساط القرويين الأكراد.

https://www.youtube.com/watch?v=NtAbUuFLL9E

المجموعة الرابعة، داعش، وهي ليست انتقائية في أهدافها، كما نعلم جيدا، ولكنها تبذل تفكيرا استراتيجيا في اختيار أهدافها أيضا. ففي السنوات الأخيرة نفذت كل عملياتها تقريبا ضدّ مدنيين. أهداف التنظيم هي أولا زيادة التوتر بين الحكومة التركية وبين الأكراد. كانت تهدف العملية في المدينة الحدودية الريحانية وسلسلة العمليات في مدينة ديار بكر إلى الإضرار بالأكراد وزيادة عدم الثقة بينهم وبين الحكومة. هكذا تكون مكاسب داعش مزدوجة- إضعاف الجبهة الكردية ضدّها، وتوجيه الجهود التركية إلى نحو التعامل مع التمرّد الكردي. على المدى القريب المأساوي ساعدت الحكومة التركية داعش في المراحل الأولى، وتجاهلت عملياتها سامحة لها بالتموضع في تركيا. بل هناك من يدعي أنّها استخدمتها لتنفيذ عمليات معينة ضدّ خصوم داخليين. في 2015 فقط، تحت ضغوط غربية، غيرت الحكومة سياستها وبدأت بمكافحتها.

إلى جانب هدف الإضرار بالعلاقات الكردية التركية الواضح، يسعى عناصر داعش إلى الانتقام من الحكومة التركية التي أصبحت عدوّا والإضرار بالأمن الشخصي في تركيا، في الاقتصاد والسياحة. العملية الضخمة في أنقرة قبل نحو عامين، العمليات في شارع الاستقلال وفي ميدان السلطان أحمد في إسطنبول، والعملية الأخيرة في ملهى رينا في إسطنبول هي جزء من تلك الاستراتيجية.

لكل هذه التنظيمات هناك مصلحة في الاستمرار بالإضرار بالدولة التركية، ولكن لكل واحد منها هناك أهدافه الخاصة، قاعدة دعم مختلفة، وطرق عمل خاصة. طالما استمرت الحكومة التركية في عرض جميع التنظيمات كجبهة إرهابية واحدة دون التمييز بينها، وتقويض عمل الشرطة، الجيش والنظام القضائي، واعتقال المشتبه بهم على أساس ارتياب لا أساس له من الصحة، فستفشل في محاولتها بناء استراتيجية واضحة لمعالجة هذه التهديدات الإرهابية.

نُشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع منتدى التفكير الإقليمي

اقرأوا المزيد: 817 كلمة
عرض أقل
حلب تحت القصف، سوريا - النهاية ؟ (AFP)
حلب تحت القصف، سوريا - النهاية ؟ (AFP)

سوريا.. النهاية

الولايات المتحدة تخرج من اللعبة وروسيا وإيران ستقرّبان إليهما تركيا. سيتم التخلي عن مواطني سوريا والثوار، وستشهد إسرائيل تعزُز محور طهران - دمشق - حزب الله

كان يهدف قتل السفير الروسي في أنقرة إلى الرد على روسيا بسبب ارتكاب جرائم الحرب في حلب ودق إسفين بينها وبين تركيا، ولكن نتائجها ستكون معاكسة. سيؤدي القتل، كما يبدو، إلى تعزيز موقف روسيا في بلاد الشام وإلى نهاية حزينة للهولوكوست السوري.

رغم أن الصورة على الأرض مُربكة أحيانا، يمكن للنظرة العامة أن تكشف بوضوح عن المعسكرات الكبرى المتورّطة في الأزمة السورية. من جهة، في المعسكر “المؤيّد للأسد”، تقف قوة عظمى عالمية واحدة، روسيا، وقوة عظمى إقليمية واحدة، إيران، وقوتان محليّتان: الجيش السوري المنهك وقوات التدخّل السريع التابعة لحزب الله. من جهة أخرى، هناك قوة “معادية للأسد”، صورة طبق الأصل، تقف قوى عظمى عالمية واحدة، الولايات المتحدة، قوة إقليمية واحدة، تركيا، وقوات محلية، بشكل أساسيّ الثوار السنة، بدعم وتمويل محدّدين من دول أوروبا، السعودية، ودول الخليج.

مع انتخاب دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة، وقبيل دخوله إلى البيت الأبيض، فإنّ دعم الولايات المتحدة (المحدود منذ الآن) للمعسكر المعادي للأسد آخذ في التقلّص إلى الحدّ الأدنى وربما الاختفاء تماما. ستُركّز إدارة ترامب، التي تخلّت فعليا عن الالتزام الأمريكي لتقديم المساعدة على تنحية الأسد عن الحكم، على مهمة واحدة فقط – القضاء على قوة تنظيم داعش. نتيجة لذلك ستُغادر أيضًا القوات المحدودة التي ضمّتها أوروبا إلى التحالف. في المعركة ضدّ الأسد ستبقى إذا كان الأمر كذلك تركيا فقط، كداعم عسكري لقوات المعارضة السورية.

كانت المهمة الرئيسية لتركيا حتى اليوم إسقاط الأسد وإبداله بحكم سنّي، في الوقت الذي كان هناك هدف ليس أقل أهمية وهو منع إقامة حكم ذاتي كردي على حدودها الجنوبية. العلاقة بين الأكراد السوريين وبين حركة التمرّد الكردية داخل تركيا وثيقة جدا كما يعتقد النظام في أنقرة، ومن شأن حكم ذاتي كردي كهذا أن يدفع ملايين الأكراد في تركيا إلى إثارة الفوضى والمطالبة بالاستقلال.

لقاء بوتين وبشار الأسد في موسكو (AFP)
لقاء بوتين وبشار الأسد في موسكو (AFP)

ولكن تركيا فشلت بشكل واضح في هدَفيها. مع احتلال حلب تعزز موقف الأسد، ولم تنجح أيضًا محاولة إيقاف الأكراد. في آب 2016 قامت تركيا بالغزو في شمال سوريا، بشكل أساسيّ من أجل منع إنشاء ربط بين الجيبين الكرديين في المنطقة ودفع داعش جنوبا، وهذا الغزو أيضًا ينزف دما كل الوقت. في الأسبوع الماضي قُتل هناك عشرات الجنود الأتراك.

إنّ تصرّف بوتين الحكيم في أعقاب قتل السفير يجبر تركيا على التفكير في المسار من جديد. بدلا من رفع عتبة التوتر في العلاقات بين البلدين، نظرا لفشل الأمن التركي المخجل، قرر بوتين استخدام ذلك كرافعة من أجل جذب تركيا إلى داخل معسكره. بعد أن أدت الأزمة الأخيرة في العلاقات في أعقاب إسقاط الطائرة الروسية إلى أن تصل العلاقة بين البلدين إلى شفير الصراع، وأجبرت تركيا على الخضوع لكل مطالب موسكو، يرغب الرئيس أردوغان بمنع أي صراع آخر كهذا بأي ثمن تقريبا، وبناء على ذلك سيقطع شوطا آخر باتجاه روسيا.

إن مزيج هذه العوامل – تعزز الأسد؛ انتخاب ترامب لرئاسة الولايات المتحدة والأجندة الانفصالية التي يعززها؛ فشل تركيا في تحقيق أهدافها في سوريا حتى اليوم، وحاجتها إلى التملّق لروسيا في أعقاب الفشل الذي أدى إلى قتل السفير، يؤدي جميعها منذ الآن إلى تشكيل سياسة جديدة في القصر الرئاسي في أنقرة. في إطارها ستسعى تركيا إلى قبول الهيمنة الروسية على منطقة الشام، وستعرب عن استعدادها رغما عنها لاحتفاظ الأسد بالحكم على معظم الأراضي السورية، ستوافق على إخراج قواتها من المنطقة الحدودية، وفي المقابل ستحاول التوصل إلى تسوية تضمن فيها روسيا وسوريا منع إقامة دولة كردية في شمال سوريا.

ستكون النتيجة، بالضرورة تقريبا، إيجاد وحدة آراء بين القوات الأكثر أهمية التي تبقت في سوريا لإنهاء الأزمة. لن تتدخل الولايات المتحدة، ستفتح روسيا وإيران أذرعها لتركيا، وستجتمع الدول الثلاثة وستتوصل إلى حلّ. ستقبله السعودية ودول الخليج دون خيار وسيتم التخلي عن الثوار السنة والأكراد تحت النظام الإجرامي لبشار الأسد.

وستضطرّ القيادة الإسرائيلية، التي كانت تأمل أن تؤدي الأزمة السورية وإسقاط الأسد إلى القضاء على محور طهران – دمشق – حزب الله، هي أيضًا إلى أن ترى تجدّد هذا المحور بقوة أكبر من الماضي. ومن الآن سيكون جزّار دمشق، بشار الأسد، أكثر التزاما تجاه راعيته إيران وحزب الله اللذين ساعداه جدا في النجاة.

نُشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع منتدى التفكير الإقليمي

اقرأوا المزيد: 620 كلمة
عرض أقل
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (AFP)
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (AFP)

هل بدأ أردوغان يفقد رُشده؟

ليس من اللباقة الدبلوماسية التحدث عن ذلك، ربما كان هذا سبب سكوت السياسيين في أمريكا وأوروبا عن ذلك. ولكن الكثيرين في تُركيا على ثقة بأن حالة أردوغان النفسية سيئة للغاية. هذا الوضع يضعنا أمام مُعضلة تاريخية تُكرر نفسها: ما العمل طالما أن المُستبد الإشكالي لا يزال يُسيطر على آليات القوة والقمع؟

من الجدير التشديد على أن هذه ليست دكتاتورية بعد. سلطة القانون، الديموقراطية وفصل السلطات هي ليست بالمصطلحات الغريبة، “الغربية”، أو جاءت بالقوة من خارج تُركيا. إن النضال الجماهيري يستند على هذه الأسس والذي بدأ قبل 200 عام منذ الإصلاحات المعروفة باسم “تنظيمات”. وكذلك الدستور الذي يقضي بفصل السلطات وإجراء انتخابات حُرة، الذي تم سنه في عام 1876، قبل حتى تأسيس الجمهورية الكمالية. وبالفعل علينا أن نتذكر أن إرث الدولة الديمقراطية تقريبًا، (وهو الذي أوصل إلى الحكم، تجدر الإشارة، حزب أردوغان من خلال انتخابات حرة عام 2002)، لا يزال قائمًا. ما زالت المُعارضة السياسية فاعلة ويوجه قادتها انتقادات لاذعة للحاكم. ليست هناك أحكام بالإعدام ولا إعدامات دون محاكمة. لعل في تركيا اليوم نظام حكم سلطوي غابت منه كل الروادع والتوازنات حيث يضع الحاكم السياسات بمفرده ويحدد الأهداف.

رئيس تركيا، رجب طيب أردوغان، في مقره الجديد (AFP)
رئيس تركيا، رجب طيب أردوغان، في مقره الجديد (AFP)

تحولت السلطة التشريعية إلى ذراع للنظام الحاكم. يسيطر على البرلمان، منذ عقد من الزمان، حزب واحد يمكنه تمرير أي قانون يرغب به الحاكم. حاول الحاكم تفكيك سلطة القضاء من خلال الإقالات، والنقل القسري لقضاة ونواب عامين إلى مناطق نائية، وتغيير القانون بحيث يكون وزير العدل التابع له على رأس هيئة النواب العامين والقضاة. تم سجن قادة الجيش، غالبيتهم لأسباب لا أساس لها. جهاز الشرطة لاءم نفسه للوضع القائم بعد فصل مئات الضباط ورجال الشرطة من السلك أو نقلهم إلى المدن المحاذية لسوريا. أيضًا تم الدوس على وسائل الإعلام التي بقيت فيها حتى الفترة الأخيرة جُزر قليلة للمعارضة والنقد. لم يعد أحد يجرؤ على انتقاد الحاكم بعد سلسلة اعتقالات مُفبركة، ضرائب خيالية ضد الصحف ومكالمات تحمل تهديدات. حتى الصحف الصادرة باللغة الإنكليزية، التي ظلت حتى الفترة الأخيرة بمثابة واجهة مُنمقة باتجاه الغرب، هي أيضًا تتجه نحو الإغفال.

https://www.youtube.com/watch?v=6ujZpIwdjfo

تحول الحاكم في السنة الأخيرة من رئيس حكومة إلى رئيس. الدستور يُقر بأن الدور الرسمي لرئيس الدولة في تركيا هو تمثيلي فقط ورئيس الحكومة هو رأس النظام السياسي، إلا أن أردوغان لا يقيم وزنًا للقانون الرسمي. أقام أردوغان مجلس وزاري مصغّر في الظل، لتفادي عدم وجود صفة رسمية في جلسات الحكومة، ويُملي على الحكومة ما عليها أن تفعل، وقريبًا سيهتم بطرح قانون يمنحه مكانة رسمية.

ماذا إذا يمكن للمواطنين الفعل بينما تذوب الديموقراطية أمام أعينهم بينما العقاب، في حال توجيه أي انتقادات، يكون السجن لفترات طويلة؟ والأسوأ من ذلك – ما العمل بينما يبدو أن الحاكم فقد رشده على ما يبدو؟

مظاهرات ضد أردوغان في شوارع أنقرة (AFP)
مظاهرات ضد أردوغان في شوارع أنقرة (AFP)

الدلائل على ذلك كثيرة جدًا: سلسلة من التصريحات الجنونية التي تتهم جهات غامضة باستهداف تُركيا عمومًا والحاكم تحديدًا. يلمح أردوغان إلى أن اللوبي اليهودي وإسرائيل هما خلف تلك الجهات، غير أن أذيالهم موجودين عميقًا داخل النظام التركي ويجب تطهيره منهم، ادعاء أن إسرائيل هي التي غيّرت نظام الحكم في مصر؛ وهذا القول جاء بالاعتماد على تصريحات الفيلسوف الفرنسي اليهودي برنار هنري ليفي؛ أن الديمقراطية لا تقاس فقط من خلال صناديق الاقتراع؛ تصريحات هجومية ضد الاتحاد الأوروبي الذي يتهمه أيضًا بأنه السبب وراء المشاكل في تُركيا؛ تصريحاته أن الغرب سعيد بموت أطفال المُسلمين، وبالمقابل عدم اكتراثه التام لمقتل 300 كردي في منجم تركي وقوله إن مثل هذه المآسي شائعة في العالم؛ التصريحات المفاجئة عن وجود مساجد في أمريكا قبل كولومبوس؛ تشييد قصر رئاسي يفوق قيمة البيت الأبيض بعشرات الأضعاف، على محمية طبيعية تاريخية؛ تعيين مُستشار له ادعى بأن مخابرات غربية حاولت اغتيال سيده بواسطة التحريك العقلي (تحريك الأشياء بقوة التفكير)؛ مشاريع ضخمة، فيها جنون عظمة تتضمن شق قناة موازية للبوسفور وإنشاء مسجد جديد، من أكبر المساجد في العالم، على أعلى تلة في إسطنبول؛ اتهام الشاب باركين ألفان، الذي أصيب بقنبلة غاز في رأسه مباشرة، بانتمائه لتنظيم إرهابي. تتطور هذه القائمة من يوم إلى يوم أكثر فأكثر.

رئيس الحكومة التركية، رجب طيب أردوغان (AFP)
رئيس الحكومة التركية، رجب طيب أردوغان (AFP)

هل فقد أردوغان رشده بالفعل؟ يصعب التكهن بذلك اعتمادًا على هذه الدلالات. لا شك أنه يعاني من أزمة نفسية ما، ربما مزيج ما بين الرهاب وجنون العظمة من النوع الشائع لدى الحكام السلطويين. إلا أن هذه التصريحات تُشير إلى رغبة طبيعية بالانتقام – الانتقام ضد التحقيقات والادعاءات والمقالات الصحفية التي أدت إلى كشف أكبر عملية فساد قام بها هو وأولاده؛ الانتقام للكشف المُبكر عن هدفه الحقيقي – إعادة التدين إلى تركيا وإعادة الروح العُثمانية، الأمر الذي أدى إلى انطلاق احتجاجات ضد سياسته؛ انتقام من القوى التي قطعت عليه خطواته نحو الارتباط بالعالم العربي على أساس أن يكون الراعي والمربي والقائد. بدأت كل هذه المُخططات التي تم وضعها وإدارتها بشكل دقيق تفقد قوتها.

https://www.youtube.com/watch?v=nFuBoxqGxE8

بات الكثير من المواطنين الأتراك يُدركون أن أردوغان يقود تُركيا إلى تراجيديا تاريخية ولا يمكن وقفه عند حده تقريبًا. رُبما أول شخص أدرك ذلك هو الرئيس عبد الله غول الذي تقاعد في بيته وينتظر اللحظة التي يطلبونها فيه ليُنقذ الدولة. ولا يزال آخرون يؤمنون بالطريق والنهج الذي وضعه أردوغان وحزبه. إلا أنه إن كان الحديث هو عن جنون أو انتقام رئيس مُتعصب واثق من طريقه سيكون المواطنون الأتراك المتضررين الأساسيين من أمراض الحاكم.

نُشرت هذه المقالة لأول مرة في موقع Can Think

اقرأوا المزيد: 745 كلمة
عرض أقل
دبابة اسرائيلية خارج قطاع غزة تستعد لدخول (IDFFlash90)
دبابة اسرائيلية خارج قطاع غزة تستعد لدخول (IDFFlash90)

الاتفاق الذي سيحتفظ بسلطة حماس في غزة

سلطة حماس في غزة أقل سوءًا من أي إمكانية أخرى. الاتفاق الدائم لمشكلة القطاع يهدف إلى إنشاء وضع استراتيجي جديد، يحفظ سلطة حماس لكنه يمنع هجماتها على إسرائيل ويبني أساسًا للتقدم السياسي مع السلطة الفلسطينية

تحديدًا، حين تدوّي القذائف، يجب التفكير في المستقبل- والعمل بموجب  أقوال وزير  الخارجية ليبرمان، أنه يجب التخلص من حماس وإبعادها من المنطقة. إن كنا نفكر في المستقبل بجدية، يجدر بنا اتخاذ بعض الافتراضات الأساسية:

وزير الخارجية  الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان (Marc Israel Sellem/Flash90)
وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان (Marc Israel Sellem/Flash90)

الافتراض الأول أن هذه الحملة ستستمر قدر ما يتطلب كي يلتزم الجانبان، وحماس خاصة، بمحاولة إيجاد واقع جديد مختلف عما عرفناه حتى الآن. الشروط الاستراتيجية تلائم ذلك. لا يكترث العالم والمنطقة تمامًا، والقبة الحديدية تعمل عملا ممتازًا، والمواطنون عاقدو العزم، وكل هذه العوامل تمنح إسرائيل حيّز للتصرف كما يتطلب كي تصنع ركيزة لواقع جديد.

الافتراض الثاني أن سلطة حماس في غزة أقل سوءًا من أي إمكانية أخرى. إن الأيديولوجية المتطرفة لحماس حقّا غبية، عدوانية وظالمة. لكن من بين كل الخيارات المطروحة على الطاولة- السيطرة الإسرائيلية المباشرة على مليون ونصف فلسطيني؛ سلطة فاسدة وغير فعالة لأعضاء فتح؛ الفوضى في المناطق التي يمتلك أي شخص كان قذيفة؛ وحكم حماس، على غبائه وعدوانيته- كل عاقل يجب أن يفضّل حماس.

الافتراض الثالث أن إسرائيل تسعى لتحصل في النهاية على اتفاق سياسي مع الفلسطينيين، ومن المُستحسن أن يشمل الاتفاق أيضًّا قطاع غزة، أفضل من وضع يكون فيه حل مع السلطة في الضفة، ويبقى القطاع منطقة تشكل إشكالية. ويُستحسن إيجاد حل طويل الأمد للأزمة في غزة، يمكنه من الدفع قُدُما بحل سياسي شامل .

وينتج عن  الافتراضات الثلاثة، الهدف المطلوب لإسرائيل في دائرة القتال الحالية: إنشاء وضع استراتيجي جديد، يحفظ سلطة حماس لكنه يمنع هجماتها على إسرائيل ويبني أساسًا للتقدم السياسي مع السلطة الفلسطينية.

كي يُحقق هذا الهدف من المهم أن نفهم أنه لا يمكن إجبار حماس على الرضوخ دون شرط.  سيضعف رضوخ مثل هذا مركزها كثيرًا، وسيعرّضها فجأة لمواجهة المجموعات الأكثر تطرفًا- تلك التي تدعم الجهاد الإسلامي، القاعدة، بل وداعش. ربما ننجح حقًا في تحقيق فترة ما من الهدوء، لكننا سنزيد من احتمال قيام الفوضى في القطاع، وستضطر المخابرات الإسرائيلية إلى ملاحقة عشرات فلول المنظمات، أو الدخول إلى القطاع والسيطرة عليه، وهو ما يفهمه أفيغدور ليبرمان ونفتالي بينيت أنه معضلة شديدة (حسنٌ، ربما ليس نفتالي بينيت. فلكل مطالبة حدٌّ).

يجب، حسب ذلك،إجراء اتفاق يمنح حماس إنجازات ما، ويعطي سكان غزة الراغبين في السلام نافذة أمل. كي يتم اتفاق كهذا يجب أولا فهم ما يريده كلا الجانبين.

طلبات إسرائيل واضحة: بادئَ ذي بدءٍ، إيقاف إطلاق القذائف لمدة طويلة الأمد، وكذلك إيقاف حفر أنفاق للهجمات ومحاولات الخطف والتخريب في مناطقنا. كي يتحقق ذلك، كما ذُكر أعلاه، يتطلب الأمر جهة قوية وسلطة صامدة.

ماذا تريد حماس؟ اليوم، بعد عقد مرير من المواجهات القتالية مع إسرائيل، يسعى قوّادها أولا وأخيرًا إلى استمرار السيطرة على قطاع غزة، إزالة الحصار الاقتصادي، وإطلاق الأسرى القابعين في السجون الإسرائيلية. من المفهوم ضمنًا أنهم معنيون أيضًّا بالتلويح ببطاقة التعريف- مقاومة الاحتلال الصهيوني- لكن بهذا الخصوص، سيسعدون  بتبديل الصواريخ بالعبارات.

ينبغي أن يفي الاتفاق المقترح بمتطلبات الجانبين قدر الإمكان، وعلى ضوء ذلك أقترح المخطط التالي:

1. أن تبادر إسرائيل إلى بدء المفاوضات مع أبي مازن، الذي يمثل لإسرائيل كل المصالح الفلسطينية، حتى في غزة. هذا الطلب يتوازى مع حكومة الوحدة الوطنية التي اتفقت عليها فتح وحماس. من ناحية إسرائيل، لن يحدث أي اعتراف بأي تنظيم كممثل لهيئة سياسية، لا حماس، لا فتح، وطبعًا لا الجهاد ولجان المقاومة على أنواعها.  ولكن، ستمثل السلطة الفلسطينية الجميع.

2. سيعلن رؤساء حماس على الملأ أنهم يدعمون اتفاق حكومة الوحدة ويعترفون بسلطة أبي مازن. ستلتزم السلطة بنزع الصواريخ من القطاع، إيقاف حفر الأنفاق تمامًا، وفتح المنطقة للمراقبة الدولية الجارية.

3. في حال الحفاظ على التهدئة التامة لمدة ستة أشهر، ستبدأ إسرائيل بإزالة الحصار الاقتصادي عن غزة تدريجيًّا: أولا مرور السفن لميناء غزة بعد مراقبة القوات البحرية، وبعدها حركة ملاحية حرة مع مراقبة فجائية (تبلّغ إسرائيل رسميًّا بكل سفينة في طريقها نحو غزة). سيُطلب من مصر فتح حدودها مع القطاع. الشرط الوحيد الذي ستضعه إسرائيل- حظر نقل الأسلحة وإنتاجها. سيُلغي كل إنتاج ونقل للأسلحة باستثناء الأسلحة الخفيفة الاتفاق.

4. قوة مصرية – أردنية مشتركة لمراقبة الأوضاع في غزة. إن أرادت قطر المساهمة في القوات، ستُوقّع إسرائيل وقطر اتفاق سلام بينهما.

5. ستتبنى تركيا وقطر المسؤولية عن الترميم الاقتصادي للقطاع. أما إسرائيل فستساعد على ذلك.

6. ستستمر إسرائيل في جمع المعلومات الاستخبارية بحرّية من المجال الجوي لقطاع غزة، لكنها ستلتزم تمامًا بإيقاف الاستهداف المقصود.

7. كل خرق للسيادة الإسرائيلية، التي ستعرّف تعريفًا قطعيًّا (مع ترك حيّز للأعمال الفردية التي لا يمكن السيطرة عليها، مثل تلك التي تحدث من جهة الأردن ومصر) سيجعل الاتفاق لاغيًا.

8. تعبيرًا عن حسن النية، ستُطلق إسرائيل مع توقيع الاتفاق ستين أسيرًا.

9. في حال استمرت التهدئة حتى سنة، ستبدأ إسرائيل بإطلاق أسرى حماس وباقي المنظمات تدريجيًّا. سيكون إطلاقهم مشروطا بحفظ الاتفاق. تنظر إسرائيل إلى نقض الاتفاق،  مثله مثل نقض شروط تسريح الأسرى ويستدعي عودتهم للسجن.

نُشر المقال للمرة الأولى في موقع ‏Can Think

اقرأوا المزيد: 721 كلمة
عرض أقل
جيش الدولة الإسلامية، داعش (AFP)
جيش الدولة الإسلامية، داعش (AFP)

تنّين في الدرج: داعش والحرب على الهلال الخصيب

سقطت الموصل، المدينة الأكبر في شمال العراق، بيد جيش "الدولة الإسلامية في العراق والشام". وبموجب كل المقاييس، فهي نقطة تحوّل مهمّة في تاريخ المنطقة. هل يستطيع المقاتلون الأكراد أن يوقفوا الجهاديّين السنّة؟

في 9 حزيران عام 2014، قبيل المساء، سقطت الموصل. أثناء كتابة هذه السطور يسيطر جيش “الدولة الإسلامية في العراق والشام” على المدينة الأكبر في شمال العراق. سيطر مقاتلو التنظيم على مكاتب الحكومة في محافظة نينوى العراقية، طردوا رجال الجيش والحكومة من المدينة، ويسيطرون عليها الآن. حتى يتمّ نشر هذا المقال فمن الممكن أن ينجح الجيش العراقي في طردهم، ولكن بموجب كل المقاييس فإنّ هذا الحدث هو نقطة تحوّل مهمّة في تاريخ المنطقة.

يعرف التنظيم الإسلامي المتطرّف عادة بحروف الاختصار: داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام). كانت بداية التنظيم في المعركة الخاصة لرجل القاعدة الضالّ أبو مصعب الزرقاوي ضدّ الشيعة في العراق في أعقاب الغزو الأمريكي. ومنذ ذلك الحين، مرّ التنظيم بتقلّبات كثيرة، ويتزعّمه اليوم قائد متشدّد يُدعى أبو بكر البغدادي. مع بداية الثورة ضدّ الأسد في سوريا، انضمّ التنظيم إلى قوى المعارضة، وخلال الثورة تصارع مع الممثّل الثاني للقاعدة في سوريا، جبهة النصرة. قرّرت قيادة القاعدة في أعقاب الصراع وقف رعاية داعش، ومنذ ذلك الحين فهو يعمل كتنظيم مستقلّ، حيث أنّ أيديولوجيّته هي: جهادية، تكفيرية وتكره الشيعة، وهي متطرّفة حتّى أكثر من أيديولوجيّة بن لادن. ينفّذ أعضاء التنظيم بشكل متكرّر عمليات إعدام علنية للكفار والخونة، ومنذ مدّة ليست طويلة قاموا بصلب مشتبه بهم بالخيانة.

ممقاتلو داعش في نينوى (ISIL / AFP)
ممقاتلو داعش في نينوى (ISIL / AFP)

تمركز التنظيم في الأشهر الأخيرة بشكل كبير بين حلب في شمال غرب سوريا وبين بغداد في جنوب شرق العراق، أو، بكلمات أخرى؛ تقريبًا في جميع المنطقة العربية بين نهري دجلة والفرات. ويسيطر التنظيم بشكل تامّ أيضًا على مناطق الفلوجة وبعقوبة في العراق، وهكذا أيضًا أجزاء كبيرة في المنطقة الشرقية من سوريا، دير الزور والرقّة. وقد جاءت مهاجمة الموصل في أعقاب عدد من الانتصارات سواء في المنطقة الكردية في شمال سوريا، أو في المدن على طول نهر دجلة في العراق. نجح مقاتلو التنظيم في هذه الفترة بوضع يدهم على مخازن السلاح، الوسائل القتالية والذخائر الحكومية، وإلى جانبها أيضًا موارد مالية وبنكية ومكاتب حكومية.

يعتبر نموّ داعش نموذجًا إضافيًّا لقصر نظر الحكومات في جميع ما يتعلّق بدعم التنظيمات المتطرّفة. في بداية العمل ضدّ الأسد تم دعم التنظيم من قبل جزء كبير من الأنظمة العربية السنّية في شبه الجزيرة العربية، وأيضًا – كما تشير الأدلّة – من قبل الحكومة التركية نفسها، بواسطة تنظيمات وسيطة مختلفة. هذه المرّة أيضًا، نجحت الحكومات في تربية التنّين في الدرج وأن تكتشف – بعد فوات الأوان – أنّه ينفث النار عليها أيضًا.

ولأنّ التحدّيات التي يضعها التنظيم أمام النظام السوري والحكومة العراقية معروفة؛ فإنّ الصراعات الأكثر إثارة للاهتمام هي الدائرة بين التنظيم وتركيا والأكراد. فقد نفّذ أعضاء التنظيم في الأشهر الأخيرة عدّة هجمات ضدّ أهداف على الحدود التركية، ضربوا دوريات الحدود بل ورجال الشرطة، ولكن هُزموا في هجمة عسكرية قصيرة. من المحتمل أن تكون هذه هي إحدى القضايا الرئيسية في النقاش بين أردوغان والرئيس الإيراني روحاني في لقائهما هذا الأسبوع. اضطر أردوغان إلى الاعتراف الآن – مع الأسف الكبير – بأنّه خائف من الدولة المتطرّفة التي تنمو على حدوده، ومتفاجئ من المصالح المشتركة التي يجدها مع روحاني. هناك من يعتقد في أروقة الحكومة في أنقرة بأنّه من المفضّل إزالة معارضة استمرار حكم الأسد، والتنازل عن أحلام الديمقراطية المحافظة بالصغية التركية. فالبديل الجهادي قد يكون أكثر سوءًا.

عنف وعمليات تفجير سيارات مفخخة في تكريت (AFP)
عنف وعمليات تفجير سيارات مفخخة في تكريت (AFP)

والقصة الكردية هي كذلك مثيرة للفضول. قبل عدّة شهور، ضربت داعش بلدة كردية في سوريا، وفي بداية الأسبوع فجّر انتحاريّون من أعضاء التنظيم أنفسهم في مقارّ لأحزاب كردية في مدينة توز خورماتو. والهجمة على الموصل أيضًا، التي يرى فيها الأكراد إحدى عواصم إقليمهم، هي تحدّ واضح لمنطقة الحكم الذاتي الكردي. ومع تعزيز الثقة بالنفس لدى قادة داعش فسيتطلعون إلى المناطق الكردية أيضًا، التي تتّخذ موقفًا أكثر ليبرالية من الدين، هدفًا للغزو والسيطرة.

ولكن من المرجّح هذه المرّة أن يجد مقاتلو داعش أنفسهم في معركة أكثر صعوبة. لقد راكَمَ الأكراد في الصراعات الطويلة في سوريا، تركيا والعراق سنوات طويلة من التجربة في حرب العصابات والصراعات الجبلية. حتى الآن تتجنّب الحكومة الكردية تفاقُم الصراع، وتأمل بأن تحوّل الحرب في سوريا مركز صراع التنظيم باتجاه دمشق. ولكن الآن، حين اتّضحت الاستراتيجية الجديدة للتنظيم، فنحن نتوقّع أن نرى صراعًا أكثر تصميمًا من قبل الأكراد، وأيضًا من قبل الحكومة العراقية، مع التنظيم المهدّد.

نُشرت المقالة للمرة الأولى في موقع ‏Can Think‏‏

اقرأوا المزيد: 641 كلمة
عرض أقل
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (AFP)
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (AFP)

فيلات فخمة على شاطئ البحر: فساد أردوغان يُكشف عنه

الحِزب الحاكم في تركيا، الذي يتمتع بأغلبية ساحقة في البرلمان وليس بحاجة إلى تسويات سياسية، هو فاسد وتالف في أساسه

غير أن متعة وفساد أردوغان، اللذين يتم الكشف عنهما في الوقت الراهن عن طريق التنصت، يضعان تحديًا صعبًا للغاية أمام كل تركي لا يزال حكم القانون قَيِّما في نظره.

تبدو تركيا هادئة على أرض الواقع. كل ما يريده الشعب المتعب والمرتبك هو أن يتركوه وشأنه، لم تحرز المظاهرات الكبيرة في شهر أيار 2013 تغييرًا فعليًا، وبشكل غير مفاجئ، منذ الكشف الإعلامي عن قضايا الفساد في الحكم، في السابع عشر من كانون الأول عام 2013، ازداد تشبث أردوغان بالحكم. لقد تمت إقالة الآلاف من رجال الشرطة، القضاة، والمدعين الذين عملوا على التحقيق في القضايا من مناصبهم، بحجة أنهم يعملون لصالح جهات دولية تريد فشل تركيا، وبهذه الطريقة نجح رئيس الحكومة أن يُخضع لسيادته السلطة الحاكمة أيضًا، وأن يدبّ الرعب في الشرطة.

تسخر الطبقات الراقية ووسائل الإعلام من الأخبار التي يختلقها أردوغان للمفتشين، غير أن الكثيرين من أبناء الشعب صدقوا قصة المؤامرة هذه وادعاءاته بأن الاتهامات كاذبة ومعدّة لإسقاط الحكومة. ابتكرت الصحافة التركية التي تخشى غضب القائد وسائل ليست مباشرة لتوجيه النقد – توجيه أصابع الاتهام إلى الجهات التي “تدعي” بأن الحكومة ومن يترأسها يرتشون، تضمين معلومات ناقدة في التقارير التي تتناول قضايا أخرى، وما يشبه لعبة الروليت الروسية التي تقتبس فيها كل وسيلة إعلام الآخرين أملا في أن تبعد عنها خوف الحكم.

إلا أنه عميقًا في داخل النظام، وفي العلاقات بين أردوغان وبين خصمه كولن، ما من أي هدنة. النزاع مستمر وحازم، وكما أشرنا هنا سابقا، إنه لا يزال في مطلعه. لقد افتُتحت هذا الأسبوع المرحلة الثانية من الهجوم على أردوغان. كشف أعداؤه عن مكالمات هاتفية ومستندات تدل على تلقيه فيلاتين كبيرتين فخمتين في إحدى المناطق الخلابة في تركيا في منطقة أورلا (بجانب إزمير). حسب المكالمات والمستندات، حصل أردوغان على الفيلات مقابل تسهيلات في المصادقات على البناء. لكون المنطقة تعتبر محمية طبيعية، كان البناء فيها ممنوعًا، إلا أن المبادر إلى المشروع، لطيف طوباش، المتهم هو الآخر برشوة ضخمة، حصل على مصادقة خاصة.

الاحتجاجات في متنزه تقسيم غازي، تركيا (ويكيبيديا)
الاحتجاجات في متنزه تقسيم غازي، تركيا (ويكيبيديا)

يطلب المقاول من أردوغان في بعض المكالمات تسريع الحصول على المصادقات وحث المسؤول الذي يرفض منح تلك الموافقة، وفي مكالمات أخرى يهتم أردوغان بوتيرة البناء وموعد الانتهاء. لقد تم بالمقابل عرض تسجيلات لمكالمات تقول فيها ابنة أردوغان، سُمية، للمقاول طوباش، أن اثنتين من الفيلات التي يتم بناؤها نالتا إعجابها وإعجاب والدتها، لكنهنّ يردن إجراء بعض التغييرات فيها.

ليست هذه الفضائح صدفة طبعًا. لقد أجري التنصت على الهواتف من قبل النيابة والشرطة، كجزء من التحقيق في الرشاوى، وتم تسريبها إلى الإعلام، على الأرجح، من قبل المدعين الذين أقيلوا من وظائفهم، حيث قاموا بحفظ التسجيلات بحوزتهم. على خلاف البلاغات السابقة التي تطرقت إلى رئيس الحكومة، لكن بصورة ليست مباشرة، والتي لم تكشف تقريبًا عن معلومات “قاسية”، تصحب التقرير الحالي تسجيلات بصوت أردوغان وابنته، ومستندات تبدو أصلية للوهلة الأولى. سيصعب على أردوغان وطاقمه ضحدها، إذا كانت صحيحة، إضافة إلى ذلك أن الفيلات قد بُنيت، ويمكن أن يكشف تحقيق سريع باسم من هي مسجلة وكيف قام بشرائها. ضمن جهود مكثفة للتغطية على الحدث، ألغت الحكومة إمكانية الدخول إلى مواقع الإنترنت التي كشفت عن التسجيلات ومضمونها، غير أنه في الإنترنت، كما هو معروف، لا يمكن إخفاء الواقع، وقد شقت الأمور طريقها في النهاية باتجاه الصحافة المؤسساتية.

سيحاول أردوغان التطرق إلى هذه الاتهامات على أنها حيلة أخرى أعدت لإلحاق الضرر بالحكومة، ولن نتفاجأ إذا رد مجددًا، كعادته، بقوة أكبر – بإغلاق الصحف، تنحية المحررين، إقالة ضباط شرطة وقضاة آخرين، وحتى إدخالهم السجن – من أجل إخفاء التهمة. إلا أن ثمن إغلاق الأفواه آخذ بالارتفاع.

هنالك من يقولون إن الحزب الحاكم، الذي حاز على أغلبية ساحقة في البرلمان، وليس بحاجة إلى تسويات سياسية، فاسد وتالف من أساسه. لقد نجح أردوغان خلال سنوات من التلاعب وفرض الإرهاب، بإخضاع الحزب لسيادته، وتنحية كل من عبّر فيه عن آراء مستقلة. لذلك، ليس من المحتمل أن يدين البرلمان أو الحزب أردوغان، أن يتهماه بالرشوة، ويطالبا بالإجراءات القانونية المشددة تجاهه. ربما كان الأمر على هذا النحو، غير أن الفضائح الأخيرة تضع تحديًا صعبًا إلى حد كبير أمام كل تركي لا يزال حكم القانون قَيِّما في نظره .

نشر المقال على موقع Can Think،  والمختص في شؤون الشرق الأوسط. ونضيف أن الموقع “Can Think” هو مشروع مستقل، لا يمت بصلة إلى أي جهة سياسية أو اقتصادية، ويعمل بموجب نموذج اشتراكي. الكُتاب والعاملون في الصحيفة هم أكاديميون، يقدمون تحليلات موضوعية من منظور بحثي.

اقرأوا المزيد: 661 كلمة
عرض أقل
العلويين الأتراك (ADEM ALTAN / AFP)
العلويين الأتراك (ADEM ALTAN / AFP)

يقظة العلويين الأتراك

يزداد التوتر في السنتين الأخيرتين بين السكان العلويين في تركيا، الذين يبلغ عددهم عشرة ملايين نسمة على الأقل، وبين الحكومة الإسلامية التي يترأسها أردوغان. ينبع جزء من هذا التوتر من تبلّد حواس الحكومة ومن وقوف أردوغان على رأس معسكر يدعو إلى إسقاط نظام بشار الأسد العلوي في سوريا.

إن دعم تركيا للثوار السُنة في سوريا ومعاداتها للنظام العلوي قد فتحت صندوق باندورا في تركيا ذاتها. يشعر العلويون في الدولة بعزلة متزايدة بسبب سياسة الحكومة، ويزداد التوتر بين المجموعات.

العلويون في سوريا هم بطبيعة الحال طائفة الرئيس بشار الأسد، وهم المتكأ الرئيسي لنظامه. غير أن قلة يعرفون الأقلية العلوية الأكثر جدية – هذه الموجودة في تركيا. يشكل العلويون في سوريا نحو 10 وحتى 15 بالمائة فقط من مجموع عدد السكان (أي بين 2-3 ملايين نسمة). أما في تركيا فهم لا يشكلون فئة منفردة في تعداد السكان، ولكن هذه المجموعة، حسب التقديرات الحذرة (يطلق عليهم في تركيا اسم علاهيون ‎ – Alevi)، تضم بين عشرة ملايين وعشرين مليون نسمة. هناك من يعتقد أن العدد أكبر. على الرغم من الاسم المشابه، فإن العلويين الأتراك يختلفون عن السوريين. صحيح أنهم متصلون بشكل طفيف بالشيعة، إلا أن معتقداتهم تختلف وهم ينسبون أنفسهم إلى مؤيدي القديس المتصوّف المشهور من القرن الثالث عشر الحاج بكتاش ولي.

ويعتقد الباحثون في مجال الأديان أنه قبل القرن العشرين كانت تعيش في منطقة الأناضول والبلقان عشرات وربما مئات الطوائف المختلفة، في منطقة جغرافية تربط بين الإسلام الشبعة، الصوفيين والمسيحيين. كل طائفة من الطوائف أنشأت الارتباط الخاص بها، وسلسلة الطقوس والعادات التي تميّزها. في بداية القرن العشرين فقط، ونتيجة الضغط الخارجي وبفضل أعمال “علمية” قام بها باحثون أوروبيون، نشأت المجموعة التي تعتبر نفسها علوية في تركيا المعاصرة.

يقيم العلويون طقوسهم في دار عبادة يسمونها إوي‎ (Cem Evi)، ‎بيت اللجنة أو بيت الجمع بالتركية، خلافا للجامع ‎،cami – ‎، (وهو الاسم المتعارف عليه للمسجد في تركيا). يصلي الرجال والنساء ويرقصون معا في لقاءاتهم الدينية، وتشمل طقوسهم شرب النبيذ الممنوع في الإسلام.

على الرغم من أنهم أيدوا العلمانية الكمالية أكثر من سائر الطوائف في تركيا، إلا أن العلويين قُمعوا على مر السنوات، ولم يجرؤوا على رفع رأسهم. لقد حافظوا على بروفيل منخفض وتوخوا الحذر بكل ما يتعلق باحترام الحكومة. بدأت الأمور تتغير قبل بضع سنوات، سواء في أعقاب الديمقرطة المتزايدة في تركيا في أول فترتي تولي لأردوغان، أو في أعقاب الاعتراف بعددهم الكبير وبقوتهم الانتخابية.

غير أن التوتر بين السكان العلويين وبين السلطة أخذ يتزايد في السنتَين الماضيتَين. ينبع جزء منه من تبلّد حواس الحكومة. فعلى سبيل المثال، أعلن أردوغان قبل سنة أنه لكون العلويين مسلمين، والمسلمون يصلون في المسجد، لا حاجة إلى الاعتراف بهم كدين منفرد ولا سبب في إقامة دور عبادة خاصة من أجلهم. وقد انضم إلى ذلك، رفض رئيس البرلمان توفير غرفة صلاة خاصة بالعلويين في المبنى لنفس السبب. وقد حدثت مصادمة أعنف في أعقاب قرار الحكومة بناء جسر ثالث على مضيق البوسفور، وتسميته باسم السلطان سليم الأول (المعروف بكنيته “القاطع”). سليم الأول هو بالنسبة للعلويين رمز الشر السني. في بداية القرن السادس عشر، ارتكب السلطان مجزرة ضد العلويين والشيعة الذين تمردوا على حكمه، وقتل عشرات الآلاف منهم من دون تمييز. إن تسمية الجسر الكبير باسمه يُعتبر إهانة وعدم أخذ شعور العلويين بعين الاعتبار.

غير أن ما أدى إلى تدهور العلاقات إلى حضيض لم يسبق له مثيل كان وقوف تركيا غير المتهاون إلى جانب المعسكر الذي يعارض بشار الأسد. وصف علويون كثيرون هذه العملية على أنها سنيّة واضحة لسياسة تركيا، وقد اعتُبرت تصريحات غير حذرة من قبل وزراء وأعضاء برلمان المؤيدة للسنة وضد الشيعة والعلويين بمثابة كشف عن نوايا الحكومة الحقيقية. أحد الأقوال الأكثر مسّا كان تصريح أردوغان القائل بأنه في العملية الإرهابية الكبيرة في بلدة ريهانلي سقط 53 شهيدًا سنيًا. لم يتمكن سكان المنطقة، والعلويون في تركيا عامة، من تجاهل ما تم اعتباره محاولة من قبل رئيس الحكومة للفصل بين دم وآخر.

وقد تمت في الأشهر الأخيرة عدة محاولات للتوصل إلى مصالحة بين السنة والعلويين. من بين أمور أخرى، بدأت حركة رجل الدين المعروف فتح اللة غولن العمل على شراء منشأة مشتركة في أنقرة يتم فيها إقامة مسجد وإلى جانبه بيت صلاة علوي. غير أن الإعلان ووضع حجر الأساس أثارا غضب كبير في الطائفتين على حد سواء. فمن وجهة نظر السنة المتشددين، اعتبرت المبادرة نوعًا من الاعتراف الإسلامي بالكفر التام، وأما من وجهة كثيرين من العلويين فكانت هذه بمثابة محاولة لشراء ثقة الطائفة بسعر رخيص وتغطية الإجحاف والإهمال من قبل السلطة طيلة سنوات عديدة.

التوتر بين الطوائف، الذي كان في سبات طيلة سنوات، يكشف عن علامات مقلقة من اليقظة‎.

هذا التحليل المثير هو لأحد الكتاب الأكاديميين العاملين في موقع “Can Think”، والمختص في شؤون الشرق الأوسط. ونضيف أن الموقع “Can Think” هو مشروع مستقل، لا يمت بصلة إلى أي جهة سياسية أو اقتصادية، ويعمل بموجب نموذج اشتراكي. الكُتاب والعاملون في الصحيفة هم أكاديميون، يقدمون تحليلات موضوعية من منظور بحثي.

اقرأوا المزيد: 701 كلمة
عرض أقل
مجاهد في صفوف جبهة النصرة في سوريا (AFP)
مجاهد في صفوف جبهة النصرة في سوريا (AFP)

المرحلة الثالثة من الانهيار: تفكّك العالم السُّني

تشير الصراعات في الشرق الأوسط إلى علاقة بين الخلافات الدينية وانهيار المجتمَعات. الصراع بين السنة والشيعة يتفاقم، وكذلك الصراع بين السنة أنفسهم.

كُتبت هذه المقالة بهدف إثارة نقاش نقديّ حول التحوّلات في العالم العربي، أسبابها، وعواقبها. والهدف هو محاولة فهم العلاقة بين المسلسل المستمرّ للانقسامات الدينية بين الفئات وداخلها، وبين انهيار المجتمعات والدول في المنطقة. يمكن أن تكون إدارة نقاش كهذا على مستوى البحث الأكاديمي مبكرة جدًّا، لكن من الممكن طرح افتراضات. وهذا أحدها.

الانهيار الداخلي (implosion)، هو عمليّة تُضغط فيها منظومة باتجاه الداخل، نتيجة لضغط خارجي وفرق هائل في الضغط بين الخارج والداخل، ما يؤدي إلى انهيار المنظومة عبر إنتاج طاقة هدّامة. هذه استعارة ممكنة لوصف العملية التي تجري في العالم الإسلامي اليوم. أوّلًا، هذه عمليّة تتحرّك من الخارج إلى الداخل. فقد بدأت بضغط شديد وبانهيار الحدود بين العالم العربي وسائر العالم، ما أدّى إلى غزو خارجي، أعقبه انهيار العلاقات السنية – الشيعيّة، ثمّ انهيار العلاقات السنية نفسها اليوم. ثانيًا، كما في العملية الميكانيكية، ثمة إطلاق طاقة هائلة هنا أيضًا.

فقبل نحو ثلاث سنوات، في فجر ما كان يُدعى آنذاك “الربيع العربي”، شاركتُ في مؤتمر شبه أكاديمي مع زملاء من دول عربية، طُرحت خلاله قضية الفروق بين النظرات المختلفة إلى الدين. وعبّر عدد من زملائنا عن غضبهم لمجرد إثارة السؤال. أصرّوا على أنّ الإسلام هو كيان واحد عالمي. وما الادّعاءات الغربية بوجود توتّر بين المجموعات المتطرفة والمعتدلة، أو بين الشيعة والسنة، سوى اختراعات وألاعيب تهدف إلى مساعدة النخب الموالية للغرب على الاستمرار في التحكّم بالمنطقة. لطالما رفض العرب هذا التوجّه، وهم يصحون الآن وينفضون عنهم غبار الحكّام الفاسدين.

مذّاك، تدفقت كميات كبيرة من المياه في النيل والفرات، والقصة اليوم مختلفة كلّيًا. ففي نظرة تاريخية بعيدة، يمكن وصفها كانهيار داخلي من ثلاث مراحل. الأولى هي انهيار الحدود الخارجية لعالم الإسلام العربي. ويمكن أن نشمل في هذه المرحلة تحدي صدام حسين للغرب، نمو التنظيمات الجهادية وتوجهها لطريق الإرهاب الدولي، ووصول عناصر متطرفة إلى السلطة من الجزائر حتى أفغانستان. وأشار صامويل هنتنجتون، في مقالته الشهيرة حول صدام الحضارات إلى هذه الظاهرة. لكنه لم يسبر أغوارها عميقًا، ولا توقّع الاضطرابات الداخلية داخل الحضارة الإسلامية.

العراق، مقاتل من العشائر السنية (AFP)
العراق، مقاتل من العشائر السنية (AFP)

وكان الغزوُ الأمريكي للعراق وأفغانستان نقطةَ التحول في عملية انهيار الحدود الخارجية، ما أدّى إلى مرحلة الانهيار الثانية – انهيار العلاقات السنية – الشيعية. صحيح أنّ الغزو كان محفزًا لعمليات الدمقرطة، لكنه بالمقابل أخلّ بالتوازن الرقيق والطويل المدى بين الطوائف، ووضعها على مسار اصطدام. ومجددًا، يمكننا التنازل عن البحث الدقيق في جذور العملية، سواء طموح تنظيم القاعدة باستغلال الفراغ في السلطة لإقامة إمارة سنية راديكالية على الأرض، أو الموقف الميليشوي – الشيعي لمقتدى الصدر، أو المحاولة الشيعية لإقصاء السنة عن التأثير في الدولة. كل هذه الأمور معًا أدّت إلى انهيار التوازن الطائفي واندلاع حرب عالمية طائفية. توسعت الحرب وامتدت من العراق إلى سوريا والخليج، ويبدو أنها لن تتوقف قريبًا.

لكنّ العملية لم تتوقف هنا، واستمرّ الانهيار الداخلي. فالحرب بين السنة والشيعة فاقمت أيضًا الخلافات داخل العالم السُّني نفسه، وأدّت إلى المرحلة الثالثة. فإذا تأملنا في العمليّات الآنيّة في مصر في سياق المرحلة الثانية من الانهيار – الحرب السنية – الشيعية – يمكن ألّا يكون المهم فشل الرئيس مرسي في تحقيق وعود الثورة، بل الخوف المتزايد لدى الناس، ولا سيّما النخب المحافظة، من ميليشويّة الإسلام المتطرف. فالحروب الدينية، وحشية التفجيرات الجهادية في العراق، وسيطرة السنة المتطرفين على أجزاء من سوريا والعراق والنية المعلَنة في الإطاحة بزعماء تقليديين لإقامة إمارات وخلافة إسلامية، كلّ هذا عمّق الفجوة بين نموذج الدولة المثالي الذي وعد به الإخوان وبين الواقع الإقليمي، ونسج تحالفًا قويًّا بين الشعب الخائف والنخب المحافِظة ضدّ الإخوان المسلمين.

مؤيدو الرئيس المخلوع محمد مرسي خلال إعتصام إخواني (AFP)
مؤيدو الرئيس المخلوع محمد مرسي خلال إعتصام إخواني (AFP)

أخافت هذه العمليات بالأساس السعودية وعددًا من جيرانها، التي يشكّل الاستقرار والمحافظة مفتاح بقائها. من الواضح اليوم أنّ السعودية بذلت جهودًا كبيرة لإفشال مرسي، وأقامت بالتأكيد علاقة مع قادة الجيش المصري، ووعدت بالدعم الاقتصادي والسياسي لأي إجراء يقصي الإخوان عن السلطة.

وللمفارقة، تجد السعودية نفسَها في موقفَين متناقضَين بين المرحلة الثانية، التي تدعم فيها التنظيمات الميليشوية السنية في سوريا ضدّ الشيعة، والمرحلة الثالثة، التي تُحارب فيها التنظيمات نفسَها في مصر. لكن بين هذه وتلك، فإنّ الانهيار الداخلي في العالم السني يستمرّ ويتفاقم، ليس داخل مصر فحسب، بل أيضًا بين السعودية، الكويت، والإمارات العربية المتحدة، وبين قطر وعُمان، ووسط دول أخرى في شمال إفريقيا والمشرق. وهكذا يأخذ الصدع بالتوسع بين أجزاء واسعة من العالم العربي وبين تركيا (الدولة السنية أيضًا).

نساء مسلمات من الشيعة تستمعن إلى سرد وفاة الإمام الحسين، الضواحي الجنوبية لبيروت (AFP)
نساء مسلمات من الشيعة تستمعن إلى سرد وفاة الإمام الحسين، الضواحي الجنوبية لبيروت (AFP)

في مصر، سيستمرّ الصراع، وقد يتفاقم أيضًا. ويمكن أن نرى صدامات عنيفة بين مجموعات سنية في أماكن أخرى أيضًا. قد تؤدي هذه العملية إلى ضعف الجبهة السنية في سوريا والعراق في مواجهة الشيعة، الذين لا يزالون يحافظون على وحدتهم حتى الآن. لكن في نهاية الأمر، ربما بعد سنوات طويلة، نأمل أن يؤدي هذا الانهيار إلى تكوّن طاقة إيجابية، تعيد التوازن وتأتي بديمقراطية حقة.

اقرأوا المزيد: 708 كلمة
عرض أقل
راية القاعدة في العراق
راية القاعدة في العراق

كشف نادر حول وجود أزمة داخل القاعدة

سُرّ الكثيرون لسماع تصريح قائد التنظيم الإسلامي "جبهة النُصرة" في سوريا حول كون تنظيمه جزءًا من "تنظيم القاعدة"

لقد سُرّ الكثيرون لسماع تصريح قائد التنظيم الإسلامي “جبهة النُصرة” في سوريا حول كون تنظيمه جزءًا من “تنظيم القاعدة”. وقد ادعت أوساط من الخبراء أنه أخيرًا، وبعد مراوغة مستمرّة، يعترف أعضاء التنظيم بانتمائهم لشبكة الإرهاب الدولية. هذا إثبات واضح حول الادعاء الإسرائيلي-الأمريكي بأن كثيرين من الثوار في سوريا تربطهم علاقة فعلية مع “القاعدة”.

وقد كشف التصريح النقاب عن هذه العلاقة الواضحة، غير أنه كشف أيضا حقيقة أخرى وهي الأزمة الكبيرة القائمة اليوم داخل القاعدة، وبالأساس الأزمة بين الجناح العراقي والجناح السوري فيها.

وكان قد بدأ “رقصة الشيطان” هذه أيمن الظواهري ذاته. في أول بث علني له منذ قتل أسامة بن لادن، أعلن زعيم القاعدة الجديد عن أن “جبهة النُصرة” هي بالفعل فرع تابع لتنظيمه. وقد كان هذا الإعلان جزءًا من نقاش طويل حول انهيار الإمبراطورية العثمانية وإقامة الدول الصغيرة في الشرق الأوسط. وعلى نهج التقاليد الإسلامية، دعا الظواهري إلى توحيد هذه الدول تحت كنف إمبراطورية إسلامية جديدة.

أما من سارع إلى الرد على أقواله فكان أبو بكر البغدادي، زعيم القاعدة في العراق، الذي استبدل اسم مجموعته باسم “دولة العراق الإسلامية” (ISI). وقد أعلن البغدادي في تصريحه عن إلغاء الأسماء السابقة – “دولة العراق الإسلامية” و”جبهة النُصرة” وأعلن عن أنه سيتم توحيد العراق وسوريا منذ الآن تحت دولة واحدة “الدولة الإسلامية في العراق والشام”. على الرغم من أنه لم يذكر اسم زعيم الدولة المنتظر إلا أنه كان من الواضح من تصريحات مثل “لقد درّبنا مقاتلينا وأرسلناهم إلى سوريا” أو من إعلانه عن قراره السابق في إرسال المقاتل أبو محمد الجولاني إلى هناك لقيادة النضال، أنه يرى في نفسه القائد الأعلى ولذلك فهو سيكون الزعيم القادم.

لم يكن بإمكان محمد الجولاني عدم الرد على ذلك. كان رده الذي نُشر في نهاية الأسبوع المنصرم ناتج عن كتابة دبلوماسية تنمّ عن تفكير عميق وتصوّر الجولاني على أنه زعيم حذق. وقد افتتح التصريح بمقطع من سورة العنكبوت في القرآن الكريم، التي تتناول الإيمان وتشمل الآية “فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ”. يروي الجولاني في بداية التصريح إلى أي مدى فوجئ من تصريح زميله العراقي. ويقول: “لقد كانت هنالك بالفعل شائعات حول مثل هذا الخطاب للبغدادي، ولكن لم يتم إبلاغ أي شخص من المجلس الاستشاري في “جبهة النُصرة” بذلك، ولم يتم إبلاغ عبدكم الأمين”.

ويقول الجولاني بنبرة توبيخ دفينة، بما أن السر قد انكشف، يمكن الاعتراف بأن منظمتنا هي بالفعل جزء من القاعدة، وأنها وُلدت داخل المنظمة العراقية التي كانت لها بمثابة دفيئة ومنبت وقد تم تدريب مقاتليها هناك. وبالفعل، فإن الدّين الذي يستحقه الأخوة العراقيون والمهاجرون في خدمته (المقاتلون المتطوعون من الخارج) هو دين كبير جدًا، ولن نتمكن من سداده إلى الأبد. نحن فخورون جدًا بنصيبنا في النضال العراقي والتضحية غير المسبوقة التي بذلها المقاتلون العراقيون والمتطوعون. صحيح أن الشيخ البغدادي ذاته قد ساعدنا كثيرًا، وحتى أنه لبى نداءنا للمساعدة في المشروع الذي اقترحناه عليه – تحرير المضطهدين في الشرق (سوريا ولبنان). على الرغم من ضائقته فقد ساهم بمساعدتنا وأرسل إلينا مقاتلين، وعلى الرغم من قلة عددهم إلا أنهم نالوا بركة الله.

ويوضح الجولاني قائلا أنه صحيح أن الشؤون السورية تخص السوريين ونحن قد أجّلنا إعلاننا عن الانتماء إلى القاعدة ليس لإخفاء انتمائنا وليس بهدف إرضاء العراقيين، بل بسبب إرضاء زملائنا في التنظيمات الأخرى داخل سوريا وأولئك الذين يدعموننا من الخارج. (بكلمات أخرى – ناهيك عن أنه لم يتم تنسيق تصريح أخوتنا العراقيين معنا، بل إنه يفتقر إلى أي ركيزة. إنه يلحق الضرر بنا أيضًا في نضالنا داخل سوريا).

في الختام يعلن الجولاني عن وفائه للقاعدة ولزعيمها الظواهري وعن استعداده لتنفيذ أي أمر يصدر عنه، فيما عدا الأوامر التي تُعتبر كفرًا. غير أنه في الوقت ذاته يدمج أيضًا تحدٍ ليس خفيًا: “لن نغيّر اسمنا. سنقبى “جبهة النُصرة”، والإعلان عن وفائنا لن يغيّر أسلوب عملنا”.

هذه الإعلانات الثلاثة – تصريح الظواهري زعيم القاعدة، تصريح البغدادي القائد العراقي وتصريح الجولاني، القائد السوري – مثيرة بحد ذاتها بسبب ما تكشفه وما تحاول إخفاءه. على الرغم من اللباقة الظاهرية، على الرغم من التصريحات المتكررة حول الوفاء للطريق وللزمالة، من الواضح أن الحديث يجري هنا عن صراع عنيد حول المناطق، السيطرة والزعامة. يمكن لهذا الصراع أن يذكّر المتمرسين في أبحاث الشرق الأوسط بنزاع يكاد يكون مطابقًا من ناحية الغرائز والقوى، وقد تلحّف هو أيضًا بوشاح الأيديولوجية – الانشقاق بين حزب البعث السوري وحزب البعث العراقي الذي حدث على الحلبة ذاتها قبل أكثر من خمسين عامًا.

إن النضال بين الجناحين العراقي والسوري التابعين للقاعدة يمكن أن يعلّمنا عن قوة الحدود الثقافية على امتداد التاريخ بين الكيان السياسي الواقع على ضفاف فرات ودجلة وبين ذلك الذي على ضفاف نهر العاصي. وكما أن فكرة الوحدة العربية لم تنجح في ضمها داخل وحدة سياسية واحدة، كذلك الوحدة الاسلامية يمكن أن تفشل في هذه المهمة. إضافة إلى ذلك، ربما يمكن أن نتعلم من هذه الحادثة حول محدودية قوة القاعدة. كانت القوة الكبيرة للتنظيم كامنة دائمًا في الحقيقة أنها استبدلت النموذج الهرمي المتشدد بنموذج منتشر في سحابة الإنترنت. هذا هو السبب الذي جعل من الصعب محاربتها – إصابة أحد الأذرع وحتى الرأس، لم تصب سائر الأذرع. غير أن هذه المنظومة تكون ناجعة فقط طالما لم يكن لدى التنظيم سيطرة مباشرة على منطقة جغرافية. قد يكون من الممكن الآن، حين أصبحت الشبكة الراديكالية الجديدة تحت اختبار السيطرة المباشرة على الأرض، أن تنكشف نقاط ضعفها أيضًا.

اقرأوا المزيد: 809 كلمة
عرض أقل