كانت تلك إحدى أجمل الحفلات التي شاهدتها في حياتي. سافرت مع عدد من الأصدقاء إلى حفلة المطربة اللبنانية الأسطورية فيروز في عمان بالأردن، ونسينا أنفسنا من شدة التأثر. كان ذلك في نهاية كانون الثاني عام 1999، عندما كان الملك حسين مريضا جدّا. ورغم الاحتفاظ بكرسي له في القاعة، كان الجميع يعلم أنّه لن يأتي.
افتُتح الحفل بالنشيدين الوطنيين، الأردني المضيف واللبناني للضيفة، كان ذلك غريبا على مسمعي، ولكنني علمت أنّني لحفل من هذا النوع جئت. علاوة على ذلك، فإنّ أغنيات فيروز وأداءها، مع ردود الفعل القوية من قبل جمهور المعجبين، والرقصات العفوية والحوار الذي ليس بالكلمات بين المطربة وجمهورها؛ كل ذلك تجاوز أي نشيد وطني وأنسى تماما الافتتاحية الرسمية للحفل. استمتعنا كثيرا، حيث قمنا في مساء اليوم التالي بشراء بطاقات للحفلة الثانية. كنّا محظوظين. كانت تلك ناجحة ومؤثرة أكثر من سابقتها.
المطربة اللبنانية العملاقة فيروز (AFP)
وقد قضينا في شراكة بقية العرب في العاصمة الأردنية الذين قدمنا معهم في زيارة منظمة من يافا. جاء هؤلاء من مدن وقرى مختلفة في أنحاء إسرائيل/ فلسطين، بينما فوجئ بعضهم من وجود يهود يسافرون إلى حفلة فيروز، بدا الأمر للآخرين واضحا وفقط اختلط عليهم مظهري الأشكنازي.
أذكر أن إحدى الصحف الشهيرة أرسلت مراسلا للحفل وأساءت إليه. لحسن الحظ، فالمجتمع الإسرائيلي اليوم منفتح أكثر بقليل من الماضي على الموسيقى العربيّة. على سبيل المثال، فاز عرض لينا مخول في الموسم الثاني من برنامج الواقع “The Voice”، مع أغنية بالعربية لفيروز ألهبت ليس الحكّام فحسب بل أيضًا معظم الجمهور. صحيح أن هذه معالجة قام بها الملحن زياد الرحباني، نجل فيروز، لأغنية إيف مونتان “Les Feuilles Mortes” وبدا أنّ النغمة كانت سهلة على الأذن الإسرائيلية. ولكن يمكننا أن نرى تجديدا في واقع حضور اللغة العربية في برنامج شعبي يتوجه إلى الجمهور العريض.
ستقدّم مخول في نهاية الأسبوع القادم (5 كانون الأول) في قاعة سانت جوزيف في الناصرة حفلة تكريم لأغنيات فيروز التي احتفلت مؤخرا بعيد ميلادها الثمانين ومن بينها أغنيات كتبها زياد الرحباني.
https://www.youtube.com/watch?v=LkGn0PmNDoc
عملت فيروز منذ بداية احترافها في سنوات الخمسينيات مع الإخوة عاصي ومنصور الرحباني، كما وتزوّجت من الأول أيضًا. عُرف الإخوان رحباني، اللذان كانا ملحّنين، موسيقيين، كاتبي أغان ومسرحيات، في العالم العربي بفضل إبداعهما، وأسلوبهما الموسيقي المميز، وتأثيرات الأنماط الموسيقية المختلفة التي دمجاها مع إبداعهما في الموسيقيّ المحلية، وخصوصا بفضل الأغنيات التي ألّفاها ولحّناها للعروض المسرحية. في بداية سنوات السبعينيات اشتهرا في العالم الغربي أيضًا، وخرج الثلاثة إلى رحلة حفلات في الولايات المتحدة ودول أخرى في أوروبا. كانت أغنيتهم الأكثر شهرة هي “حبيتك بالصيف”، والتي تم تحويلها تحت اسم “Coupabl” (مذنب) لجان فرانسوا ميشيل. أدى أداء الأغنية الفرنسي إلى اشتهار الأغنية في جميع أنحاء العالم. ولا يعلم الكثيرون اليوم أنّها في الأصل أغنية لفيروز والأخوين رحباني.
وقد أصبح زياد الرحباني أيضًا، وهو نجل فيروز وعاصي، موسيقيّا مبدعا، ومؤلفا للمسرحيات الساخرة، وملحّنا موهوبا غزير الإنتاج، ومغنيا وممثّلا. في سنّ السابعة عشرة، عندما كان والده يُعالج في المستشفى واضطرت والدته للغناء دونه، لحّن لها أغنية “سألوني الناس”، التي أصبحت إحدى أشهر أغنيات فيروز. وتمّ مؤخرا تسجيل الأغنية بنسخة عبرية أيضًا، “سألوني”، لفرقة “توركيز”. وقد أثارت الفرقة، التي تقيم الحفلات في هذه الأيام مع أغنيات فيروز، بعضها مترجمة للعبرية وبعضها بالعربية، ضجة خفيفة في العالم العربي. من جهة، كان من اعتبر ذلك بادرة جميلة للمغنية وخطوة مهمة للتقريب بين الشعوب. ولكن إذا أردنا أن نحكم وفقا للتعليقات في الشبكات الاجتماعية، فإنّها في معظمها تعليقات غاضبة تنظر إلى هذا العمل كـ “سرقة ثقافية”، تهين المغنية ومبدعي الأغاني. “لا يبدو لي”، كتب أحد المعلّقين، “أنّ فيروز ستكون فخورة إذا علمت أنّه يتم أداء أغنياتها بالعبرية في إسرائيل”. وتطرّقت تعليقات أخرى أكثر شدّة إلى أنّه بعد أنّ سرق الإسرائيليون أراضي الفلسطينيين وبعد أن سرقوا الأطعمة المحلية، يسرقون الآن التراث الثقافي والموسيقي العربي.
https://www.youtube.com/watch?v=Ntdox12Dl0M
ويبدو أنّ الأمر لا يشغل فيروز ونجلها زياد الذي يلحّن معظم أغنياتها في العقود الأخيرة. ويفكر زياد، الذي اشتهر في العالم العربي بفضل ألحانه الجميلة وبفضل المحتوى الساخر والشائك في أغنياتها ومسرحياته، في مغادرة لبنان لصالح روسيا. قال في مقابلة معه إنّه لن يهاجر وإنما سينتقل فقط للعمل في التلفزيون الروسي، ولكن من الواضح أنه مصاب بخيبة أمل من حياته في لبنان. هناك من يدعي أنّ السياسة تصعّب حياته هناك، سواء بسبب آرائه الشيوعية، أو بسبب تأييد فيروز لحسن نصر الله والنظام السوري، أو بسبب صراع نشأ بينه وبين رئيس تحرير صحيفة “الأخبار” التي يكتب عمودا فيها. وهناك من يدعي أنّه يائس من التجاهل الإعلامي لعروضه الأخيرة. وهناك من يشير إلى أنّه منذ اكتشافه أنّ ابنه، عاصي، ليس ابنه البيولوجي، لم يعد إلى حالته العادية. وأيا كان السبب، فهو يبدو متعبا، مكسورًا ومصابا بخيبة أمل.
مجلة ثقافية من دبي تعرض الشرق الأوسط متعدد الثقافات
على ضوء الحقيقة أن الإعلام الغربي يعرض العالَم العربي عرضا يبرز بالأساس المشاكل والنزاعات، قرر أخَوان من دبي أن يُنشئا مجلة غايتها عرض التعدد الثقافي المتنوع في الشرق الأوسط
قبل عدة سنوات، حين بدأت بزياراتي المتكررة للقاهرة، رافقني السؤال الأبدي في كل سفرة سافرتها، من إسرائيليين وغير إسرائيليين معا، إن كنت أعرّف عن نفسي في مصر كإسرائيلي وكيف يتعاملون مع إسرائيليتي. اعتدت أن أسافر مرتين في السنة، وأحيانا أمكث شهرا كاملا. نعم، قلت دائما إني من إسرائيل. كان سهلا عليّ نسبيا. بعربيتي المصرية من البيت، أثرت فضول المصريين الذين يحادثونني والذين طلبوا أن يعرفوا كيف أتكلم اللهجة المحلية. كان منهم من ظنّ بداية أنني عميل موساد أو من هذا القبيل. بل وحدث أحيانا أن اتهمتني بذلك صحفية مصرية اتهاما صريحا في مقابلة مفبركة أجرتها معي ونشرتها في صحيفة “اليوم السابع”. لكن هذه الحالات كانت قليلة. قليلة جدا إذ أعدّد كل واحدة منها. على الأغلب، تعريف نفسي كابن ليهود مصريين لفت انتباه الناس الذين قابلتهم أكثر من هويتي الإسرائيلية، وعامة، كان يرافق ذلك الابتسامةُ والتحية الشائعة في مصر جدا “نوّرت مصر”.
ومع ذلك، كان يكفيني تجربة غير سارة واحدة كي تعكّر كل صفاء التجارب السابقة، مهما كانت جميلة ومؤثرة . هذا هائل، فكرت في نفسي في ختام إحدى الزيارات. مكثت شهرا كاملا في مصر، قابلت على الأقل 10أناسا مختلفين كل يوم- في البقالة، الصالون، أكشاك الكتب، المقاهي، في كل مكان تقريبا- حين سألوني من أين أنا وكيف أتحدث عربية مصرية بهذه الطلاقة. كانت كل الردود تشرح الصدر، دافئة وعلى الأقل تثير الاهتمام. وها هي، تكفي تجربة واحدة، قال فيها بائع صغير لي في حانوت صغير إنه لا يحب الإسرائيليين، كي تحتل مكان كبيرا وقاسيا في من قلبي، وربما ستصبغ كل مكوثي في القاهرة بألوانها الرمادية الغامّة.
العرض العالمي للعالم العربي ينشغل كثيرا بالمشاكل والنزاعات- من نزاع حول الحدود، مخزون النفط ومصادر المياه إلى تفاصيل لبس النساء- وأقل من ذلك، بشكل بارز، في الحياة اليومية، في الثقافة العربية الشعبية، في التوجهات الاجتماعية المختلفة (وأحيانا متضاربة)، في التوجهات الليبرالية، وبالطبع بالفن، الفن المعماري، الشعر والأدب
ولم أكتشف شيئًا جديدًا باستنتاجي المزعج هذا. إذ يُعرف كم تنغرز التجارب الصعبة في وعينا وأنفسنا انغرازا قويا مؤثرا أكثر من التجارب الإيجابية. أحيانا، يتطلب الأمر منا سنوات حتى نتمكن من التأقلم معها. لكن بعودتي إلى البلاد ثانية، لم أستطع مشاهدة الإعلام الإسرائيلي والعالمي بنفس النظرة التي كنت أشاهده منذ سنين مضت. وبالطبع ليس فيما يتعلق بعرض العالم العربي. حروب، عمليات إرهابية، اعتقالات، إعدامات (وقتها علنية، واليوم مصورة)، قتل على خلفية شرف العائلة، ختان النساء، التهميش الديني، قطع أيدي السارقين، اختطافات، رهائن، وهلم جرا بما حوَت الجرّة. صبغ هؤلاء العالم من حولي بلون رتيب متجهم لا يوازي التنوع الواسع الذي رأيته سابقا، هناك في القاهرة. طبعا أجريت أبحاث بخصوص تغطية العالم العربي في الإعلام العالمي، وأعترف بأنني لم أهتم يوما بفحصها. من الواضح لي، على أيّة حال، أن العرض العالمي للعالم العربي ينشغل كثيرا بالمشاكل والنزاعات- من نزاع حول الحدود، مخزون النفط ومصادر المياه إلى تفاصيل لبس النساء- وأقل من ذلك، بشكل بارز، في الحياة اليومية، في الثقافة العربية الشعبية، في التوجهات الاجتماعية المختلفة (وأحيانا متضاربة)، في التوجهات الليبرالية، وبالطبع بالفن، الفن المعماري، الشعر والأدب وإلخ. قطع الرؤوس، على ما يبدو، ما زال يجمع الكثيرين. مرة في الساحة، اليوم على الشاشة.
صورة من مجلة Brownbook (Facebook)
لحسن حظي، لست وحدي أفكر كذلك. يتأثر ملايين العرب بالصورة المنحازة التي كونتها عنهم وسائل الإعلام الغربية على مدى التاريخ، ولا سيما عملية 11 أيلول الإرهابية، وذلك من غير أن يضطروا لاجتياز الفحص الأمني في مطارات بن غوريون أو JFK. لمن يعيش في العالم العربي ويتلقى الإعلام الغربي، تكفيه نشرة أخبار واحدة كي يدرك كيف يرتسم عالمه في الخارج. والصورة، بتصريح مكبوت، غير محمودة قطعا.
هكذا أحس أيضا الإخوان من دبي، أحمد وراشد بن شبيب، المبادران، والمصدران للمجلة الدورية كل شهرين ”Brownbook”. في تطرقه إلى دبي، قال راشد في مقابلة معه، إن المشكلة مع وكالات الأنباء الغربية أنها تعرض صورة مشوّهة: “إنها تتركز فيما هو مألوف. إنها ترسل لدبي مراسلا ليوم أو يومين، الذي ينظر إلى الجزء الأسوأ في موضوع ما ويقوم بعرضه”. من ناحية تجارية، يقول الراشد، هذا معروف. وهذا أيضا موجود. نعم هناك مشاكل. لكن، حسب تعبيره، كل الأمور الأخرى، الجميلة، التي تعرضها دبي لا تحظى بالتغطية: العروض الفنية، معارض التصميم والأزياء، المهندسون المعماريون الموهوبون وغيرها. كان هذا الحافز الذي وقف وراء مبادرتهما، والذي جعل في النهاية بعض المشاريع ترى النور.
وُلد التوأمان بن شبيب، اللذان الآن بالكاد يبلغان ثلاثين عاما، في دبي لعائلة ميسورة. كان جدهما وزير الاتّصالات الأول للإمارات العربية المتحدة وأبوهما يعمل كمطوّر تجاري. لكن يبدو أن تأثير أمهما فيهما لم يكن أقل شأنا. لقد قالا في مقابلة معهما إن خلفيتهما الثقافية التي نشآ فيها أثرت فيهما، لأن أمهما اهتمت أن يكونا دائما منخرطين في إطار أية شبكة اجتماعيّة كانت- عن طريق المدرسة الصيفية، التعليم الجامعي، أو المؤسّسات الثقافية الأخرى- من خلال الاستثمار في تطوير اهتمامهما بالمتاحف والشؤون الثقافية عامة. هذا، حسب تعبير أحمد، مما غرس فيهما روح المبادرة وقدرة التعبير.
صورة من مجلة Brownbook (Facebook)
بعد إنهائهما علم الاقتصاد في بوسطون ولندن، وعملا في مجال المصارف لمدة قصيرة، وفرا بعض المال كي يعودا لبلادهما لتنفيذ مشروع المبادرة الأول لهما سنة 2006: خدمة الإرساليات في الشبكة، الأولى من نوعها في الإمارات العربية المتحدة، التي تعمل 24 ساعة، وتسمى Brownbag على ما يبدو على اسم كيس الورق البني للحوانيت في الولايات المتحدة. كان هذا المشروع الأول من نوعه في الإمارات العربية والأول لهما كمبادرين تجاريين. حسب تعبيرهما، لقد حدثت فيه بعض الأغلاط، وهذا حسنٌ. لم يكن هذا الوقتَ الملائم لمشروع كهذا لينجح، لكنه بالتأكيد قد أدى بالمشاريع التي ستأتي بعدُ إلى أن تنجح.
طلبت بعض الشركات التجارية التي تعرّفت على القدرة في مشروع الأخوين نشر نفسها في موقع الإرساليات. تحت ذلك، عرض الإخوان على هذه الشركات لا أن تنشر عن نفسها في الموقع بل عن طريق ملصقات يصدرونها وتصل مع كل إرسالية. كانت الفكرة أن تطبع ملصقات صغيرة مع لمحات عن الفن المحلي، الثقافة الحالية، التصميم وأسلوب الحياة. بعد سنة من ذلك، يصبح الملصق الصغير والساذج أحد أكثر المجلات جمالا واستثمارا في العالم العربي “Brownbook”.
https://www.youtube.com/watch?v=HF_6aCBUT6g
تُباع اليوم “Brownbook” بعشرات آلاف النسخ وحول العالم: بيروت، باريس، لندن، الدار البيضاء، نيويورك، طوكيو وغيرها. يعتبرها محرروها باختصار “كدليل مدني للشرق الأوسط”. لكنها حقا أكثر من ذلك. هذه مجلة تتركز في الفن، التصميم، أسلوب الحياة، والثقافة عامّةً، في الشرق الأوسط، شمال إفريقية، والعالم الإسلامي عموما. تجعل بنية المجلة، من ورق لامع سميك، تجربة القراءة بها حقا شبيهة بقراءة كتاب أكثر من كونها مجلة، والأقسام فيها جذابة: بدءا من النساء والشخصيات المميزة، مرورًا بِالمواضيع الرئيسية المختارة في كل عدد، وانتهاء بدليل تجوّل مصغر لإحدى المدن أو المناطق الأكثر جذبا في المنطقة.
مجلة “Brownbook” هي بلا شك مجلة ثقافية. ثقافة بالمعنى الواسع للكلمة: السائدة والحصرية، العالية والضحلة (إن كان ما زال هنالك داع لاستعمال هذه المصطلحات السخيفة)، الشعبية والخاصة، المطبخية، البصرية والسمعية، السياحية والمحلية، العربية والغربية. وفرة وثراء في المقالات، الأفكار، المبادرات، المتاحف، المعارض، مجالات العمل والإبداع، وبلا كلمة واحدة عن داعش. ليس لأنه غير موجود. بل لأن ذلك أمر نسبي
وهذا ما أراد الإخوان بن رشيد حقا أن يصدراه للعالم. “لقد أردنا الحديث عن المنطقة بطريقة جديدة”، قالا في مُقابلة معهما. “هذه المنطقة ليست فقط ذات صراع سياسي، وليست فقط الوصمة التي وُصمت بها. نعم تتم هنا أمور مثيرة للاهتمام، فهنا أناس يلفتون الانتباه وأناس يغيّرون الأمور، وأردنا أن نضعهم في الصدارة”. ولم يريدا أن يفعلا ذلك فقط أمام عيون الغرب الرامقة، بل بالأصل من أجل سكان المنطقة. كي يرى الناس إلى أي مدى يمكن أن يطمحوا، وليكونوا فخورين بما لديهم لِيَعرضوه. “لا نريد عرض الشرق الأوسط أمام أعين العالم فقط، بل أمام الشرق الأوسط نفسه”.
مثلا، في قسم الشخصيات في الأعداد الأخيرة يمكن الاطلاع على مقالات ومقابلات مع المهندسة المعمارية من البحرين، نورا السايح، مع مصور الأزياء السنغالي عمر فيكتور ضيوف، مع الطاهية وفنانة الطبخ اللبنانية أنيسة الحلو، مع ممثلة ومغنية الـ “البانك (Punk) المغربية شيما بن عشّا، مع مصممة الأزياء الجزائرية نوريا آيرون التي أنشأت محلا في المغرب، أو مع محرري مجلة Rukh للثقافة العربية المعاصرة الصادرة في باريس. من بين المواضيع التي خصصت لها عدة أعداد من المجلة يمكن أن نجد مثلا: مجلة الموسيقى من الكلاسيكية إلى العصرية والبديلة، عددا مخصصا للجزائر عامّةً وتطور كل الجزائر خاصّةً، عددا عن الجاليات العربية في البرازيل عن المميزات والشخصيات الأبرز فيها، عددا عن البيوت والتصميم الداخلي، وغيرها. لكل عدد ألحِقت “جوائز” صغيرة، مثل قاموس صغير للأمازيغية، لغة الأمازيغيين، الذي رافق عدد الجزائر ويشمل صور الحروف وعدة كلمات أساسية وكلمات مفتاحية؛ كراسة صغيرة مع نوتة أغنية “ألف ليلة وليلة” التي لحنها بليغ حمدي، وغنتها أم كلثوم؛ دليل تزلج للعالم الإسلامي الذي يضم مواقع التزلج الأفضل في المغرب، الجزائر، تركيا، لبنان وإيران؛ كراسة تصميم ساعات، حقائب وأدوات زينة، للأخوات حركات اللواتي نشأن بين بيروت والدار البيضاء؛ دليل وجيز للموسيقى البديلة الحالية في العالم العربي؛ وغيرها.
صورة من مجلة Brownbook (Facebook)
مجلة “Brownbook” هي بلا شك مجلة ثقافية. ثقافة بالمعنى الواسع للكلمة: السائدة والحصرية، العالية والضحلة (إن كان ما زال هنالك داع لاستعمال هذه المصطلحات السخيفة)، الشعبية والخاصة، المطبخية، البصرية والسمعية، السياحية والمحلية، العربية والغربية. وفرة وثراء في المقالات، الأفكار، المبادرات، المتاحف، المعارض، مجالات العمل والإبداع، وبلا كلمة واحدة عن داعش. ليس لأنه غير موجود. بل لأن ذلك أمر نسبي.
لا تتوقف غالية بن علي عن المفاجأة. بعد أن مثّلت في عدة أفلام، ظهرت كراقصة، أخرجت أغانٍ أصلية خاصة بها، جدّدت كلاسيكيّات عربية معروفة، غنّت الفلامنكو بالعربية والأناشيد الدينية بأسلوب هندي، تعاونت مع المطربة الفرنسية – الأرمنية نارا نويان ومع فرق موسيقى إلكترونية، غنّت مع فرق مختلفة لموسيقى الجاز حول العالم ومع الموسيقي المصري الحائز على جائزة غرامي فتحي سلامة، غنّت في القاهرة مع المطرب “الشعبي” أحمد عدوية من جهة، وفي الإسكندرية مع فرقة الروك – جاز البديلة “مسار إجباري” من جهة أخرى. بعد كل ذلك، تمكّنت بن علي في الشهر الأخير فقط من إصدار أغنية جديدة مصحوبة بعمل فيديو خاص بها، والغناء في مهرجان موسيقى إفريقي في لندن والغناء مع مجموعة مغنيي موسيقى ألمانية كلاسيكية “The Vocalconsort Berlin” في ليتوانيا ومع الفرقة البلجيكية ”Zefiro Torna” في أداء خاص سُمّي “رمزية العاطفة”، وقد أدوا فيها توزيعات موسيقية غربية وعربية لـ “نشيد الأنشاد”.
ويبدو أنّ ليس هناك أي نصّ يشبه شخصية بن علي أكثر من “نشيد الأنشاد”: من جهة، فهو أغنية حبّ مثيرة بين رجل وامرأة يتوجّه كلّ منهما للآخر، ومن جهة أخرى، هو نصّ ديني يُعتبر رمزًا للعلاقات بين الله والمؤمنين. التقليد والحداثة، الإيمان والجرأة، الغرب والشرق، البوب والكلاسيكية، الفنّ البصري والفنّ الصوتي؛ جميع هذه تلتقي عند بن علي، وتنصبّ إلى داخل صوتها المنخفض والعميق، والذي يبدو وكأنّه ينبع من رحم الأرض، من بحّة في الصوت مع وضوح، الغناء النسائي مع الغناء الصوفي ونداء المؤذن، والغناء مع الرقص.
تُعتبر بن علي مطربة – كاتبة، راقصة، ممثلة وفنّانة فيديو تونسية، تعيش في بلجيكا. وُلدت عام 1968 في بروكسل لوالدين هاجرا من تونس كطالبين للطبّ، ونشأت في منزل يحبّ الفنّ والموسيقى. حين كانت في الثالثة مع عمرها عادت إلى تونس مع أسرتها، التي انتقلت للعيش في مدينة جرجيس الساحلية جنوبي البلاد، وحين كانت في الواحد والعشرين من عمرها عادت للعيش في بروكسل حيث درست التصميم الجرافيكي. وقد تعرّضت هناك أيضًا لثقافات مختلفة وكانت منفتحة على تأثير الأساليب الموسيقية المختلفة. عام 1996 ظهرت للمرة الأولى كمطربة، وفي غضون مدة قصيرة تمّت دعوتها للغناء في فرنسا والبرتغال. عام 2000 شاركت للمرة الأولى في فيلم “موسم الرجال” للمخرجة التونسية مفيدة التلاتلي، ومنذ ذلك الحين لديها أعمال عديدة.
بين زرقة البحر وصفرة رمال الصحراء، كما تصف بن علي، كان السائحون والراديو الوسيلتين الوحيدتين اللتين ربطتا حياتها في جرجيس مع العالم الخارجي. وكانت المؤثرات كثيرة: الموسيقى الكلاسيكية المصرية، الأغاني الفرنسية، الأغاني السورية والعراقية، الموسيقى الهندية، الأغاني التونسية، قراءات منغّمة للقرآن والتراتيل (مزامير دينية)؛ أثّر كلّ ذلك على بن علي، التي انجذبت للموسيقى والفنّ والغناء في سنّ صغيرة.
لم تدرس أبدًا الغناء أو الموسيقى في إطار مقبول وإنما استندت إلى السماع فحسب. حسب كلامها، فقد تأثرت جدًا بالمطرب السوري أديب الدايخ، وخصوصًا بـ “تجويد القرآن” (قراءة القرآن بنغمات) للقارئ المصري الشهير الشيخ عبد الباسط عبد الصمد وبالأغاني الكلاسيكية لملكة الغناء العربي أم كلثوم. تم بثّ كلاهما يوميًا في الراديو وسَحرها، ويمكن سماع تأثيرهما في أغانيها اليوم.
بل إنها “تجرّأت” عام 2010 على إصدار ألبوم اسمه “غالية بن علي تغنّي لأم كلثوم” وقد أدّت فيه بعض الأعمال الكلاسيكية للمطربة المصرية الأسطورية. “تجرّأت”، لأنّ بن علي فعليّا لديها أسلوب خاصّ بها، سواء من الناحية الصوتية، أو من حيث تقديم الأغنية أو من ناحية مظهرها. إنّها متحرّرة، بل هي “برّية” بالمصطلحات المحلية، تظهر بشعر مجعّد ومنثور، ترتدي ثوبًا يكشف كفّا أو كفّين أو بنطالا ضيّقًا، ترقص على المسرح، وتسمح لنفسها بالتصرّف كما لم تكن أم كلثوم لتفعل أبدًا. تختلف بن علي بأسلوبها عن كل مطرب أو مطربة يمكن السماع عنهم اليوم في العالم العربي، ومن الممكن اعتبار ترجمتها الشفوية لأغاني أم كلثوم الكلاسيكية بالنسبة للأذن المحافظة “تدنيس للمقدّس” فعليّا. على أية حال، فإنّ التفسيرات العصرية لأغاني المطربة المصرية لا يسهل استيعابها دائمًا بالنسبة للجمهور التقليدي، وفي كثير من الأحيان لا تكون موضع ترحيب.
هذا ما حدث أيضًا في حالة بن علي. حين توجّهت إلى شركة تسجيلات عربية من أجل إصدار ألبومها الذي يحوي أغاني أم كلثوم، وُوجهتْ بالرفض بزعم أنّ “أم كلثوم لا تغنيها أية مطربة سوى أم كلثوم”. ولكن ذلك لم يردع بن علي، وبالتأكيد لم يمنعها من تسجيل الألبوم. بن علي هي امرأة نسوية، تغني من أجل تحرير الشعوب العربية وأيضًا تحرير المرأة، وهذا التحرير – من بين أمور أخرى – هو من أغلال التقاليد، بما في ذلك التقاليد الموسيقية التي تحترمها وتقدّرها بنفسها كثيرًا، ولكن ليس عندما تكون جامدة ومغلقة أمام الابتكار والتجديد.
فضلا عن ذلك، فلدى بن علي دور سواء في أوساط الشباب في العالم العربي أو في الغرب. وقد أوضحت في مقابلة ببرنامج الاستضافة المصري “مساء الخير” أنّ أم كلثوم هي المطربة العربية الوحيدة التي يعرفها الغرب ولذلك كان من المهمّ بالنسبة لها أن يُفسح المجال لأغانيها بحيث يكون من السهل الاقتراب من أم كلثوم والموسيقى العربية عمومًا. وفيما يتعلّق بالشباب العربي قالت إنّهم بالفعل يستمعون بشكل مختلف و”لديهم أصوات أخرى في آذانهم وموسيقى مختلفة”. وهكذا في الواقع وجدت نفسها وسيطة لأم كلثوم ليس للغرب فحسب، وإنما أيضًا لجيل الشباب في العالم العربي، والذي يتواصل بسهولة أكثر مع الأسلوب المعاصر الذي جاءت به.
وليس عبثًا أن تربط بن علي أم كلثوم بـ “تجويد القرآن” حيث إنّ لقراءة القرآن وللغناء العربي مبادئ مشتركة، وهناك من يزعم أنّ القراءة المنغّمة هي الأساس للغناء العربي. وقد كان لأم كلثوم بالفعل خلفية في تعلّم القرآن، بعد أن أرسلها والدها في طفولتها للدراسة في “الكُتّاب”. في الواقع، فقد عُرفت أم كلثوم طوال سنوات حياتها المهنية بفضل مهارات النطق الخاصة بها، التعبير الصحيح والحسّاس للنصّ، وبفضل استخدام ظلال النغمات الصوتية المختلفة، التي تضفي رنينا على بعض المقاطع، جذب الأصوات، التأخّر عند حروف ساكنة مختلفة وما شابه ذلك.
نعم إذًا، فإنّ بن علي لم تدرس في “الكُتّاب:، وهناك شكّ ما إذا كانت تتقن فنون القراءة الدينية بجميع قواعدها. ولكن لا شكّ أنّها استمعت لها كثيرًا وتأثّرت بها جدّا. وبطريقتها الخاصة، والاستثنائية في جمالها برأيي، تستخدم ما تعلّمته من الاستماع فحسب بشكل ذكيّ وبالأساس حسّاس جدّا. حتى أغانيها الأكثر “علمانية” (هناك شكّ إذا كانت ستوافق على هذا التعريف بنفسها) متأثّرة بعناصر مستمدّة من الصلاة والأناشيد الدينية، حيث إنّها تمزجها بأسلوب موسيقي معاصر وحديث. بالإضافة إلى ذلك؛ فعلاوة على أغانيها الخاصة، والأغاني الشعبية التي تقوم بتجديدها، فإنّ بن علي لا تخشى من التوجّه إلى النصوص الأكثر تعقيدًا في القصائد العربية القديمة، المكتوبة بلغة عربية فصيحة. “كلّ قصيدة تشكّل صورة كاملة”، كما قالت في المقابلة، “وأنا بالفعل مصمّمة جرافيكية. فأنا أبحث عن الكلمات التي تشكّل لي رؤية وأجواء تمكّنني من الحلم والتخيّل”.
ترقص في قصور مهجورة
في الحقيقة منذ صدور ألبوم أدائها لأغاني أم كلثوم قبل نحو أربع سنوات لم تصدر أيّ ألبوم. مع ذلك، فليس من الممكن لمبدعة موهوبة ومفرطة النشاط مثل بن علي أن تكون في حالة ركود. فبالإضافة إلى الأعمال المشتركة المختلفة والحفلات في أنحاء العالم، ترفع بن علي كلّ فترة إلى حسابات الساوند كلاود واليوتيوب الخاصة بها أغاني جديدة كتبتها أو أداءات جديدة لها لأغاني عربية كلاسيكية. بعضها يكون مصحوبًا بعمل فيديو تقوم هي بتصويره وتحريره، وتتحوّل بذاتها بفضل شاعريّتها إلى جزء لا يتجزّأ من الإبداع الغنائي الخاص بها. على سبيل المثال، أغنية “يوم سُحلت القاهرة”، والمخصّصة لأكثر مدينة محبوبة بالنسبة للمطربة بن علي وللأحداث التي جرت فيها في السنوات الأخيرة، تمّت مصاحبتها بفيديو خلاب تمّ تصويره في شوارع المدينة وصوحب بأغنية تبدو كنداء الآذان.
نموذج آخر وهو أغنية “دي سحالي” (السحلية) للشاعر المصري فؤاد حداد، الذي قضى سنوات غير قليلة في السجن وكان معروفًا بدعمه للنضال الفلسطيني. تمّت كتابة القصيدة بالعربية المصرية المحكية وهي تتحدث عن النفس الحرّة، مثل “أبو بريص” الذي يكون على الحائط، يصعد ويهبط، يذهب ويأتي متى يشاء. في تفسير بن علي، إضافة إلى عمل الفيديو الذي تمّ فيه تصوير ثلاث فتيات يلعبن مع بعضهنّ البعض ومع الكاميرا؛ تأخذ الأغنية معنى نسويّا واضحًا، لا يدعو فقط إلى التحرّر الوطني بل أيضًا إلى تحرير المرأة.
كانت الأغنية الأخيرة التي رفعتها بن علي هي توزيع موسيقي جديد للقصيدة الكلاسيكية “مالي فتنت بلحظك الفتاك” من عام 1926. وهي إحدى الأغاني الأولى لأم كلثوم والتي حظيت بتسجيل تجاري، ولذلك فقد حظيت بأداءات كثيرة من قبل العديد من المطربين، من بينهم المطربة اليهودية حبيبة مسيكة، التي كانت المطربة الوطنية لتونس حتى موتها المأساوي عام 1930. صوحب الأداء الجديد بعمل فيديو قامت بن علي بتصويره، وتبدو فيه وهي ترقص داخل أحد القصور المهجورة في تونس.
وليست كلاسيكيات أم كلثوم فحسب هي التي تحظى بتوزيعات بن علي الموسيقية. فقبل نحو عام رفعت إلى اليوتيوب قصيدة كلاسيكية أخرى، مصحوبة هي أيضًا بعمل فيديو قامت بتصويره وتحريره. هذه المرة كانت تلك قصيدة “لو كان لي قلبان”، والتي أداها في الأصل المطرب التونسي لطفي بوشناق.
وهي أحد النصوص الأكثر كلاسيكية في الثقافة العربية القديمة، والذي كُتب من قبل الشاعر قيس بن الملوّح ابن القرن السابع الميلادي. لقد عُرف بشكل أكبر بلقب “مجنون ليلى” لأنّه كان مجنونًا ببنت عمّه. ولكن عائلتها رفضت تزويجه من ابنتهم، وبدأ بكتابة قصائد الحبّ التي تمزّق القلب والتي انتشرت في أنحاء العالم العربي، حتى عثروا عليه ميتًا في وادٍ بشبه الجزيرة العربية عن عمر يناهز الثالثة والأربعين عامًا. وقد كُتب في القصيدة التي تؤدّيها بن علي: “لو كانَ لي قلبان لعشت بواحدٍ / وأفردتُ قلباً في هواك يُعذبُ، لكنَّ لي قلباً تّملكَهُ الهَوى / لا العَيشُ يحلو لَهُ ولا الموت يقربُ، كعصفورة في كف طفلٍ يهينها / تُعَانِي عَذابَ المَوتِ والطِفلُ يلعبُ، فلا الطفل ذو عقل يرق لحالها / ولا الطيرُ مطلوقُ الجناحينِ فيذهبُ”.
إنّ احتمال غناء بن علي في إسرائيل هو بطبيعة الحال يكاد يصل إلى الصفر. ولكن إذا جاءت لتغني في فلسطين فلا شكّ أنّني سأكون أول من يشتري تذكرة للحفل، لأنّه من الممكن جدّا أنّني أصبحت خلال الكتابة “مجنون غالية”.
في الوقت الذي جُنّ فيه العالم كله من “تحدّي دلو الثلج” لرفع الوعي حول مرض التصلب الجانبي الضموري (ALS)، تحدى بعض الأشخاص في لبنان العالم العربي بتحدّ جديد خاص بهم: حرق علم داعش. بدأت الظاهرة بمبادرة طلاب جامعيين ناشطين من بيروت، كردة فعل على اختطاف جنود لبنانيين في مدينة عرسال، على الحدود مع سوريا، وقتل اثنين منهم. وخلال زمن قصير تحوّل التحدي إلى ظاهرة منتشرة في الشبكات الاجتماعية، وخصوصًا في لبنان، ولكن أيضًا في سائر بلدان العالم العربي: يلتقط أشخاص الصور – بعضهم بوجوه مكشوفة والبعض الآخر بوجوه مخفية – وهم يمسكون العلم الأسود للتنظيم (أو صورة العلم)، يقومون بإحراقه، ويلقون بالتحدي إلى أشخاص آخرين يدعونهم للمشاركة في الاحتجاج.
ولماذا يقوم بعض المحتجّين بذلك دون الكشف عن شخصياتهم؟ على ما يبدو أنّه في أماكن معيّنة هناك من يخشى أن يأتي دوره ويقع في أيدي التنظيم الإجرامي. في لبنان على أية حال، هناك من يختار عدم الكشف عن شخصيته بسبب إشكالية هذا الشكل من أشكال الاحتجاج. وتظهر على علم من يدّعي أنّه “الدولة الإسلامية” كلمة الشهادة “لا إله إلا الله، محمد رسول الله”. إن حرق هذا النص المقدّس بذاته يُعتبر لدى الكثير من المسلمين في العالم مسًّا بالدين الإسلامي ومعتنقيه. ولذلك أمر وزير العدل اللبناني، أشرف ريفي، باعتقال الطلاب الذين حرقوا علم داعش.
احتج بعض المحتجين ضدّ داعش أيضًا على ذلك. “رأى الوزير ريفي فقط اسم الله وسط اللهيب”، هذا ما كتب في مدونة المجلة اللبنانية GlamroZ. “لم ير داعش وهي تقتل الجندي المسلم علي السيد، ولم ير جميع الكنائس التي تمّت مهاجمتها، ولم ير التهديد الكبير الذي تعيش تحته البلاد بسبب رجال العلم الأسود، الذين لا يعرفون تفسير كلمة الله”. ويطالب حارقو علم داعش، كما ادعى المحتجّون، بالخروج ليس فقط ضدّ الطابع الإجرامي لـ “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وإنما ضد استخدام الدين الذي يقوم به التنظيم وباسم الله من أجل تنفيذ جرائم ليس بينها وبين الاعتقاد أيّ صلة. إذا تجرّأ رجال داعش على الاقتراب من لبنان، كما أكّد مدوّن مسيحي من لبنان، سنتوحّد جميعنا – المسلمون والمسيحيون – من أجل الدفاع عن لبنان والوقوف وراء الجيش اللبناني. وقد أرفق لذلك صورة لشعار جنود المارينز الأمريكيين والذي يقول: “هذا هو دور الله؛ أن يحاكم الإرهابيين… هذه هي مهمّتنا؛ أن ننظّم اللقاء بينهم”.
ومع ذلك، فإنّ معظم المحتجّين الذين شعروا بعدم الراحة من حرق علم مكتوب عليه “الشهادة”، وكي لا يمسّوا بمشاعر ملايين المسلمين الآخرين غيّروا المكتوب باللون الأبيض على العلم الأسود. والآن، بدلا من “الشهادة” فإنّ الكتابة التي تظهر على العلم المعدّ للحرق هي: “لا إله للإرهاب”.
ولم يتوقف بذلك الاحتجاج في العالم العربي ضدّ ظاهرة داعش. وقد بالغت – ليس للمرة الأولى – المدوّنة المصرية الشهيرة علياء المهدي، حين التقطت لها صورًا وهي عارية تجلس على العلم الأسود، وبدت في الصورة وهي تتبوّل على العلم. والمهدي هي ناشطة إنترنت وناشطة من أجل حقوق المرأة في العالم الإسلامي، وقد اشتهرت عام 2011 بعد أن نشرت مقطع فيديو ظهرت فيه مع شريكها وهما يتجادلان مع حارس حديقة في القاهرة، سعى إلى طردهما لأنّهما مارسا الجنس على العلن. في وقت لاحق قامت برفع صورها وهي عارية على مدوّنتها، وأثارت بذلك نقاشًا جماهيريّا عاصفًا في مصر وخارجها، وجعلت من نفسها هدفًا للتهديدات والمضايقات. وفي النهاية طلبت لجوءًا سياسيًّا في السويد، والتي تعيش فيها اليوم، ويبدو أنها تقوم من هناك أيضًا بإزعاج “النظام العام”.
كانت ردة فعل نشطاء إنترنت مختلفين في العالم العربي أكثر اعتدالا وتواضعًا. فقد افتتح ناشطون في سوريا صفحة فيس بوك سُميت “أنا مسلم وأنا ضد داعش”، وخرجت في أوساط الجاليات المسلمة في الغرب حملة تعلن أنّ داعش لا تمثّلهم. وقد نظّم هؤلاء يومًا ضدّ الكراهية في ألمانيا، عقدوا مسيرة في النرويج، وحملة على تويتر في إنجلترا، كل ذلك تحت عنوان “ليس باسمي”. تلقّت هذه الحملة قدرًا ليس بقليل من الانتقادات. من جهة، كان هناك بين المسلمين من ادعى أنّهم لا يشعرون بوجود أي حاجة للاعتذار أمام العالم العربي الذي يظنّ أن داعش تمثّل الإسلام أو المجتمع الإسلامي.هذه مشكلة المجتمعات الغربية التي تنظر إلينا هكذا، كما قالوا، وليس مشكلتنا.
ومن جهة أخرى، ادعى آخرون أن شعار “ليس باسمي” هو تهرّب من المسؤولية. كيف يمكننا أن نتهرّب من المسؤولية، تساءل المنتقدون، إذا كنّا نحيا في مجتمع يتيح العنف ضدّ النساء، ويلاحق الأقليات الجنسية، ويشوّه مصطلح “الرجولة” إلى درجة أنّه يسمح بقتل النساء على خلفية شرف العائلة؟! على حافة هذه الظواهر، كما قالوا، توجد أيضًا ظاهرة داعش.
إن إحدى الظواهر الأكثر إثارة للاهتمام والتي شوهدت مؤخرًا هي تحديدًا الأغاني التي صدرت في العالم العربي ضدّ داعش. بعض هذه الأغاني، التي تُنشر بشكل أساسي عن طريق الإنترنت والشبكات الاجتماعية، وخُصّصت لتشجيع الجيش العراقي في حربه ضدّ التنظيم. وبعضها الآخر، مثل أغنية “أنت يا داعش” للمطرب العراقي وليد العبادي، يسخر من التنظيم ومن يقف على رأسه، أبو بكر البغدادي.
وهكذا أيضًا في حالة أغنية “دولة الخرافة”، التي تصوّر البغدادي باعتباره فرخًا جهاديّا فقس من البيضة وأصبح أسوأ من الشيطان نفسه. واسم الأغنية – التي تستخدم كأغنية شارة لسلسلة هزلية من المفترض أن تعرض في التلفزيون العراقي قريبًا – هو في الواقع لعب بكلمات اسم “دولة الخلافة”، والتي يسعى عناصر داعش إلى إقامتها في سوريا والعراق.
ولكن الأغنية الأظرف التي صدرت مؤخرًا ضد داعش تأتي هي أيضًا من لبنان، وهي أيضًا تسخر ليس فقط من البغدادي نفسه، وإنما من جميع المؤمنين المتطرّفين الذين يفسّرون الإسلام بشكل صارم جدًا: “وأنا والله”، كما جاء في الأغنية، “لو كنت بقرة لكنت والله سألبس سوتيان” (من أجل عدم الكشف عن الأثداء أمام الرجال الأجانب).
تم إخراج أغنية “مدد بغدادي” لأول مرة قبل عدّة أسابيع من قبل إحدى الفرق البديلة المتطرّفة في لبنان “الراحل الكبير”، وقد أثارت – بطبيعة الحال – نقاشًا عامّا ساخنًا. جاءت بعض الجمل الساخرة في الأغنية مثل: “وعلى شان الإسلام رحمة رح ندبح و نوزع لحمة (للفقراء)، وعلى شان نخفف زحمة حنفجّر في خلق الله”، وقد اعتبرت في نظر البعض سخرية وانتقادا لتطرف تنظيم داعش، وفي نظر آخرين مسّا بدين الإسلام بشكل عام. وما زالت الأغنية تظهر بتأييد عند الشباب في لبنان، ويمكن سماعها في عروض الفرقة الناجحة كلّ يوم ثلاثاء على مسرح “مترو المدينة” في بيروت.
أكثر بساطة ومباشرة هو مقطع الفيديو الذي رفعه بعض سكان مدينة الموصل إلى اليوتيوب، حيث خصّصوا لإخوانهم في سوريا ولبنان أغنية يؤديها مطرب في مطعم. اسم الأغنية… “ينعل أبوك يا داعش”. يجب أحيانًا أن تكون شاملا وواضحًا.