صادف يوم الخميس الماضي 26.10.17 يوم الذكرى السنوية الثالثة والعشرين لتوقيع معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن. لم تحتفل الدولتان بهذا اليوم بشكل ظاهر أو مخفي بل بشكل يعبر عن عدم القدرة.
رسميا، تشهد العلاقات بين إسرائيل والأردن تحسنا كبيرا، فيما عدا بعض الاشتباكات العلنية أحيانا المتعلقة بالحرم القدسي الشريف. لا يمكن تجاهل هذه الحقيقية، مع الأخذ بعين الاعتبار الأحداث في جزء من دول المنطقة منذ أحداث “الربيع العربي”، وطبعا الأحداث الدائرة في الضفة الغربية وغزة. ولكن الربيع العربيّ هو السبب وراء تعزيز العلاقات الإسرائيلية الأردنية. فقد فهم صانعو السلام من كلا الجانبين مسبقا أن السلام سيتجذر عميقا فقط إذا تخطى المصالح الاستراتيجية التي عززت العلاقات بين إسرائيل والأردن طيلة عشرات السنوات قبل إقامة العلاقات الرسمية. كلا الجانبين مسؤول عن نجاح السلام بين البلدين وفشله بين الشعبين.
عبد السلام المجالي، رئيس الوفد الأردنيّ لمحادثات السلام ورئيس مجلس النواب الأردني وقتذاك، هو المتحدث الرسمي الأكثر تمثيلا لعصر السلام. غالبا يحمي مجالي معاهدة السلام التي وقّع عليها، ولكنه انتقد إسرائيل في السنوات الماضية، وحدث ذلك أحيانا بشكل لاذع جدا. حتى أنه أثار ضجة جماهيرية كبيرة عندما دفع فكرة إقامة كونفدرالية أردنية فلسطينية، لإحباط إمكانية أن تجعل إسرائيل الأردن “وطنا بديلا” للفلسطينيين. ذكّره الكثيرون أنه أعرب بنفسه سابقا أن معاهدة السلام ساعدت الأردن على “دفن” الخطر أن تصبح وطنا بديلا.
ولكن إذا كانت تُشن حتى قبل عدة سنوات انتقادات غير مسبوقة ضد إسرائيل، فاليوم تغيّر الوضع، وباتت تُسمع انتقادات داخلية، ولم تعد إسرائيل الشيطان الأكبر في الشرق الأوسط. في مقابلة معه للقناة التلفزيونية “الأردن اليوم”، في الأسبوع الماضي، هاجم مجالي مجري المقابلة مرارا وتكرارا، لأنه حاول أن يحثه على التحدث ضد إسرائيل وشجب الاتّفاق. طالب المجالي من مجري المقابلة أن يلتزم بالحقائق وليس بالحملات التسويقية، وأن يقرأ معاهدة السلام بتمعن، وأوصى وسائل الإعلام بشكل عامّ أن تبدّل الحوار العنيف والعاطفي بحوار واقعي.
قال مجالي حازما: السلام مع إسرائيل هو إنجاز سياسي ودبلوماسي كبير، لأن الأردن أثبت أنه قادر على التصرف بشكل منطقي وبرغماتي. حققت المملكة الأردنية الهاشمية مكانة في المجتمع الدولي بعد أن وقّعت على اتفاقية رسمية تلتزم إسرائيل بموجبها، وتشكل ضمانا وحيدا أنها لن تطرد الفلسطينيين بالقوة من الأردن. أكثر من ذلك، ادعى المجالي أيضا أنه تسود في إسرائيل أجواء خطيرة تجاه الأردن، مؤكدا أن مصدرها ليس من الحكومة أو أعضاء الكنيست بالضرورة.
نجح المجالي في دحض الادعاءات حول نتائج السلام، جودة المياه التي تصل إلى الأردن من إسرائيل، مشاكل البيئة، تعويض اللاجئين، وقضية التطبيع على مسمع من مجري المقابلة المندهش. لقد أوضح أن الاتّفاق فشل، لأن المعارضة الأردنية سعت إلى ذلك، بذريعة “التطبيع” الذي لم يُفرض على أحد قسرا منذ البداية. علاوة على ذلك، فضّل آلاف اللاجئين الأردنيين من أصل فلسطيني التنازل عن حق العودة وحصلوا سرا على تعويضات من إسرائيل مقابل أملاكهم وأراضيهم، بموجب معاهدة السلام. لم تُنشر هذه الحقائق خشية من أن يُنعتوا هؤلاء المستحقين بـ “خونة” و “داعمي تطبيع العلاقات”. لقد تلعثم مجري المقابلة في الكلام عند سماع هذه الحقيقة.
أصبح المجالي اليوم ابن 92 عاما، ولم يعد يتحدث عن أمور سياسية وفق القواعد والحساسية المطلوبة. ففي الواقع تعكس أقواله الأجواء السائدة في السلطة الحاكمة في الأردن، ولكن لا تكمن المشكلة في نظام الحكم بل في الشعب الإسرائيلي، والأردني على حد سواء. في النقاش الجمهوري الأردنيّ، كانت الهدية التي منحها الإسرائيلون للأردن بمناسبة ذكرى معاهدة السلام مع إسرائيل ما يلي: عُقد اجتماع في إسرائيل، قبل أسبوع من ذلك، لدفع برنامج “الأردن هي فلسطين” قدما، وشارك فيه أكاديميّون وسياسيون إسرائيليون سابقا وحاليا وعدد من رجال المعارضة الأردنيّة المثيرين للجدل.
إن موقف السلطات الإسرائيلية حول الفكرة ومن يدفعها قدما، والمعلومات القليلة المفاجئة التي يمكن العثور عنها في النت، بالعبرية والإنجليزية، عند تصفح النت في إسرائيل والأردن، تعزز فكرة “السلام بين الحكومتين”. ولكن الحملة التي يشنها اليمين الإسرائيلي ضد الأردن لا يمكن إنكارها. فهو والمعتدلون والبراغماتيون يعتقدون أن الأردن سيكون فلسطين عاجلا أو آجلا. يدرك الأردنيّون هذه الحقيقة، بالمقابل، تحاول السلطات الإسرائيلية التعتيم عليها، لا سيّما أنها تتجاهل أن هذه الإمكانية محتملة إزاء فشل حل الدولتَين. قد تتطور هذه الأحداث إلى اشتباكات بين إسرائيل والأردن.
يبدو أن اليسار الإسرائيلي هو الوحيد الذي لم ينتبه إلى أن موقع الاحتفال بذكرى معاهدة السلام قد تغيّر. إن ماضي اليسار الصهيوني فيما يتعلق بالأردن إشكالي منذ البداية، وفي ظل عدم قدرته فيما يتعلق بحل الدولتين، لا يمكن أن نتوقع أن ينجح في تقديم الحل. اليسار المتطرف، من جهته، يُخطئ عندما يطرح الفكرة القائلة إن البديل لحل الدولتين يجب أن يكون كونفدرالية إسرائيلية – فلسطينية، دولة ثنائية القومية أو دولة كل مواطنيها، يرتكز فيها النزاع بين داعمي الديموقراطية وداعمي اليهودية حول قضية المساواة في الحقوق للفلسطينيين.
ولكن البرنامج الأصلي لدى اليمين أبسط بكثير: هدم ممنهج للقومية الفلسطينية وضم الضفة الغربية، كلها أو جزءا منها إلى إسرائيل، بما في ذلك مواطنيها. عندها سيتمتع هؤلاء المواطنون بحقوق الإنسان في إسرائيل، ولكن عليهم ممارسة حقوقهم بصفتهم مواطنين في الأردن، “الدولة الفلسطينية الحقيقية”، رغم استياء الفلسطينيين والأردنيين.
هذا هو حلم اليمين الإسرائيلي الكبير. لن يساعد تجاهله أو إخفائه على محاربته؛ بل يساعدان على تعزيزه حتى يصبح الوقت متأخرا.
نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في موقع منتدى التفكير الإقليمي