مشهد غير اعتيادي في منطقتنا يظهر في مستشفى بمصر: زعيم عربي، رئيس مصر الجديد عبد الفتاح السيسي، يزور طالبة عمرها 19 عامًا تمّ الاعتداء عليها جنسيّا من قبل الحشود في ميدان التحرير، خلال احتفالات تنصيبه. يعتبر اعتذاره العلني: “أعتذر لك ولكلّ امرأة مصرية”، غير مسبوق حقّا، ويمكننا أن نتعلّم من خلاله شيئا أو اثنين عن الرئيس الجديد ورؤيته للواقع المعقّد في مصر.
إنّ اعتذار السيسي لكل امرأة في بلاده يؤكّد الواقع بأنّ ظاهرة التحرّش والاعتداءات الجنسية في مصر آخذة بالتضخّم لأبعاد وبائية منذ الإطاحة بالرئيس مبارك في بداية عام 2011. وفقًا لاستطلاع للأمم المتحدة لعام 2013، فإنّ 99.3% من النساء في مصر قد عانينَ من نوع معيّن من التحرّش الجنسي في المنزل، الشارع أو العمل، ويتراوح الأمر ما بين تحرّش لفظي حتى الاغتصاب. عانى من هذه الظاهرة، العابرة للقطاعات، الطبقات والمناطق الجغرافية، السائحات والمواطنات الأجنبيات بل واخترقت وعي العالم حين تمّ الاعتداء على مراسلة سي.بي.سي لارا لوجن بوحشية لمدة نحو نصف ساعة وتقريبًا تمّ سلخ جلدها من قبل الحشود الغاضبة في ميدان التحرير، وذلك أثناء الاحتفالات الجماعية بعد تنحّي حسني مبارك في شباط 2011.
لا تعتبر ظاهرة التحرّش الجنسي ظاهرةً غريبة في المجتمع المصري، وأيضًا استخدامها كسلاح سياسي. ففي فترة حكم مبارك، قام النظام باستخدام عصابات بلطجية مستأجرة لضرب الرجال والتحرّش والاعتداء الجنسي على النساء اللواتي يتظاهرن ضدّه. وقد وقعت الحادثة الأكثر شهرة عندما أطلق النظام عصابات البلطجية على المتظاهرات بل وعلى الإعلاميات اللواتي غطّينَ المظاهرات ضدّ الإصلاحات الدستورية الموالية للحكومة والتي تمّ سنّها عام 2005. بعد سقوط مبارك، وخصوصًا منذ صعود “الإخوان المسلمين” إلى الحكم، يمكننا أن ننسب الصعود الحادّ في نسبة التحرّش الجنسي (48.9% وفقًا لاستطلاع الأمم المتحدة) إلى عدد من العوامل: تفكّك النظام الاستبدادي وضعف سيادة القانون، التكتيكات الموجّهة والأجواء والنظرة إلى المرأة في الحياة العامّة.
الاغتصاب كسلاح
قام “الإخوان المسلمون” خلال فترة رئاسة محمد مرسي بالاستخدام المنهجي لهذا التكتيك من التحرّش، الاعتداءات الجنسية وتخويف النساء اللواتي سيتظاهرن ضدّ حكمه. وقع أحد أبرز الحوادث وفقًا لشهادات نساء تمّ الاعتداء عليهنّ، خلال المظاهرات الحاشدة في كانون الأول عام 2012 ضدّ القرارات الرئاسية التي ركّزت بيدي الرئيس صلاحيات لم يسبق لها مثيل، وضدّ مشروع الدستور الجديد الذي صيغ من قبل الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور والموالية للإسلاميين.
وقد تمّ خلال المظاهرات الحاشدة ضدّ حكم مرسي في 30 حزيران عام 2013، استخدام واسع النطاق لتكتيك الاعتداء الجنسي من أجل منع المتظاهرات من الوصول إلى ميدان التحرير، وأحيانًا بواسطة تجاهل الشرطة. وقد وجّه الإخوان المسلمون اللوم إلى المتظاهرين أنفسهم، وذلك لإبعاد التهمة السيئة عنهم. ساهم رجال من الحكومة وواضعو التشريعات من الإسلاميين كثيرًا بإنشاء أجواء عامّة من إلقاء اللوم على ضحايا الاعتداءات بمهاجمتهنّ، بل ووجّهوا تهم قذف في الإعلام المصري بخصوص السلوك الجنسي غير المناسب لبنات أسر معارضيهم السياسيّين. وقد اتّهمت الضحايا بأنّهن أردنَ هذه الاعتداءات واستمتعنَ بها، وسُمّيت المظاهرات الحاشدة في الميادين “الدعارة المنظّمة”. ومن الجدير ذكره أنّ الأذى في المجتمَع المصري التقليدي هو أذى مُضاعف: فإلى جانب الأضرار الجسدية والصدمات النفسية، يتم الإضرار بشرف ضحايا الاعتداءات وأبناء عائلاتهنّ، وكذلك الحال مع النساء اللواتي ألقيت تجاههن اتهامات القذف.
دلّت الاعتداءات الجنسية المنظّمة على التدهور العامّ في أوضاع حقوق المرأة في فترة حكم محمد مرسي. ولقد حاول “الإخوان المسلمون” إلغاء قوانين متقدّمة سُنّت في فترة مبارك بل وقرّروا أنّ اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على العنف ضدّ المرأة “غير إسلامية”، لأنّها تدعو إلى منح المرأة الحقّ في مقاضاة زوجها بتهمة الاغتصاب أو التحرّش. عارض الإخوان فكرة المساواة بين النساء والرجال في قانون المواريث، نقل سلطة إصدار الطلاق من الرجال إلى المحاكم، تقسيم الممتلكات بعد الطلاق، المبادرات التي تسمح للمسلمات بالزواج من غير المسلمين والمبادرات ضدّ تعدّد الزوجات. وكذلك فقد أيّد الإخوان ختان الإناث وطرحوه كواجب ديني، بدأوا بعملية الفصل بين الجنسين في الأماكن العامة، ومنعوا النساء من التمثيل الكافي في الحزب الحاكم، “حزب الحرية والعدالة”، في البرلمان وفي الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور. في الواقع، فقد انخفض تمثيل المرأة في تلك الفترة من 10% في ظلّ مبارك إلى 3%. وهناك نموذج آخر واضح في زيادة عدد حوادث اختطاف النساء والفتيات المسيحيات القبطيات، وإجبارهنّ على التحوّل إلى دين الإسلام وتزويجهنّ قصرًا. وفقًا للتقارير، فقد كانت تتم حوادث الاختطاف من هذا النوع على يد جهاز منظّم من النشطاء والمشايخ السلفيين، رجال الأعمال المسلمين ورجال السلطات القانونية التي تخطف.
تحذير- صور قاسية:
هل سيُحدث السيسي تغييرًا؟
وفقًا للمركز المصري لحقوق المرأة، فقد حدث تغيير كبير في ظلّ حكم السيسي في حقوق المرأة في مجالات متعدّدة من الحياة. وقد ظهرت هذه الحقيقة في الفرق بين دستور 2012 (الذي صيغَ تحت حكم “الإخوان”) والدستور الجديد في كانون الأول 2013. فعلى سبيل المثال، للمرة الأولى، تم منح النساء الحقّ في المواطنة الكاملة، أي إنّ مواطنة كلّ مولود مصري ستحدّد وفق مواطنة الأب والأم. وذلك بخلاف الوضع الذي كان قائمًا حتى ذلك الوقت، والذي واجهت فيه الأمهات المصريات اللواتي تزوّجنَ من مواطنين أجانب صعوباتٍ كبيرة في نقل الجنسية لأبنائهنّ. بالإضافة إلى ذلك، يلقي الدستور المسؤولية على الدولة في التوصل إلى مساواة في حقوق المواطنة، والحقوق الثقافية، الاقتصادية والسياسية بين النساء والرجال، بما في ذلك التمثيل الكافي في الهيئات التمثيلية، الحقّ في تولّي الوظائف العامّة بما فيها المناصب العليا في النظام القضائي، منع العنف ضدّ النساء، وإعطاء الحقّ للفتيات في المشاركة باتّخاذ القرار في شؤون تعليمهنّ. وبخلاف فترة حكم مرسي، وافق الدستور على التزام الدولة باتفاقيات حقوق الإنسان الدولية والتي صادقت عليها، ومن ضمنها اتفاقية حقوق المرأة.
ويُمنع لنا أن نعتقد بأنّ رئيس مصر الجديد نسويّ معروف، وفارس حقوق المرأة؛ ليس كذلك على الإطلاق. من المهمّ أن نذكر أنّنا نتحدّث عن السيسي الذي دافع في وقته عن “إجراءات كشوف العذرية” من قبل العسكر، وذلك في فترة حكم “المجلس الأعلى للقوات المسلّحة”. بعد سقوط مبارك، نفّذ رجال الجيش هذه الإجراءات في المعتقلات بميدان التحرير من أجل “الحماية من شكاوى الاغتصاب من قبل رجال القوى الأمنية خلال عملية اعتقالهنّ”. رغم أنّ السيسي وعد بأنّ هذه الكشوف ستتوقّف، ولكن ظلّت تواجه النساء الاعتداءات في فترة حكم المجلس العسكري، ذلك المجلس الذي عيّن الرجال فقط في لجنة وضع التعديلات الدستورية عام 2011. السيسي، الذي يعي قوة الجماهير في مصر، يعلم أيضًا أنّ هناك نسبة كبيرة من المواطنات المصريات اللواتي صوّتنَ لصالحه في الانتخابات الأخيرة وأهمية الحفاظ على الصورة العامة وصورة حكومته الجديدة. ساهم هذا الوعي، جنبًا إلى جنب مع الصدمة العامة العميقة في أعقاب تحميل الفيلم الذي يُظهر الاعتداء على الطالبة في الشبكة؛ إلى حدّ كبير في اعتذاره وتعهّده بالقضاء على هذه الظاهرة.
وقد سنّ الرئيس المؤقت، عدلي منصور، في أيامه الأخيرة في المنصب قانونًا يعرّف التحرّش الجنسي – لأول مرة – بأنّه جريمة تصل عقوبتها إلى خمس سنوات من السجن وغرامة مالية بقيمة 7000 دولار، ورحّب نشطاء حقوق المرأة بالخطوة، ولكنّها غير كافية في ظلّ غياب التنفيذ الصارم. واعتقلت الشرطة تسعة مشتبهين في تنفيذ الاعتداءات الجنسية خلال احتفالات تنصيب السيسي في ميدان التحرير، ولكن ليس واضحًا من منهم مرتبط بحادثة الطالبة؛ فهناك ما لا يقلّ عن خمس نساء أخريات قد أبلغنَ بأنّهن مررنَ باعتداء جنسي خلال التجمّع.
وكما كتب الدكتور مردخاي كيدر منذ وقت قريب في هذا الموقع، فإنّ مصر اليوم تحت حكم الرئيس الجديد بعيدة عن التجربة الديمقراطية – الليبرالية التي تحترم وتحمي حقوق الأفراد وأجساد مواطنيها، من كلا الجنسين. سيأتي الاستقرار الذي تسعى إليه الجماهير المصرية في المستقبل المنظور، على حساب هذه التجربة. ورغم كلّ ذلك – حتى ولو لأسباب شعبوية بحتة – فقد حدث شيء ما في الدولة العربية الأكبر في العالم، ويجب أن ننتظر لنرى إن كانت تلك هي علامات التغيير الذي تتمنّاه عشرات الملايين من النساء المصريّات.
نُشرت المقالة للمرة الأولى في موقع ميدا