منذ اندلاع الحرب الأهلية الدامية في سوريا، أصبحت البيئة السياسية والأمنية لحزب الله أكثر تركيبًا. رغم أن حزب الله بقي التنظيم العسكري الأقوى في لبنان، فإنّ اشتراك التنظيم اللبناني الشيعي بشكل عميق في الحرب الأهلية ولفترة طويلة مع الآثار الإقليمية المكثّفة؛ يؤدّي إلى تقويض تدريجي لمكانته داخل لبنان ويضرّ بحرية العمل وقدرته على إبراز قوّته تجاه أعدائه.
يحتاج حزب الله أن يتعامل وقتيًّا مع تحديّات داخلية وخارجية. في لبنان، المقسّمة أكثر من أي وقت كان بين داعمي بشار الأسد وبين معارضيه، يواجه حزب الله فقدان الاستقرار المستمرّ.
يؤدي الصراع المستمرّ في سوريا إلى ضغوط إضافية على لبنان والذي هو نابع من قدوم اللاجئين السوريين إلى أراضيه، والذين بلغ عددهم حتى نهاية عام 2013 إلى نحو مليون شخص؛ أكثر من 20% من مجموع سكّان لبنان، ومن المتوقع أن يزداد العدد ليصل إلى مليون ونصف حتى نهاية عام 2014.
على ضوء الوضع غير المستقرّ، فقد كانت لحزب الله مصالح واضحة في ملء الفراغ السياسي في لبنان، والذي استمرّ أحد عشر شهرًا والتي أديرت خلالها الدولة دون حكومة. انتهت هذه الأوضاع في منتصف شباط 2014، حين نجح رئيس الحكومة المكلّف، تمام سلام، في كسر الجمود السياسي وإعلان إقامة حكومة وحدة وطنية مؤسسة على اتفاق ائتلافي مقسّم وفق صيغة 8-8-8.
ووفقًا لهذه الصيغة فمن المفترض أن تحظى الحركتان الرئيسيّتان – معسكر الرابع عشر من آذار برئاسة سعد الحريري ومعسكر الثامن من آذار بقيادة حزب الله – بثمانية مناصب وزارية لكل واحدة منها، حيث يعيّن رئيس الحكومة مع الرئيس سليمان بقية المناصب الثمانية المتبقّية.
ألزم الاتفاق جميع الأطراف بإجراء تنازلات، وأُجبر حزب الله على الموافقة بأن تكون وزارات مهمة مثل وزارة الدفاع، القضاء والداخلية، بيد معسكر الرابع عشر من آذار. ومع ذلك، لم يخاطر حزب الله بشكل كبير بدخوله في الحكومة الجديدة، حيث إنّ لكلا الحركتين هناك حقّ النقض على قرارات الحكومة.
ففي الأشهر القادمة سيكون على الحكومة اتخاذ سلسلة من القرارات الحاسمة؛ إجراء إصلاح في قانون الانتخابات كجزء من التحضيرات للانتخابات البرلمانية في تشرين الثاني 2014 والرئاسة، مواجهة العنف الداخلي المتزايد واستمرار مشاركة حزب الله في الحرب الأهلية السورية، وأيضًا الحاجة إلى التعاون مع المحكمة الدولية الخاصة في قضايا لبنان ضدّ المتّهمين في اغتيال رفيق الحريري والتي بدأت في 16 كانون الثاني 2014، فإنّ حقّ النقض المعطى للتنظيم يضمن عدم اتخاذ أي قرار وطني مصيري دون موافقته.
فضلًا عن ذلك، فإنّ استقلالية التنظيم في حمل السلاح وتراجعه عن المشاركة في الساحة السورية، تُناقش في نقاشات البرلمان الأولى للحكومة الجديدة في لبنان، وقد أعلن حزب الله بأنّه لا ينوي التنازل عنها. وهكذا، في المفاوضات الصعبة مع خصومه السياسيّين، نجح التنظيم في التأكد من إدخال بند يدعم “المقاومة” إلى برنامج الحكومة.
ومع ذلك، اضطر التنظيم إلى التنازل عن بند متعلّق بشكل واضح بالصيغة الثلاثية (تريبارتي) والتي وحّدت في الماضي كلّا من الجيش، الشعب والمقاومة، والاكتفاء بصيغة غامضة تعترف بحقّ كل مواطن لبناني في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. وبالإضافة إلى ذلك انتقد حزب الله دعوة الرئيس سليمان في الحفاظ على إعلان بعبدا؛ وهو وثيقة خُصّصت للحفاظ على حيادية لبنان إزاء الصراعات الإقليمية المستمرّة بشكل عامّ، وبإزاء الحرب الأهلية السورية بشكل خاص.
وتمنح الحكومة الجديدة فرصة لحزب الله في دفع خصومه السياسيّين إلى التعاون في الصراع ضد ما يسمّيه التنظيم “التحدّي التكفيري”؛ أي صعود التنظيمات السلفية – الجهادية، التي تعمل من داخل لبنان.
أعلن الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، عن ذلك خلال خطاب ألقاه في يوم القدّيسين، بمناسبة وفاة عدد من الشخصيات البارزة في التنظيم، من بينها عماد مغنية واللقيس وآخرين. وقد تطرّق في خطابه إلى الخطر الذي جلبته التنظيمات التكفيرية العاملة في سوريا ولبنان، وحذر من أن تكون هذه التنظيمات مستغلّة من قبل إسرائيل و”داعمين عرب” آخرين (يقصد المملكة العربية السعودية) لزرع التقسيم والنزاع.
إن مشكلات حزب الله مع التنظيمات السلفية الجهادية المحلية ليست سياسية فحسب: ففي السنة الأخيرة حدث ارتفاع كبير بالهجمات ضدّ حزب الله، بما في ذلك الاغتيال الذي طال أحد مسؤولي التنظيم حسن اللقيس، والعمليات الإرهابية ضدّ أهداف متعاطفة مع حزب الله مثل العمليّة الانتحارية في سفارة إيران وأهداف مدنية في بيروت والبقاع.
لا شك أنّه من الناحية العسكرية فإنّ حزب الله منظّم، ومجهّز ومؤسّس بشكل أفضل من أعدائه في الجهاد السني، ولكن ارتفاع أعمال العنف الموجهة إليه وإلى جمهور منتخبيه الشيعة، هو إشارة تدلّ على تغيير في دوره السياسي وسمعة التنظيم “الذي لا يهزم” ومتأثرة بمشاركته في الحرب الأهلية السورية.
تجبر التهديدات الداخلية حزب الله على زيادة رقابته وحراسته لنقاطه القوية التي تحت حمايته وبالمقابل تلزمه بتكريس المزيد من الجهود لإثبات مشاركته وحضوره في المجتمع الشيعي بلبنان.
وهذا للحفاظ على هيبة ومصداقية التنظيم أمام المجتمع الشيعي، ومن أجل إقناع داعميه التقليديين بقدرته على حمايتهم والتقليل من الضرر الذي يحلّ بهم كنتيجة مباشرة لسياسته في سوريا.
اعتمد التنظيم طريقة أخرى في مواجهة الهجوم ضدّه وذلك من خلال التعاون مع القطاع الأمني في لبنان. فمساعدة كهذه لها أهمية كبيرة من ناحية العمليات الميدانية ومن الناحية السياسية، حيث إنّه من المهم لدى حزب الله أن يضمن بأن تشيع وتُعالَج الهجمات ضدّه وضد جمهوره على أنّها هجمات إرهابية ذات طابع وطني، وليست هجمات موجّهة بشكل خاص ضدّه بحيث تكون مشكلة محصورة به وعليه أن يقوم بحلّها بقواه الذاتية.
أصبحت التحدّيات الداخلية اللبنانية أمام حزب الله أكثر تعقيدًا بعد مشاركته العميقة في سوريا. فمشاركة التنظيم في عمليات الدفاع والهجوم حولته سوية إلى مضاعف لا يستهان به لقوة نظام الأسد.
بكلمات أخرى، فإنّ حزب الله “مُستَوعَب كلّه” في سوريا، ويبدو أنّه من غير المحتمل تغيّر ذلك في المستقبَل القريب. إنّ هذه الاعتبارات الاستراتيجية تساعد في تفسير سبب كون الحفاظ على قواعد هادئة في أرض الوطن بلبنان مصلحة عليا للتنظيم، وفي المقابل في منع، أو على الأقل تأخير تصاعد التوتّر الحالي مقابل عدوّه التاريخي؛ إسرائيل.
وفي هذا السياق فقد تم في الأسابيع الثلاثة الأخيرة تنفيذ أربع عمليات إرهابية مختلفة على الأقل من إطلاق القذائف ووضع العبوات الناسفة على الحدود الإسرائيلية في هضبة الجولان ومنطقة جبل دوف، وكانت أخطرها يوم الثلاثاء، 18 آذار 2014.
في جميع الأحوال فقد ظهر حزب الله باعتباره منفّذ ممكن، الذي يحاول من جهة تأكيد سمعته كزعيم للمقاومة الوطنية في لبنان وحاميها ضد العدوانية الإسرائيلية، ومن جهة أخرى منع التصعيد العسكري ضدّ إسرائيل.
من خلال التركيز في العمليات ضد إسرائيل بواسطة الجولان، يستطيع التنظيم الإشارة لإسرائيل بأنّ المجموعة قادرة على تقويض المشاكل على حدود إسرائيل من خلال سوريا دون توسيع ساحة المعركة إلى لبنان. المصلحة الإسرائيلية هي عدم الانجرار إلى الحرب الأهلية السورية وانعدام الاستقرار في لبنان. ستحسن إسرائيل الفعل لو حاولت منع التصعيد من خلال الحفاظ على ردود فعل عسكرية مركزة وموزونة.
نُشرت المقالة للمرة الأولى في موقع معهد أبحاث الأمن القومي