بدءًا من تشرين الأول 2015 وقبل ذلك في أحداث صيف 2014 أصبحت القدس مركزا لموجة إرهابية مستمرة من قبل فلسطينيين، والتي لم تتوقف تماما رغم اضمحلال وتيرة الأحداث في الآونة الأخيرة. انتشر الإرهاب بسرعة من القدس إلى مناطق عديدة في البلاد، واجتاز الخط الأخضر وداخله، وإحدى القضايا الجوهرية التي طُرحت في جدول الأعمال هي مسألة مستقبل القدس: سواء بسبب التغيير في الانتشار الأمني الإسرائيلي في المدينة أو بخصوص مواقف الجمهور بشأن قضية “وحدتها”.
ولّدَت الأحداث الإرهابية في القدس ثلاث افتراضيات، والتي على ضوئها عملت الحكومة الإسرائيلية حتّى الآن: الأولى اعتُقد أنّه يمكن الحفاظ على الوضع الراهن في الحرم القدسي الشريف، مع التجاهل شبه التام للأنشطة المتحدّية والاستفزازية لعناصر متطرفة – يهودية ومسلمة – فيه. وقد أشعل شبان فلسطينيون، من سكان القدس الشرقية موجة الإرهاب الأخيرة، والذين بحسب المعلومات الموجودة قد عملوا، من بين أمور أخرى، انطلاقا من الشعور بأداء مهمة دينية. لقد شعروا أنّ مكانهم المقدّس قد دُنّس وأنّ عليهم الدفاع عن الأقصى (الحرم الشريف) من العدوان الإسرائيلي. هكذا، رغم التعريف الرسمي للحكومة الإسرائيلية والذي يوضح أن الوضع الراهن بقي كما هو، ففي الواقع لم تحرص على إنفاذه.
وتستند الافتراضية الثانية على التقدير أنّه يمكن الحفاظ على الاستقرار والهدوء في القدس الشرقية من دون استثمار الموارد المطلوبة للبنى التحتية، خدمات المواطنين، وتعليم الشبيبة. يُعتبر سكان شرقي المدينة من سكان الدولة، وهم يحملون بطاقات هوية زرقاء ويتمتعون بحق التصويت لرئاسة ومجلس بلدية القدس، ولكنهم لا يملكون الحقّ في التصويت للكنيست. في الـ 49 عاما الأخيرة، لم تخصص الحكومات الإسرائيلية وبلدية القدس اهتماما وموارد مناسبة لمواجهة المشاكل في شرقي المدينة. حتى لو شعر السكان العرب في القدس بمزايا الانضمام إلى إسرائيل مقارنة بسكان الضفة الغربية، على سبيل المثال، من حيث حريتهم في التنقل في إسرائيل، فهذا لا يخفف عليهم من الشعور بوطأة الإحباط المستمر، الحرمان، فقدان الأمل، واليأس. الوعي السائد بين الشبان العرب أنّ جميع الطرق مسدودة أمامهم، وأنّ هناك فرصا ضئيلة لتحقيق طموحاتهم. يكفي القول إنّ هناك أكثر من 30% من الشبان من سكان القدس الشرقية يتسرّبون من المدارس بسبب النقص في الصفوف. يشكل هذا الواقع أرضا خصبة لنموّ ظواهر العنف والإرهاب.
وتنبع الافتراضية الثالثة من الرؤيا التي بحسبها فإنّ معظم الشعب الإسرائيلي يدعم رؤيا “القدس الموحّدة إلى الأبد”. من خلال بيانات استطلاعات أجريت مؤخرا في معهد أبحاث الأمن القومي ترتسم صورة تضع علامات سؤال على هذه الافتراضية. تُظهر الاستطلاعات أنّ 45% من الشعب اليهودي يؤيدون فصل القرى والأحياء العربية (لا يشمل المدينة القديمة) عن القدس، و 35% آخرون يرغبون في الفصل المادي بين الأحياء العربية وغربي المدينة. ربما يلمح ذلك إلى زيادة حدّة الفجوة بين أهمية القدس المثالية كعاصمة إسرائيل الموحدة، وبين الواقع المشبع بالخوف والرغبة في الحفاظ على الطابع اليهودي للمدينة.
لم تنجح الحكومة الإسرائيلية، بلدية القدس والجهات الأمنية خلال السنين في تطوير محفزات تأثير قادرة على أن تساهم في تشكيل الاستقرار في القدس الشرقية وتحقيقه. كذلك، لم تُستخدم أدوات ناجحة بهدف صرف الشباب عن اليأس الذي يحيط بهم، على سبيل المثال عن طريق إقامة مراكز تدريب وتوظيف للشباب، تقديم مزايا للأحياء التي لا يسود فيها إرهاب وعنف، وتعزيز فرص العمل وغير ذلك. حيّدت إسرائيل والسلطة الفلسطينية على مدى السنين كل فرصة لنموّ قيادة عربية محلية مؤثرة سياسيا واجتماعيا، وحولتا القدس الشرقية إلى منطقة خارجة عن المسؤولية.
في السنة القادمة، سيكون قد مضى 50 عاما على توحيد القدس، ويجب أن يُدرس السؤال حول مستقبل المدينة من منظور طويل الأمد. لا يغيّر الاضمحلال المؤقت في العمليات الإرهابية شيئا جوهريا في القدس الشرقية، وفي المقابل، يتعزز الشعور بعدم ثقة الجمهور العربي في المدينة تجاه السلطات فحسب. في نظرهم، فقد أهملتهم إسرائيل، القيادة الفلسطينية – السلطة الوطنيّة الفلسطينية، وحماس على حدٍّ سواء. يكدّس جميع هؤلاء رويدا رويدا الأسباب التي ستلهب الحريق في المرة القادمة التي ستأتي فيها الجهة التي ستشعله. إنّ التركيز على الجانب السياسي من قبل إسرائيل على خلفية غياب استخدام الأدوات الناجحة وخشية الحكومة من كل صورة الخضوع للإرهاب، فهذا تحديدا يزيد من الضغوط الأمنية – الشُرَطية على سكان المدينة العرب. ويؤدي الأمر كذلك إلى طرح أفكار لفصل الأحياء والقرى العربية في شرقي المدينة عن غربها، مع سلب الميزة الوحيدة الممنوحة للسكان العرب اليوم وهي إمكانية الاتصال بإسرائيل، التي تمنحهم فرص عمل وحرية التنقل.
ومع مرور الوقت تفقد إسرائيل قدرتها على إصلاح الإهمال المتراكم على مدى خمسة عقود. وحتى لو قررت الحكومة الإسرائيلية تغيير سياستها تغييرا جذريا وأن تستثمر في البنى التحتية، التعليم، القانون والنظام وتحسين ظروف حياة سكان القدس الشرقية، فسيمرّ وقت طويل حتى تظهر النتائج. الأمر صحيح بشكل أساسيّ إذا لم يتم الإعلان عن حالة طوارئ في شرقي المدينة، وإذا استمرت البيروقراطية المحلية والإقليمية بالتصرف وفقا للإجراءات القائمة.
ثمة فرصة اليوم لإحداث تغييرات جوهرية في القدس، والتي نشأت نتيجة نضوج في الوسطين، الإسرائيلي والعربي. يمكن العمل في عدة اتجاهات لإيجاد حلول متنوعة: نقل الأحياء العربية الواقعة خارج الجدار الأمني إلى سيطرة السلطة الفلسطينية، تعريف حالة الطوارئ، إقامة مديرية لتطوير وتحسين البنى التحتية والخدمات في شرقي المدينة، بما في ذلك تخصيص ميزانية لها كما ينبغي، إقامة سلطة بلدية منفصلة (خاضعة لوزارة الداخلية الإسرائيلية) والتي ستشمل الأحياء والقرى التي ضُمّت إلى المدينة عام 1967 (لا يشمل المدينة القديمة وأراضي القدس الشرقية الأردنية عشية حرب الأيام الستة)، مع إدارة ذاتية عن طريق مؤسسات وممثلين منتخبين من السكان العرب. وقد تمنع كافة هذه الحلول الانفجار القادم وتضمن وصول حرّ إلى الأماكن المقدسة، الحفاظ على نسيج الحياة الهش والتعاون بين السكان، وتعزز الأمن الشخصي لسكان القدس.
نُشرت المقالة للمرة الأولى في موقع معهد أبحاث الأمن القومي INSS