آساف دافيد

الملك حسين يشعل السيجارة لرابين في مسكنه بالعقبة بعد توقيع اتفاق السلام، تشرين الأول 1994 (Wikipedia)
الملك حسين يشعل السيجارة لرابين في مسكنه بالعقبة بعد توقيع اتفاق السلام، تشرين الأول 1994 (Wikipedia)

معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن: مؤسسات الدولة تدعم ولكن اليمين يعارض

الاحتفال بيوم ذكرى مرور 23 عاما على معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن كان من خلال إجراء مؤتمر احتفل فيه اليمين الإسرائيلي بتوسع فكرة "الأردن هي فلسطين" في صفوفه

صادف يوم الخميس الماضي 26.10.17 يوم الذكرى السنوية الثالثة والعشرين لتوقيع معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن. لم تحتفل الدولتان بهذا اليوم بشكل ظاهر أو مخفي بل بشكل يعبر عن عدم القدرة.

رسميا، تشهد العلاقات بين إسرائيل والأردن تحسنا كبيرا، فيما عدا بعض الاشتباكات العلنية أحيانا المتعلقة بالحرم القدسي الشريف. لا يمكن تجاهل هذه الحقيقية، مع الأخذ بعين الاعتبار الأحداث في جزء من دول المنطقة منذ أحداث “الربيع العربي”، وطبعا الأحداث الدائرة في الضفة الغربية وغزة. ولكن الربيع العربيّ هو السبب وراء تعزيز العلاقات الإسرائيلية الأردنية. فقد فهم صانعو السلام من كلا الجانبين مسبقا أن السلام سيتجذر عميقا فقط إذا تخطى المصالح الاستراتيجية التي عززت العلاقات بين إسرائيل والأردن طيلة عشرات السنوات قبل إقامة العلاقات الرسمية. كلا الجانبين مسؤول عن نجاح السلام بين البلدين وفشله بين الشعبين.

عبد السلام المجالي، رئيس الوفد الأردنيّ لمحادثات السلام ورئيس مجلس النواب الأردني وقتذاك، هو المتحدث الرسمي الأكثر تمثيلا لعصر السلام. غالبا يحمي مجالي معاهدة السلام التي وقّع عليها، ولكنه انتقد إسرائيل في السنوات الماضية، وحدث ذلك أحيانا بشكل لاذع جدا. حتى أنه أثار ضجة جماهيرية كبيرة عندما دفع فكرة إقامة كونفدرالية أردنية فلسطينية، لإحباط إمكانية أن تجعل إسرائيل الأردن “وطنا بديلا” للفلسطينيين. ذكّره الكثيرون أنه أعرب بنفسه سابقا أن معاهدة السلام ساعدت الأردن على “دفن” الخطر أن تصبح وطنا بديلا.

ولكن إذا كانت تُشن حتى قبل عدة سنوات انتقادات غير مسبوقة ضد إسرائيل، فاليوم تغيّر الوضع، وباتت تُسمع انتقادات داخلية، ولم تعد إسرائيل الشيطان الأكبر في الشرق الأوسط. في مقابلة معه للقناة التلفزيونية “الأردن اليوم”، في الأسبوع الماضي، هاجم مجالي مجري المقابلة مرارا وتكرارا، لأنه حاول أن يحثه على التحدث ضد إسرائيل وشجب الاتّفاق. طالب المجالي من مجري المقابلة أن يلتزم بالحقائق وليس بالحملات التسويقية، وأن يقرأ معاهدة السلام بتمعن، وأوصى وسائل الإعلام بشكل عامّ أن تبدّل الحوار العنيف والعاطفي بحوار واقعي.

قال مجالي حازما: السلام مع إسرائيل هو إنجاز سياسي ودبلوماسي كبير، لأن الأردن أثبت أنه قادر على التصرف بشكل منطقي وبرغماتي. حققت المملكة الأردنية الهاشمية مكانة في المجتمع الدولي بعد أن وقّعت على اتفاقية رسمية تلتزم إسرائيل بموجبها، وتشكل ضمانا وحيدا أنها لن تطرد الفلسطينيين بالقوة من الأردن. أكثر من ذلك، ادعى المجالي أيضا أنه تسود في إسرائيل أجواء خطيرة تجاه الأردن، مؤكدا أن مصدرها ليس من الحكومة أو أعضاء الكنيست بالضرورة.

نجح المجالي في دحض الادعاءات حول نتائج السلام، جودة المياه التي تصل إلى الأردن من إسرائيل، مشاكل البيئة، تعويض اللاجئين، وقضية التطبيع على مسمع من مجري المقابلة المندهش. لقد أوضح أن الاتّفاق فشل، لأن المعارضة الأردنية سعت إلى ذلك، بذريعة “التطبيع” الذي لم يُفرض على أحد قسرا منذ البداية. علاوة على ذلك، فضّل آلاف اللاجئين الأردنيين من أصل فلسطيني التنازل عن حق العودة وحصلوا سرا على تعويضات من إسرائيل مقابل أملاكهم وأراضيهم، بموجب معاهدة السلام. لم تُنشر هذه الحقائق خشية من أن يُنعتوا هؤلاء المستحقين بـ “خونة” و “داعمي تطبيع العلاقات”. لقد تلعثم مجري المقابلة في الكلام عند سماع هذه الحقيقة.

أصبح المجالي اليوم ابن 92 عاما، ولم يعد يتحدث عن أمور سياسية وفق القواعد والحساسية المطلوبة. ففي الواقع تعكس أقواله الأجواء السائدة في السلطة الحاكمة في الأردن، ولكن لا تكمن المشكلة في نظام الحكم بل في الشعب الإسرائيلي، والأردني على حد سواء. في النقاش الجمهوري الأردنيّ، كانت الهدية التي منحها الإسرائيلون للأردن بمناسبة ذكرى معاهدة السلام مع إسرائيل ما يلي: عُقد اجتماع في إسرائيل، قبل أسبوع من ذلك، لدفع برنامج “الأردن هي فلسطين” قدما، وشارك فيه أكاديميّون وسياسيون إسرائيليون سابقا وحاليا وعدد من رجال المعارضة الأردنيّة المثيرين للجدل.

إن موقف السلطات الإسرائيلية حول الفكرة ومن يدفعها قدما، والمعلومات القليلة المفاجئة التي يمكن العثور عنها في النت، بالعبرية والإنجليزية، عند تصفح النت في إسرائيل والأردن، تعزز فكرة “السلام بين الحكومتين”. ولكن الحملة التي يشنها اليمين الإسرائيلي ضد الأردن لا يمكن إنكارها. فهو والمعتدلون والبراغماتيون يعتقدون أن الأردن سيكون فلسطين عاجلا أو آجلا. يدرك الأردنيّون هذه الحقيقة، بالمقابل، تحاول السلطات الإسرائيلية التعتيم عليها، لا سيّما أنها تتجاهل أن هذه الإمكانية محتملة إزاء فشل حل الدولتَين. قد تتطور هذه الأحداث إلى اشتباكات بين إسرائيل والأردن.

يبدو أن اليسار الإسرائيلي هو الوحيد الذي لم ينتبه إلى أن موقع الاحتفال بذكرى معاهدة السلام قد تغيّر. إن ماضي اليسار الصهيوني فيما يتعلق بالأردن إشكالي منذ البداية، وفي ظل عدم قدرته فيما يتعلق بحل الدولتين، لا يمكن أن نتوقع أن ينجح في تقديم الحل. اليسار المتطرف، من جهته، يُخطئ عندما يطرح الفكرة القائلة إن البديل لحل الدولتين يجب أن يكون كونفدرالية إسرائيلية – فلسطينية، دولة ثنائية القومية أو دولة كل مواطنيها، يرتكز فيها النزاع بين داعمي الديموقراطية وداعمي اليهودية حول قضية المساواة في الحقوق للفلسطينيين.

ولكن البرنامج الأصلي لدى اليمين أبسط بكثير: هدم ممنهج للقومية الفلسطينية وضم الضفة الغربية، كلها أو جزءا منها إلى إسرائيل، بما في ذلك مواطنيها. عندها سيتمتع هؤلاء المواطنون بحقوق الإنسان في إسرائيل، ولكن عليهم ممارسة حقوقهم بصفتهم مواطنين في الأردن، “الدولة الفلسطينية الحقيقية”، رغم استياء الفلسطينيين والأردنيين.

هذا هو حلم اليمين الإسرائيلي الكبير. لن يساعد تجاهله أو إخفائه على محاربته؛ بل يساعدان على تعزيزه حتى يصبح الوقت متأخرا.

نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في موقع منتدى التفكير الإقليمي

اقرأوا المزيد: 786 كلمة
عرض أقل
ناهض حتر
ناهض حتر

وداع من نبي الغضب الأردني

كان ناهض حتر، الذي قُتل بعملية اغتيال نادرة في عمان، مفكرا مسيحيا مثيرا للجدل، مُدهشا، وزعيما لمجموعة مثيرة للإعجاب من المعارضين السياسيين والأيديولوجيين.‎ ‎التوتر الإسلامي-المسيحي، والذي ربما يكون الأكثر حساسية في النسيج الاجتماعي الأردني، بات يُشكل الآن خطرا

قُتل صباح يوم الأحد الكاتب والمفكّر الأردني ناهض حتر أمام قصر العدل في عمان. مُنفذ عملية الاغتيال هو أردني سلفي يُدعى رياض عبد الله، وقد قُبِض عليه على الفور واعتُقل. أثار اغتيال حتر دهشة في أوساط الكثير من الدوائر الإعلامية، السياسية، الاجتماعية، والثقافية في الأردن والعالم العربي كله.

وخلافا للبلدان المجاورة، الكبيرة والصغيرة على حدّ سواء، كانت الاغتيالات وما زالت حدثًا نادرا جدّا في الأردن. ففي الخمسينيات والستينيات العاصفة عرفت مدينة عمان اغتيالات تضمنت رئيس الوزراء اللبناني، رياض الصلح (1951)، ورئيس الوزراء الأردني، هزاع المجالي (1960)، وقد رافقت الاغتيالات أحيانا أيضًا الحرب الأهلية (1970-1971). عام 1984 قُتل السياسي الفلسطيني فهد القواسمي، وفي عام 2002 قُتل الدبلوماسي الأمريكي لورنس بفولي، وقد حدثت عمليتا القتل في عمان. ولكن لم يُقتل أحد في الأردن على خلفية حرية التعبير أبدا، وخصوصا في السياق الديني، وقد اعتقد الكثير من الأردنيين أنّ بلادهم، وهم أنفسهم، محصّنون من الوباء الذي ضرب بلدانا كثيرة في الشرق الأوسط وخارجه. ولكن أخفقوا هذا الاعتقاد أمس.

كان الدافع المُعلن للقتل هو رسم كاريكاتير شاركه حتر في حسابه على الفيس بوك قبل نحو شهرين وعرض فيه “رب الدواعش”. ظهر الله في الكاريكاتير كمُسنّ لطيف في الجنة يتلقّى تعليمات لوجستية من شيخ سلفي مُستلقٍ على سرير وتجلس إلى جانبه شابّتان. كان الكاريكاتير، الذي بدا أنّ صانعه مسلم، جريئا مقارنة برسوم الكاريكاتير التي نُشرت في الماضي في أوروبا وأدت إلى قتل الرسّامين المسيحيين. كان كل من رأى ذلك الكاريكاتير فزوعا ومُدركا أنّ الحديث يدور عن مادة متفجرة؛ وقد أدرك حتر ذلك سريعًا أيضا، فحذف مشاركته مُعتذرا. ولكن مطاردة السحرة كانت قد انطلقت.

يتميّز الأردن بالمحافظة الاجتماعية والدينية (حتى ولو كانت أقل من المجتمعات الخليجية)، وقد اكتسحت موجة الإدانة والنقد التي اجتاحت حتر أيضا السلطات في البلاد وأدت إلى فتح تحقيق رسمي ضدّه بتهمة إثارة النعرات الدينية. وقد اعتُقِل لنحو ثلاثة أسابيع، وصرّح أنّه سيُوضح في دفاعه أنّه لم يمسّ بالذات الإلهية فحسب بل دافع عنه أيضا، وذلك من خلال عرضه للشكل الذي تشوّه به داعش صورته. بدأت أصداء القضية تهدأ تدريجيا، وكان من المرجّح أن تنتهي بتسوية قضائية ما، مع كسب رضى جميع المشاركين بها، كما انتهت قضايا مشابهة أخرى في الأردن في السنوات الأخيرة. ولكن منفذ الإغتيال فكّر بطريقة أخرى.

كان ناهض حتر، المولود عام 1960، أحد المفكرين البارزين في الأردن في العقدين الأخيرين. كان مسيحيا، علمانيا، شيوعيّا، وماركسيا في عصر تتضاءل فيه مُعدّل المنتمين إلى هذه المجموعات، أو على الأقل، أصبحوا أكثر صمتا، في الشرق الأوسط. لقد ازدادت قائمة خصومه السياسيين والأيديولوجيين، والذين واجههم بشدّة وبابتهاج علني، خلال السنوات الأخيرة: الإسلام السياسي، ناهيك عن السلفيين (كانت شهادة الماجستير الخاصة به عن التفكير السلفي الحديث)، الأردنيين – الفلسطينيين، النخبة النيو- ليبرالية، والنظام الهاشمي نفسه. سُجن ناهض مرتين في السبعينيات ومرة واحدة في أواسط التسعينيات، بل تعرض لمحاولة اغتيال عام 1998. نتيجة لذلك اضطر إلى إجراء عمليات وعلاجات مستمرة وهجر إلى لبنان لفترة معيّنة.

بدءًا من بداية العقد الماضي برز حتر أكثر، تدريجيا، بصفته “أبا روحيا” للحركة الوطنية الأردنية المتشكّلة. شعر الشرق أردنيون باليأس بسبب الضرر الذي لحق بمكانتهم، وبسبب سلب مواردهم، على اعتقادهم، لصالح نخب نيو- ليبرالية أردنية- فلسطينية وأجنبية، ولاحظوا كيف يتنافس اللاجئون العرب، بداية من العراقيين ولاحقا من السوريين، لشغل الوظائف القليلة والأعمال اليدوية أمام “السكان الأصليين” لشرق الأردن من الطبقتين الوسطى والدنيا.

انزعج النظام بشكل أقل من الأعضاء الضعفاء في اليسار الأردني الذين تجمعوا وأعينهم متلألئة إلى جانب حتر، وانزعج أكثر من المسؤولين والعسكريين، وكبار موظفي الدولة المتقاعدين الذين لامست قلوبهم التحليلات والحلول التي اقترحها حتر. في الواقع كان حتر أول من نجح في تقديم تفسيرات بنيوية مُقنعة للتباعد الذي نشأ بينهم وبين النظام الهاشمي.

بل تمتع حتر خلال فترة معينة في العقد الماضي بحوار مباشر مع رئيس المخابرات، رغم استياء مسؤولين في القصر، حتى صدرت تعليمات، عام 2008، تقضي بإلغاء تشغيله ككاتب في الصحافة الرسمية. غني عن القول أنّ الإخراس لم ينجح، فقد انتقل حتر لنشر آرائه بحدّة وصراحة أكبر في مواقع التواصل الاجتماعي، في عشرات مواقع الإنترنت التي عملت دون تدخّل (رغم محاولات الحكومة بين حين وآخر لإجراء بعض الترتيبات فيها)، وكذلك في مقاله الأسبوعي في الصحيفة اللبنانية اليومية “الأخبار”، التي تمثّل منصة استثنائية للتراسل الأيديولوجي بين المفكّرين العرب من اليسار والتي تميل قليلا إلى حزب الله. لقد تصاعدت شعبية حتر في الأوساط الشرق أردنية، ممّا أثار استياء النظام.

عندما اعتُقِل حتر في أعقاب مشاركة الكاريكاتير بثّت السلطات الأردنية، كعادتها، رسالة مزدوجة. فمن جهة، خارجيا قد سعت إلى تجنّب طابع التضييق على حرية التعبير والرأي، مُلمحة إلى أنّ الأمر ضروري للحفاظ على أمن حتر. ومن جهة أخرى، سعت داخليا إلى اتهام حتر بنشر خطاب الكراهية واستغلال حدود حرية التعبير للتحريض الديني. كما كان في الماضي، من الصعب معرفة إلى أي مدى آمن مسؤولو السلطات التنفيذية والقضائية بهذه الدعاوى، أو سعوا غالبا إلى توفير ما يُغذي الرأي العام حتى تهدأ العاصفة. وأيا كان الأمر، فإنّ خطاب الكراهية ضد حتر نفسه قد تجاوز الحدود الحمراء بعد مشاركة الكاريكاتير، فقد أرسلت أسرته إلى السلطات معلومات عن سلسلة التهديدات التي تشكل خطرا على حياته، إذ نُشر الكثير منها علنيا في مواقع التواصل الاجتماعي.

وقد أثارت عملية الاغتيال دهشة على المستوى السياسي والعام الأردني دهشة. لقد بدت تعابير الأسف والإدانة من كل حدب صوب، بما في ذلك خصوم حتر الأيديولوجيين وعلى رأسهم الإخوان المسلمون أصيلة، وأصبحت تُهيّمن على تعابير الفرح القليلة في مواقع التواصل الاجتماعي. ولكن التسريبات المُغرّضة من التحقيق مع مُنفّذ الاغتيال، وهو خطيب سابق (والذي من المُرجح أنّه فقد وظيفته على خلفية التطرف الديني)، بادعاء أنّه رغم كونه سلفيا فهو مُعارض مُعلن لداعش، تثير شكوكا إذا كان الأردنيون سيفعلون هذه المرة أيضًا كل ما في وسعهم لتغطية أبعاد تجذّر الأفكار، الممارسات والتنظيمات السلفية الجهادية في المملكة.

في الواقع، يبدو أن القاتل قد تتبع حتر وجمع معلومات عن تحركاته، وقد وصل حتر، كما ذُكر، إلى مبنى المحكمة ليس للجلسة المُخطط لها في قضية الكاريكاتير وإنما بشكل عشوائي وبسبب قضية أخرى. بل اعترف مصدر أمني أردني مسؤول، من دون ذكر اسمه، أنّه يُدرس الآن الاحتمال أنّه في حال كان منفّذ عملية الاغتيال “ذئبا منفردا”، فإنّ داعش تشكل مصدر الإلهام.

لا يرتكز الخوف الكبير في الأردن الآن على آثار عملية الاغتيال غير المسبوقة من هذا النوع لكاتب ومثقف، وإنما أيضا الخشية من نشوب الحرب الأهلية في المملكة. ولا يحدث ذلك على خلفية حقيقة أنّ حتر كان بطل ومفكّر الحركة القومية الأردنية، وأنّ قاتله كان كما يبدو فلسطينيا (هذا ما تم التلميح به من حقيقة أنّه كان خطيبا في مسجد شرق عمان) فحسب، بل أيضًا لكونه مسيحيا قُتل من قبل مسلم متطرف.

ورغم أنّه من الواضح للجميع أنّ حتر قد قُتل بسبب الكاريكاتير وليس لأسباب دينيه، إلا أن التوتر الإسلامي- المسيحي الذي قد يكون الأكثر حساسية في النسيج الاجتماعي الأردني أصبح يُشكل الآن خطرا داهما. وذلك، من بين أمور أخرى، استمرارا للعاصفة التي اندلعت في الأردن منذ بداية الصيف في أعقاب وفاة موسيقي أردني مسيحي شاب وموهوب، وهو شادي أبو جابر، إذ ثار بعدها في النقاش الأردني العام السؤال إذا ما كان مسموحا للمسلمين الرحم على المسيحي.

وسيظل السؤال إذا ما كان هناك فشل أمني في الحفاظ على حياة حتر مطروحا في النقاش الأردني بالتأكيد في الأسابيع القادمة. ومع ذلك، فمنذ الآن أصبح الخطاب العام مغمورا بدعوات من كل حدب وصوب لاستبطان السؤال الكبير حقا: هل تُمارس في الأردن حرية التعبير والتسامح الحقيقي مع المواقف والآراء المثيرة للجدل، وهل تعمل الدولة بجدّية من أجل ترسيخ حرية التعبير عن الرأي وحمايتها. وهذه أسئلة برسم الجواب لأنّ الإجابة السلبية معروفة للجميع.

ربما ترغب السلطات في تصميم مجتمع مدني وبلورة خطاب عام متسامح وتعددي ولكنها غير مستعدة للعمل بجدية والتصادم مع المجتمع المحافظ. حتى إن يطبق القانون بصورة انتقائية بمثلاً على الاستخدام الحرّ للسلاح في المجتمع الشرق أردني. فقبل يوم واحد فقط من وفاة حتر قُتلت شابة بإطلاق نار عن طريق الخطأ خلال الاحتفال بانتخاب عمّها للبرلمان. أما جهود السلطات الإعلامية المبذولة للقضاء على الظاهرة يُمكن اعتبارها محدودة على ضوء حقيقة أنّه لا تُطبّق أية عقوبة تجاه مطلقي النار، المتسببين بالجرحى والقتلة في الأفراح والمناسبات.

سيغيب صوت ناهض حتر بشكل كبير في الأردن. ولكن ككبار المفكرين الآخرين، الماركسيين منهم بالتحديد، فقد وجد حتر صعوبة في أن يحس مصائب الناس العاديين. لقد كانت تكمن أهميتهم، في نظره، كمجموعات وليس كأفراد. ركّزت كتاباته ونشاطاته العامة في تحليل المجتمعات والطبقات والموارد وعلاقات القوة وتوازن القوى بين الدول والقوى العظمى والمراحل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

وربما هذا هو السبب أنّه رغم كونه يساريا مُخلصا، كما عرّف نفسه وكما عرّفه مؤيّدوه ومعارضوه، لم ينبس بكلمة تجاه الفظائع والمعاناة الرهيبة للسكان المدنيين التي أحدثتها الأنظمة التي دعمها. وعلى رأسها نظام الأسد، الذي حظي بدعم حتر حتى يوم وفاته لاعتبارات مُعقّدة اتخذها الأخير بخصوص تدخل القوى العالمية والإقليمية (وعلى رأسها قطر والسعودية) فيما يحدث في سوريا والشرق الأوسط. لقد اتُّهم مرارا وتكرارا بكراهية الأجانب: الفلسطينيين، العراقيين، السوريين، وآخرين. كانت لديه إجابات معقّدة ومثيرة للتفكير لمعظم تلك الاتهامات.

كره حتر الإخوان المسلمين وقطر، التي اعتبرها راعيتهم المقيتة، ولكنه احترم الإسلام وأهمية الدين لدى الطبقة الوسطى والدنيا. وقد كره أيضًا إسرائيل وعدوانيّتها، ودعم تنظيمات المقاومة مثل حزب الله وحماس ودولا مثل إيران وفقا لتحليله المُتغيّر للملابسات العربية. عارض استخدام العنف في الخطاب العام، ولكنه من حين لآخر اقترح إعداد “قائمة سوداء” للفلسطينيين والنيو- ليبراليين والإسلاميين. لم يُعرف كشخص صاحب فكاهة وثرثرة. كان نبي غضب مشبعا بالرسالية.

كان ناهض حتر رجل التناقضات، ولكن كانت كتاباته، دراساته، ومحاضراته مُدهشة وفي بعض الأحيان مُتألقة. كان يبدو في بعض الأحيان مندفعا وراء نظريات المؤامرة واستنتاجات داحضة، ولكن اتضح أحيانا أنّه رأى الغيب قبل أشهر وسنوات من حدوثه.

فقد الأردن أحد كبار مفكرينه، الأكثر تحدّيا وإثارة للجدل الذي كان بإمكان نظامه التعليمي أن يُنتجه قبل أن يتحوّل إلى آلة للعلامات والألقاب، والذي كان بإمكان ساحته السياسية أن تكوّن قبل أن تتحدّد كألية لتوزيع المناصب بين عائلات النخبة.

يمكن للمرء أن يأسف لا بسبب الدلالة الأمنية وتقويض الاستقرار الداخلي في الأردن في أعقاب عملية الاغتيال فحسب، ولكن كذلك على الملل والضجر الفكري اللذين سيخيّما على الخطاب العام والسياسي والايديولوجي في الأردن في غيابه.

نُشر هذا المقال للمرة الأولى في منتدى التفكير الإقليمي.

اقرأوا المزيد: 1541 كلمة
عرض أقل
طائرة مروحيّة من نوع كوبرا (Flash90/Moshe Shai)
طائرة مروحيّة من نوع كوبرا (Flash90/Moshe Shai)

مساعدة عسكرية للأردن: شكرا لإسرائيل، وليصمت الخونة

حتى عندما تُعتبر المساعدة التي توفرها إسرائيل كمساعدة للمواطنين العرب وأمنهم، وليس للحفاظ على النخبة الحاكمة الاستبدادية، فإنّ إحراجا وخجلا يغمران الخطاب العربي العام

هدّأت ثورات “الربيع العربي”، إلى حدّ ما، من الخطاب العربي العام ضدّ “التطبيع” مع إسرائيل، لثلاثة أسباب رئيسية. أولا، لأنه ثبت أن الإخوان المسلمين لا يسارعون في إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل عندما يصعدون إلى الحكم. بكلمات أخرى، ما رآه الإخوان من “هناك” لم يعودوا يرونه من “هنا”، وإذا كان أشد المعرضين لإسرائيل قد تصرّفوا كذلك، فماذا يقول الضعفاء. ثانيا، في مشاهد الرعب وسيناريوهات الذعر التي تغرق الدول العربيّة على ضوء ما يحدث في المنطقة، يمكن لإسرائيل أن تكون تحديدا عامل استقرار، وبشكل أساسي للأنظمة الاستبدادية ولكن في أحيان كثيرة أيضًا للدول ولمواطنيها، إلى جانب المساعدة والتعاون العسكري – الأمني تجدّد أيضًا التعاون في مجالات المياه والطاقة، وفي بعض الأحيان المساعدة الإنسانية أيضًا. ثالثا، الكثير من سكان الدول العربيّة يشاهدون الحروب الأهلية الرهيبة والفظائع التي تزرعها عشرات الميليشيات المسلّحة الناشطة في دول مختلفة، ويقارنون ذلك بحروب إسرائيل ضدّ الفلسطينيين، ويخرجون بنتيجة أنّ “إسرائيل أكثر رحمة من العرب”، كما يكتب إعلاميون عرب كبار مرارا وتكرارا، بلهجة من الألم.

The girls are still screaming, but the excitement was gone‏، كما قال المتحدث مالكولم ماكدويل في الفيلم الشهير عن البيتلز، مشيرا إلى شعبية الفرقة بعد تصريح لينون بأنّ البيتلز أكبر من يسوع. يبدو أنّ هذا ما يبثّه الرأي العام العربي في موقفه من الاكتشافات “المثيرة” الجديدة حول التعاون الإسرائيلي – العربي. لأجل ذلك تحديدا، فإنّ الخفايا التي يكشف عنها الخطاب العربي العام حول الموضوع هي أكثر إثارة بكثير من الماضي.

تمرين عسكري مشترك للأردن وأمريكا (Facebook)
تمرين عسكري مشترك للأردن وأمريكا (Facebook)

نشرت وكالة رويترز في نهاية الأسبوع الماضي أنّ إسرائيل قد نقلت إلى الأردن ستّ عشرة طائرة مروحيّة من نوع كوبرا مستخدمة، لأجل تأمين حدودها في الشمال والشرق من تهديد الدولة الإسلامية (داعش). وقال الجنرال الأمريكي مجهول الاسم الذي تحدث إلى رويترز أنّ هذه المروحيّات، التي تم إرسالها مجانا للأردنيين، تم إصلاحها قبل ذلك من قبل الولايات المتحدة.

لم يفقد الخطاب العام في الأردن سيطرته، في الإعلام المكتوب والإلكتروني وفي مواقع التواصل الاجتماعي (بما في ذلك خطاب المعارضة). ولكن التسلسل الجذاب لمتصفحي الفيس بوك في الصحيفة اليومية الشهيرة “الغد” قد كشف عن ساحة المناوشات الحقيقية: تلك التي بين الأردنيين وبين الأردنيين من أصول فلسطينية. هذه المرة، اعتبرت المساعدات العسكرية من إسرائيل مفيدة لمواطني الأردن وأمنهم ضدّ المخاطر الفظيعة التي تهددهم على الحدود المضطربة في الشمال والشرق. بعبارة أخرى، لا يدول الحديث هنا عن “خيانة” في “جانبنا” – معظم سكان المملكة، بالتأكيد، منذ قضية الطيار معاذ الكساسبة الذي أُحرق حيّا، يعرفون داعش كمحبة للشرّ – ولكن، على الأكثر، فمن العار أن تكون إسرائيل هي التي تقدّم المساعدة. في هذه الظروف، تتحول الخيانة إلى تهمة يوجّهها الأردنيون للفلسطينيين وعلى العكس، على شكل أنا لست خائنا ولكن أنت أكثر خيانة.

إعدام معاذ الكساسبة (لقطة شاشة)
إعدام معاذ الكساسبة (لقطة شاشة)

لكل من هو موجود في الخطاب العام الأردني كان واضحا أن المتصفح الذي ردّ على الخبر بعبارة: “من يغضب من الأردن مدعو لأن يسأل الفلسطينيين لماذا يبنون المستوطنات على أرض فلسطين المقدّسة”، فهو أردني يدعو الأردنيّين من أصول فلسطينية إلى المبارزة. تمّت الاستجابة للدعوة، وردّت إحدى المتصفّحات بادعاء أنّ الفلسطينيين في الأراضي المحتلة يبنون المستوطنات من أجل اليهود لأنّهم واثقون بأنّ فلسطين ستعود إليهم. وقد أوضحت أن الفلسطينيين يبنون في الواقع من أجل أنفسهم وليس من أجل اليهود. وقد أثار ردّها موجة من الضحك وسلسلة طويلة من التعليقات بين المتصفّحين والمتصفّحات والذين أخذوا موقفا واضحا. اتهمت مجموعة من المتصفّحين الأردنيين بالخيانة، وتساءلت ما إذا كانت المروحيّات قد أصبحت “مستخدمة” بعد أن قتلت غزيّين أبرياء في الصيف الأخير.

على الجانب الآخر، مع ذلك، لم تكن هناك اعتذارات. ذكر عدد كبير من المتصفّحين أنّ إسرائيل تخدم، في نهاية المطاف، مصالحها (وكان هناك من اقترح فحص سلامة المروحيات أو إذا كانت قد وُضعت فيها أجهزة تنصّت)، ولكن عادوا إلى موقفهم: إسرائيل، كما أصرّوا، أكثر حرصا على الأردن من غيرها. شكرا لكم، أيها الأصدقاء، كما كتب بعض المتصفِّحين وهم يتوجّهون إلى إسرائيل: أنتم أفضل من بشار، أفضل من إيران، أفضل من داعش بل وأفضل من “إخواننا” الأثرياء في دول الخليج.

تدريبات للجيش الأردني في الستيلاء على إرهابيين إسلاميين (AFP)
تدريبات للجيش الأردني في الستيلاء على إرهابيين إسلاميين (AFP)

كان أحد العقول التمرية الذكية سيتطرّق إلى كل تلك التعليقات على نحو متساهل: معارضو الصفقة هم بطبيعة الحال “أصلاء” والمدافعون عنها هم “رجال مخابرات”. ولكن هذا التفكير يغفل الأحداث الخفية التي تم وصفها أعلاه. تغيّرت الظروف، وإذا واجه سكان الأردن خطرا وساعدت إسرائيل جيشهم، فهي ببساطة صديقة. يسمح هذا الاستعداد للمتصفّحين والمتصفّحات بكسر صفوف الجوقة المعروفة. هكذا، كان أحد الادعاءات: “من يعمل مع اليهود فهو سعيد وراض”، بما في ذلك من ناحية المزايا الاجتماعية التي يحصل عليها، وأقسم آخر قائلا: “يخرج الناس من الأردن من أجل العمل لدى اليهود ويقولون إنّ اليهود يتعاملون معهم بشكل أفضل من العرب”. ومن هناك انتقل المتصفّحون والمتصفّحات للجدال حول من أكثر خيانة، فسادا ونكرانا للجميل: الأردنيون الذين حصلوا على مروحيات من إسرائيل، أم الفلسطينيون الذين يعملون لدى اليهود في الأراضي المحتلة، ويعملون لدى أجهزة الأمن الإسرائيلية كأفراد (عملاء) وكهيئات رسمية (السلطة الفلسطينية وأجهزتها)، ويحظون بمأوى وحماية الأردن كلاجئين، وفي النهاية يؤذونه عندما يتلقى المساعدة من إسرائيل من أجل حماية مواطنيه، ومن بينهم أولئك الذين من أصول فلسطينية. لماذا يحظر علينا ما يُسمح لهم به ولكل العرب الآخرين، ثار متصفّحون أردنيّون.

حتى عندما تعتبر المساعدة التي توفرها إسرائيل كمساعدة للمواطنين العرب وأمنهم، وليس للحفاظ على النخبة الحاكمة الاستبدادية على حساب رفاهية مواطنيها وإرادتهم الحرّة، فإنّ إحراجًا وخجلا يغمران، بشكل طبيعي، الخطاب العربي العام، هل لا يحدث شيء من هذا القبيل في كل حدث إنساني للعطاء المخفي الذي يصبح مكشوفا؟ ومع ذلك، فخلافا للماضي، إلى جانب الخلاف الداخلي الذي يزرعه هذا الكشف، ظهرت أصوات جديدة في الخطاب العام ترى في إسرائيل صديقا حقيقيّا في وقت الضائقة.

نشر هذا المقال لأول مرة على موقع Can Think

اقرأوا المزيد: 860 كلمة
عرض أقل
طالبات في مدارس دينية في قطاع غزة (AFP)
طالبات في مدارس دينية في قطاع غزة (AFP)

داعش في المساجد وكتب المدارس

إنّ بربرية داعش تجاه العرب تثير عملية من الاستياء والنقد الذاتي حتى في أوساط المؤمنين المسلمين، وهذه العملية هي شرط مسبق لكل تغيير مستقبلي

“داعش في المساجد وكتب المدارس”. كان هذا هو عنوان مقال دلال سلامة، وهي صحفية وإعلامية أردنية مسيحية، ومعلّمة سابقة في وزارة التربية الأردنية، وذلك في الموقع الأردني الليبرالي “حبر” وهذا ما كتبته:

” يوم ‏26‏ كانون الأول (ديسمبر) الماضي، بعد يوم من عيد الميلاد، خصص الشيخ في أحد المساجد القريبة من منزلي خطبة الجمعة لمهاجمة المسلمين الذين «تشبّهوا بالكفار»، واحتفلوا في اليوم السابق مع المسيحيين بعيدهم. وكان مما قاله بالحرف الواحد، مشيرًا إلى المسيحيين:«إن علينا أن نكره هؤلاء القوم، وأن نكره دينهم وكتابهم المحرّفين».

تساءلت وقتها، عندما كان صوته، بفضل الميكروفون، في قلب المنازل المغلقة النوافذ، إن كان هناك شيخ آخر، في أحد المساجد المجاورة لحارة تسكنها أغلبية مسيحية، ولا تبعد عنّا أكثر من ‏500‏ متر، قد عنّ له أن يخوض في المسألة نفسها.

تشنّ وزارة الأوقاف منذ أشهر حملة على خطباء المساجد المناصرين لداعش، ولا أعرف إن كان هناك إجراء مشابه للمحرضين ضد المسيحيين، لكن إذا كان هناك شيء كهذا، فإنه وحده لن يُحدث أي فرق حقيقي، لأن جوهر المشكلة ليس في التعبير عن الأفكار المتطرفة، بل في الإيمان بها، وما دامت جهود محاربة التطرف لا تتواجه بوضوح مع هذا الإيمان، فإن الحرب على التطرف ستظل حربًا على رأس جبل الجليد”.

إن الحوار الإعلامي الذي يركز على الفرق بين الإرهاب وبين “الإسلام الحقيقي”، كما تعتقد سلامة، ليس سفسطة لغوية عاطفية. ذلك أنّ معظم هذا الحوار ينبع من الإعلام الرسمي، ولم يبق إلا الاستنتاج بأنّ “الإسلام الحقيقي” هو ذلك الذي يُنشر في الكتب التعليمية في الجهاز التربوي الرسمي. قبل نحو نصف عام، كما تذكّر الكاتبة، ثار الرأي العام العربي في أعقاب افتتاح سوق للعبيد في محافظة نينوى في العراق، وتمّ فيه بيع نساء مسيحيات ويزيديّات تم اختطافهنّ من قبل داعش.

تربية وتعليم
تربية وتعليم

” في كل حادثة إرهابية، فإن الفكرة الأساسية التي يرتكز إليها الخطاب الإعلامي المستنكر لها، هي أن ما حدث لا يمثل «الإسلام الحقيقي»، لكن أحدًا لا يخبرنا ما هو «الإسلام الحقيقي». لا أحد يحدد لنا هذا الإسلام الواحد المُتوافَق عليه، الذي يخرج الإرهابيون عنه. وهذا الضخ الإعلامي الهائل، الذي يخرج مستنكرًا كل حادثة إرهاب، مؤكدًا على أن هذا ليس الإسلام الحقيقي، ليس على الأغلب أكثر من إنشاء لغوي عاطفي.

قبل ستة أشهر تقريبًا، أُثيرت ضجة كبيرة على خبر افتتاح داعش سوقًا للرقيق في محافظة نينوى العراقية، عُرضت للبيع فيه، نساء مسيحيات ويزيديات، اختطفهن التنظيم خلال عملياته العسكرية، وتعامل معهن كـ«سبايا» حرب. وتداول الناس على نطاق واسع، عبر الإنترنت، مقطع فيديو يظهر مجموعة رجال، قيل إنهم من مقاتلي داعش، كانوا يتحدثون بمرح عن سوق الجواري المقرر انعقاده ذلك اليوم، وعن مواصفات الجواري المفضلة لهم.

وقتها قيل إن هذا ليس «الإسلام الحقيقي»، لكن كتاب التاريخ للصف التاسع1‏، يدرّس التلاميذ أن العبيد والجواري، كانوا من مكونات المجتمع الإسلامي في الماضي، ويعلق قائلًا إن «الدين الإسلامي لم يلغِ الرق، إلا أنه أوصى بحسن معاملة الرقيق، وحثّ على تحريرهم بطرق متعددة». أي أن التلاميذ يتعلمون أن الرّق ممارسة ما زالت إسلاميًا مشروعة، لكن سيكون من باب مكارم الأخلاق أن يتفضّل المسلم فيحرر ما لديه من عبيد من دون مقابل مالي، أو يمكن له استيفاء هذا المقابل من العبد نفسه، أو يمكن استخدام إطلاق سراح العبد للتكفير عن ذنب.

تُستنكر أخبار الإعدامات التي يقوم بها داعش في حق من يسميهم بالـ«مرتدين عن الإسلام»، ويُقال إن «الإسلام الحقيقي»، يتسامح مع حرية الاعتقاد، لكن في كتاب التربية الإسلامية للصف التاسع2‏، يتعلم التلاميذ وجوب «قتال المرتدين»، فبحسب الكتاب، فإن اتفاق أصحاب الرسول عليه السلام على قتال المرتدين عن الإسلام، هو أحد الأمثلة على «الإجماع»، الذي يُعدّ في الفقه الإسلامي أحد مصادر التشريع، بعد القرآن والسنة النبوية. ووفق الكتاب أيضًا، فإن كل ما هو محل إجماع «يجب العمل به (…) ولا تجوز مخالفته”.

كلّ ذلك، كما تؤكد سلامة، لم يظهر في الكتب التعليمية كتاريخ انتهى زمنه، وإنما كأسلوب يتصوّره الدين الإسلامي في الحاضر. كل مفهوم فكري أو اجتماعي يتم عرضه في تلك الكتب من وجهة النظر الدينية الإسلامية، مع التجاهل التامّ للتنوّع الديني والفكري القائم في الأردن وفي العالم. وهكذا، كما تقول الكاتبة، ففي كتاب “التربية الوطنية والمدنية للصف السابع” يتم مناقشة مفاهيم مثل الأسرة، العلاقات داخل الأسرة وحقوق المرأة من وجهة النظر الدينية الإسلامية فقط، ولكن الكتاب يضمّ عنوان “مدني”.

تربية وتعليم
تربية وتعليم

ولا تتجاهل الكتب التعليمية – كما تقول سلامة – الديانات والمجتمعات غير الإسلامية فحسب وإنما أيضا التنوع وتعدّد الأفكار داخل الدين الإسلامي نفسه، على سبيل المثال في موضوع تنظيم الأسرة. وهي تؤكّد قائلة:

” ينشأ التطرف عندما تعلن أي جماعة أنها تحتكر الحقيقة، لأنها ستبدأ بعدها بالنظر إلى الآخرين ممن يتبنون «حقائق» مغايرة، لا بوصفهم نظراء مكافئين، يمتلكون مثلها الحق في الوجود والتعبير، بل بوصفهم كائنات ضالة‎.‎‏

وبسبب ذلك، سيكون الآخرون المختلفون دينيًا، كما في كتاب الثقافة الإسلامية، للثاني الثانوي‏‎5‎‏،‏‎«‎أهل ذمة‎»‎‏،‏‎ ‎يحظون بـ‎«‎التسامح‎»‎‏، ولهم حق ممارسة شعائر دينهم‎ «‎دون تحدٍ لمشاعر المسلمين‎»‎‏، ولهم حق تولي المناصب العامة‎ «‎إلا رئاسة الدولة وقيادة الجيش”.

ولا يزال حال هؤلاء أفضل من أصحاب الأيديولوجيات الأخرى، كما تقول سلامة، والذين يظهرون في كتاب الثقافة الإسلامية للصف السادس كأحد أسباب تراجع “الأمة” لأنّهم تبنّوا أفكارا أخرى.

“أما المختلفون فكريًا، فإنهم سيكونون أحد أسباب «تراجع» الأمة، إذ يتعلم التلاميذ في كتاب الثقافة الإسلامية، للأول ثانوي‏6‏، أن من أسباب تراجع الأمة هو اتجاه «كثير من أبنائها إلى تبني كثير من الأفكار والعادات والقيم الدخيلة على الأمة المسلمة، والمستمدة من أفكار الأمم الأخرى وقيمها»، واعتماد هؤلاء على «ثقافة مستوردة لا تتناسب قيمنا وسلوكنا”.

وتتحدّث سلامة عن ابنها وأصدقائه المسيحيين، الذين اضطرّوا في عدة مرات إلى سماع معلّميهم ومعلّماتهم للدين وهم يشرحون بأنّ كل من ليس مسلما سيعاني من نار جهنّم بعد موته. والحادثة الأكثر بشاعة، كما تقول سلامة، هي في السنة الماضية، في الصف العاشر، عندما أجابت المعلّمة بالإيجاب على سؤال أحد التلاميذ إذا ما كان المسيحيون الطيّبون أيضًا سيذهبون إلى جهنّم، وشرحت بأنّ كل شخص عاقل ينظر إلى الكون من حوله سيعتنق الإسلام بالضرورة. “إنّه ذنبهم”، كما برهنت المعلّمة للطلاب، “لماذا لا يشغّلون عقولهم؟”

داعش يفجّر مسجد عمر بن الخطاب في الأنبار
داعش يفجّر مسجد عمر بن الخطاب في الأنبار

وهكذا تختتم سلامة مقالها:

” فلنبدأ من هنا، هل نريد مواصلة إنتاج أجيال يُقال لها إن كل من ليس مسلمًا سيذهب إلى النار؟ لأن كتب المدارس، وإن لم تتبنَّ المقولة السابقة صراحة، إلا أنها تفعل ذلك ضمناً، عندما تنغلق على رؤية وحيدة للعالم، وتحكم بالضلال على كل ما عداها، حتى من دون عرضه”.

حظي مقال سلامة الشجاع بمشاركات عديدة وبنقاشات موسّعة في الشبكات الاجتماعية. وهناك يمكن أن ننظر إليه من زاويتين: المبدئية والعملية.

من حيث المبدأ، يمكن القول إنّه في ديانات أخرى هناك احتمال للإقصاء والتطرّف، ومن بين أسباب ذلك أنّ هناك قناعة ذاتية كامنة في أساسها بأحقّيّتها وبطلان غيرها. “الدين الحقيقي” – سواء كان هو “الإسلام الحقيقي” أو “اليهودية الحقيقية” – ليس إلا خيالا، وذلك لأنّ هناك سبعين وجها للتوراة، وكذلك للقرآن.

مبادئ عن التسامح ومبادئ عن التطرّف ستجدها بوفرة في جميع النصوص المقدّسة، وكل من يرغب يمكنه أن يأتي ويأخذ. إنّ درجة التطرّف لدى المفسّرين ومعلّمي الفقه، كاريزميتهم وجاذبيّتهم، وعدد المؤمنين التابعين لهم وقوّتهم، كلّ ذلك متعلّق بالظروف السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية وربما أيضا الثقافية؛ في جميع الديانات.

من هذه الناحية يمكن تماما أن نقول إنّ تطوّر اليهودية الأرثوذكسية الحديثة في إسرائيل على خلفية قيام الصراع القومي والديني، وعدم وجود رغبة لدى الدولة في منح مكانة متساوية (أو على الأقل أكبر قليلا) في المجال العام والرسمي أيضًا للتيارات الأكثر ليبرالية في اليهودية، يعمّق توجّهات الإقصاء والتطرّف تجاه الآخر في الحوار، والممارسة والسياسة الدينية – القومية. من حيث المبدأ، إذا كان الأمر كذلك، يبدو أنّه ليس سوى ترسيم حدود الدين في المجال الشخصي في دول الشرق الأوسط، التي يعيش فيها جنبا إلى جنب السكان المختلفون من الناحية الدينية، العرقية والقومية، هو الذي سيقلّل التطرّف الديني أو على الأقل يفصله عن مصادر قوته المحتملة والخطرة.

من الناحية العملية، مع ذلك، يجب التشكيك في جدوى فصل الدين عن الدولة في منطقة أنشئت فيها سياستها وتأسست على الربط بين الدين والدولة، والتي يوجد لدى سكانها (بما في ذلك إسرائيل بطبيعة الحال) مكوّنات محافظة، تقليدية ودينية قوية والتي تسعى للقوة والتمثيل في المجال العام.

يبدو من هذه الناحية أنّ مبادئ إسرائيل الديمقراطية لا تزال صامدة أمام انتشار الدين في المجال العامّ، حتى لو كان الأمر ليس مفيدا جدّا للسكان العرب/ الفلسطينيين في إسرائيل، الذين هم متضرّرون من الطريقة التي تُطبّق فيها الصهيونية حتى في النسخة الرسمية. وبالمقارنة مع دول الجوار، من كل مكان، فإنّ إسرائيل هي شوكة ضاحكة بين الزنابق الباكية في هذا الصدد، فإنّ نضال الأقليات المسيحية والقومية في الشرق الأوسط لفصل الدين عن الدولة أو لتطبيق مبدأ المواطنة؛ أمر أكثر تعقيدا وخطورة. وفي حالة الدول العربيّة اليوم، وربما أيضًا دولة إسرائيل في المستقبل، فإنّ بصيص الأمل – إذا كان الأمر كذلك – هو في حركة إصلاح تنشأ من “الأسفل”، من الدين نفسه، وتجعل المؤمنين أكثر تسامحا مع الآخر.

كما يظهر في مقال سلامة، فإنّ بربرية داعش تجاه العرب تثير عملية من الاستياء والنقد الذاتي حتى في أوساط المؤمنين المسلمين، وهذه العملية هي شرط مسبق لكل تغيير مستقبلي.

نُشرت المقالة للمرة الأولى في موقع ‏Can Think

اقرأوا المزيد: 1365 كلمة
عرض أقل
أسرى الدولة الإسلامية في تكريت قبل إعدامهم  (AFP)
أسرى الدولة الإسلامية في تكريت قبل إعدامهم (AFP)

اللي إيده بالمي مش زي اللي إيده بالنار

صدق الليبراليون في الغرب: "خطر الإرهاب الإسلامي" لا يهدد الغرب وإسرائيل حقا. إنه يُهدد أولا وأخيرا مئات ملايين المسلمين في الشرق الأوسط العربي. بل إن مئات منهم قد ذاقوا وبال أفعاله، أكثر من الغرب. لذا يجدر الإنصات لما لدى المهدَّدين الرئيسيين ليقولوا عن هذا الخطر

نُشرت في الأسبوع الماضي عدة مقالات تحليلية، والتي وفقا لها لا تؤكد الهجماتُ الدموية في باريس نظرية “خطر الإرهاب الإسلامي” الذي يجتاح الغرب. لست أرغب في الجدال بهذه الأمور، أظن أن في الأديان والمذاهب الفكرية عنصرا بنيويا لإقناع الآخر “بأن يرى النور”، وفي وقت ما سيقوم المفسر أو المفكر الذي سيقترح تحقيق ذلك بالعنف. في ظروف دنيوية معينة، كما اقترح شيزاف، يمكن أن ينجح في جذب المؤيدين والجنود.

‎ ‎لكني أريد إلقاء الضوء على زاوية ما مهمة في نظري. الرغبة المبارَكة في “رؤية الجانب الآخر” تحرك التعديين، لكن الكثير منهم لا باعَ له في الحوار العربي-الإسلامي، ويخشى أن يكونوا عُمياء عما يعكس هذا الحوار أحيانا كثيرة من اتهامات “غربية” بالطبع. يبدو أن في التخبط النفسي الداخلي الإسلامي والداخلي العربي تبرز نفس الأسئلة “التعميمية” التي يود الليبراليون والتعدديون الغربيون الابتعاد عنها.

سلفيون في غزة (SAID KHATIB / AFP)
سلفيون في غزة (SAID KHATIB / AFP)

تعود الأيديولوجية السلفية- الجهادية، التي أنجبت القاعدة وداعش، في جذورها السياسية إلى لاجئي الإخوان المسلمين الذين فروا من مصر إلى السعودية في سبعينيات القرن العشرين (تعود من ناحية فكرية إلى زمن أسبق). المسلمون غير السلفيين هم الهدف الأول والرئيسي للسلفية الجهادية، والأداة المركزية لتحقيق هذا الهدف هو الإكراه والعنف. إن تجاهل هذه الأيديولوجية- رغم أنها ظهرت في أحد المقالات التي ذكرتها مع جملة “داعش متعلقة بتطورات العالم العربي والإنترنت”، وإهمالها، قد كلفا ملايين المؤمنين في العالم العربي هذه الأعمال الفظيعة التي تعد عشرات أضعاف تلك التي عرفها الغرب، مما أدى بكثير منهم للتكفير عن الذنب وأن يسألوا أين أخطأوا. للمفارقة، كان الإخوان المسلمون أكثر من لديهم الجاهزية للتعامل مع السلفية الجهادية، لكنهم قُمعوا بنجاح من قبل أغلب الأنظمة العربية المحافظة في السنتَين الماضيتَين. إن أغلب الأنظمة العربية المحافظة، ما عدا في الأردن، يتعاملون مع السلفية الجهادية بمزيد من القوة والعنف، والذي لا يزيدهم إلا تقوية، وخاصة في غياب بديل إسلامي آخر.

تغمر الكثير من الأسئلة في الأسبوع الأخير الحوار العربي العام بخصوص شارلي ايبدو. أحد الأسئلة الرئيسية الذي يعرف القراء والقارئات ما فيه من فكرة: لماذا حين سخر رسامو شارلي ايبدو من كل الديانات، رد فقط المسلمون بعنف؟ يفسر الكثير من المتصفحين والكاتبين رد الفعل العنيف هذا في إطاره الدينوي (الزمان والمكان). يقترح كثيرون آخرون نظرية المؤامرة (وهي أفعال من صنع الموساد الإسرائيلي هدفها تشويه الإسلام). لكنّ هناك عدد غير قليل من المتنبهين الذين ينبهون رفاقهم: افتحوا أعينكم، ليس الآخر فقط مُلاما. عدم قدرتنا “نحن” على تقبّل آراء الآخرين، و”ميلنا” للهرب من النقد الذاتي، هما اللذان وصلا “بنا” إلى هذه الأيديولوجية.

مسيرة جمهورية ضد الإرهاب في باريس (AFP)
مسيرة جمهورية ضد الإرهاب في باريس (AFP)

هل “يُسمح” للمسلمين بالتعميم على أنفسهم ولا يُسمح للغرب بالتعميم عليهم؟ ربما نعم أم لا. هذه ليست النقطة. النقطة هي أن الأزمة لدى المؤمنين بالإسلام على ضوء العنف السلفي الجهادي هي حقيقية، وكذلك تخبطهم الداخلي. لا يُساهم تجاهل الأسئلة التي يزداد أكثر فأكثر عدد المسلمين الذين يطرحونها في أرجاء العالم ، حسب رأيي، في فهم القصة كاملةً.

في العربية يقول المثل: اللي إيده في المي مش زي اللي إيده في النار. وهكذا، ليست إسرائيل والغرب الهدف الرئيسي للسلفية الجهادية، المتمثلة في المرحلة الحالية بتنظيم الدولة الإسلامية، وإنما المسلمون المؤمنون من غير السلفيين. “خطر الإرهاب الإسلامي” لا يُهدد الغرب حقا. إنه يُهدد أولا وأخيرا مئات ملايين المسلمين في الشرق الأوسط العربي. بل إن مئات منهم قد ذاقوا وبال أفعاله. لذا يجدر الإنصات لما لدى المهددين الرئيسيين من كلام عن هذا الخطر. ربما نتعلم شيئا جديدا.

نُشرت المقالة للمرة الأولى في موقع Canthink

اقرأوا المزيد: 515 كلمة
عرض أقل
ملك الأردن الراحل الحسين بن طلال مع نجله العاهل الأردني عبد الله الثاني (AFP)
ملك الأردن الراحل الحسين بن طلال مع نجله العاهل الأردني عبد الله الثاني (AFP)

الأب والابن وروح السلام

لقد كان الملك حسين ملكا عربيا. ابنه عبد الله، بالمُقابل، ملك غربي. يسهّل ذلك الأمرَ على إسرائيل والغرب التفاوض معه، لكنه يقيّد الملك أيضًا في علاقاته مع شعبه وقدراته، بل وفي شرعيته، وفي أن يكون صريحًا في تصريحاته العلنية

“التطرف اليوم, فيه تطرف اسلامي وفيه تطرف صهيوني ايضا […] اذا نحن اليوم, كدولة اردنية, بالتعاون مع تحالف عربي-اسلامي, بدنا نحارب التطرف اللي عم بصير داخل الاسلام, والاسرائيليين كل خمس دقايق بدهم يذبحو اولادنا بغزة والقدس, مشكلة”.

هذه الأقوال، أدلى بها عبد الله ملك الأردن الأسبوع الماضي، خلال لقاء مع إحدى أحزاب البرلمان. تمت في وسائل الإعلام الإسرائيلية تغطية التصريحات تغطية خفيفة، وعلى ما يبدو فقد عضت جهات إسرائيلية أناملها كي لا ترد. لم يتخطّ السفير الإسرائيلي في عمان حدود التوضيح المقبول في إسرائيل رسميا وفي الإعلام الإسرائيلي في حالات متشابهة: الحديث عن ضريبة كلامية يدفعها الملك للرأي العام محليا وعربيا المعترض على اتفاق السلام، ومن ضمن ذلك بسبب العنف في الأراضي المحتلة، وخاصة في غزة والقدس، التي تبث في القنوات الفضائية العربية. الرأي العام لا يدرك مدى التعاون بين إسرائيل وبين الأردن، الذي ما زال جارنا الأفضل، كما يقول السفير.

عمليًّا، خضعت إسرائيل بلا قتال لواقع فرضته عليها الأردن. في السنوات الأخيرة بعد توقيع اتفاق السلام سادت إسرائيل مشاعر مختلطة فيما يتعلق بالتعاون مع الأردن. لقد كانت الصفقة واضحة: توقعت الأردن من إسرائيل التعاون معها في مجالات كثيرة ومتنوعة ما دامت إسرائيل تحافظ على طيب العلاقات سريا، من خلال إدراك صعوبات النظام في الرأي العام. كل محاولة إسرائيلية لكسر هذه المعادَلة وإظهار ثمرات السلام على الملأ يجابهها غضب أردنيّ في أفضل الأحوال وبتجميد التعاون في الحالة الأسوأ، مثلما يقال: “خود صوفك وخروفك وعين ما تشوفك”. تعرضت معاهدة السلام لخَطَر حقيقي بعد محاولة اغتيال خالد مشعل سنة 1997، وبعد سنوات معدودة خلالَ الانتفاضة الثانية، حين تجمدت العلاقات كليا تقريبًا بين الحكومتين.

إيتسحاق رابين، العاهل الأردني الملك حسين والرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في حفل توقيع اتفاقيات السلام (Nati ShohatFlash90)
إيتسحاق رابين، العاهل الأردني الملك حسين والرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في حفل توقيع اتفاقيات السلام (Nati ShohatFlash90)

منذ ذلك يبدو أن إسرائيل قد اتخذت قرارًا استراتيجيًّا: حني رأسها كحزمة القصب وتمتين علاقاتها مع الأردن، الذي كان وما زال الجانب العسكري الأمني من ناحيتها الأهم لإسرائيل، مقابل تبني الإملاءات الأردنية بخصوص السرية. هكذا تنازلت إسرائيل عن فرصة نادرة، وربما كانت الوحيدة لها، أن تفتخر على الملأ بثمرات السلام مع دولة عربية، وبهذا تحققه، توسعه وتعمقه.

يمكن بذلك، حقًا، رؤية واقعية إسرائيلية تنبع من فهم تعقيد ظروف شريكها العربي. يمكن بذلك، حقًا، رؤية قرار ينبع من استعداد إسرائيل التضحية باحتمال تطور علاقات مدنية بينها وبين الأردن لصالح تطوير العلاقات الأمنية معها. لكن نشأت بين إسرائيل وبين الأردن، علاقات أمنية كثيرة قبل اتفاق السلام بمدة مديدة، وستبقى وإن زال- لا سمح الله، لأن حالة تكاثف المصالح الأمنية بين الحكومتين لدولتين جارتين لا يتعلق بالسلام بل يمكن أن يتم من غير سلام. في الواقع، يتم ذلك بين إسرائيل و حماس وإلى حد ما حتى بين إسرائيل وسوريا، حزب الله وإيران.

هكذا تنازلت إسرائيل، سواء أكان بسبب سياسية الواقع أو من خلال خضوع مؤسف، على إنشاء تعاونها مع الأردن بحسب مبدأ “سلام غير معلن على الملأ، كأنه لم يكن”. كان لإسرائيل أن تتوقع استعراضًا أردنيّا شاملا للتعاون بين كلا الدولتين، على الأقل من نواحيه المدنية والاقتصادية، من خلال إدراك أن الأمر قد يضع صعوبات معينة على عاتق الحكومة لكنه سيساهم في تعويد المواطِنين على المرحلة الجديدة. لقد تنازلت إسرائيل عن هذه الورقة المهمة، وشهدت بأم عينيها مسؤولين أردنيّين، وأحيانا حتى على مستوى الملك نفسه، يتهربون من الإجابة- أو حتى إثارة نقاش- عن المعلومات التي تتعلق بالتعاون مع إسرائيل، يتملصون وينكرون بقصص ألف ليلة وليلة، وأحيانا يضربون إسرائيل بيد واحدة، وفي اليد الأخرى يعقدون صفقات سرية. إن من يدفع ثمن هذه المهزلة اليوم مع فائدة مضاعفة هي إسرائيل نفسها، والأردن، وطبعًا اتفاق السلام نفسه، الذي صار من عدة نواح خاليًّا من أي مضمون.

الملك حسين ملك الأردن الراحل ورئيس الوزراء الراحل اسحاق رابين (ويكيبيديا)
الملك حسين ملك الأردن الراحل ورئيس الوزراء الراحل اسحاق رابين (ويكيبيديا)

لا أبرّئ إسرائيل من المسؤولية لتفريغ اتفاق السلام من مضمونه مع الأردن. لم تكن إسرائيل مستعدة لسلام حقيقي مع الدول العربيّة، ومن ضمنها السلام مع الأردن، ولم تعمل اسرائيل على الأقل منذ 1996 من أجل هذا الاتفاق بجدية ومن خلال مفهوم مدني شامل. لا يناقض ذلك الحقيقة في أن الأردن لم يكن مستعدًا لفترة سلام مع إسرائيل بنفس المستوى. التفسير الفلسطيني صحيح، لكنه جزئي. أعتقد أن الفرق بين الملك عبد الله، الذي كان من المفروض أن يمتن اتفاق السلام مع إسرائيل، وبين أبيه الراحل، الذي أسس بنية هذا الاتفاق وفي النهاية أحياه، يكمن في أساس الفشل الأردنيّ.

قبل سنوات من موته، حين أٌتخم من الحروب وتعلم الصراعات السياسية العصيبة، ألقى الملك حسين أحد خطاباته الشهيرة. لقد تحدث كالعادة، بلغة إنسانية، مؤثرة وقوية. لم يعد لديه ما يخفيه، وقد طلب من المستمعين له أن يفهموا أيضًا إسرائيل: دولة ما بعد الكارثة التي أقيمت على أنقاض الهولوكوست ومر شعبها بمخاوف متواصلة من الإبادة والتدمير. لا يضر من ناحيتنا، قال، إن حاولنا أيضًا فهم الجانب الآخر. في حوار عربي مشبع، حتى يومنا هذا، بتفهم للجانب العربي فقط، كانت أقوال الملك حسين وبقيت نافذة نور. في نفس الفترة تقريبًا نقل الملك لإسرائيل تعويضًا بمليون دولار لعائلات الفتيات اللواتي قتلن على يد الجندي الأردنيّ أحمد الدقامسة في نهرايم. وهذا بعد أن وصل للتعزية وجثا على ركبتيه أمام الأهالي الثكالى المصدومين. لم يأبه بالانتقاد العام الشديد في بلاده بأنه قد أهان نفسه أمام اليهود: لقد كان أكبر من ذلك. ككل قائد، كان ينكسر أحيانا ويخطئ أحيانا، لكنه عرف كيف يظهر الشجاعة- أحيانا أمام شعبه، وأحيانا أمام الآخرين؛ أحيانا بصدام مع إسرائيل، وأحيانا بالامتناع عن الصدام معها؛ وأحيانا بعلاقات السلام مع إسرائيل. لقد كان الملك حسين ملكا عربيا.

ابنه عبد الله، بالمُقابل، ملك غربي. يسهّل ذلك الأمرَ على إسرائيل والغرب التفاوض معه، لكنه يقيّد الملك أيضًا في علاقاته مع شعبه وقدراته، بل وفي شرعيته، وفي أن يكون صريحًا في تصريحاته العلنية. فضلًا عن ذلك، لم يحارب إسرائيل، ولذا من المحتمل أنه يستصعب لذلك صنع سلام معها. منذ سنواته الأولى في المنصب، كان جليًّا أن تعامله مع إنهاء النزاع كان كإزالة عقبة كؤود تسدّ الطريق أمام مستقبل اقتصادي وأفق اجتماعي أجودَ في المنطقة. “لقد سئم الناس تاريخ النزاعات”، ادعى مرة بعد أخرى، وتوقع “انتعاشا في المنطقة، منظورا جديدا للحكم على الأمور”. لقد أظهر حقًا شجاعة عامة نادرة، عندما ادعى مثلا أن على العالَم العربي أن يكون مستعدا لطرح ضمان جماعي لأمن دولة إسرائيل واندماجها في الشرق الأوسط مقابل إقامة دولة فلسطينية، لكنه وصل لزيارة إسرائيل مرة واحدة ووحيدة، بصورة شبه صامتة، في منطقة إيلات. منذ اندلاع الانتفاضة الثانية قام برفع حدة انتقاده العلني حيال إسرائيل، ومع أنها قد هدأت منذ ذاك الحين، قام بالتوقف عن التحدث غاضبا على إسرائيل. على خلفية ذلك، إن تفاخر إسرائيل بتمتين العلاقات الاستراتيجية مع الأردن تفاخر فارغ المضمون. لا صلة قرابة بينها وبين السلام.

رئيس الوزراء نتنياهو يجتمع مع العاهل الأردني الملك عبد الله (Flash90/Avi Ohayon)
رئيس الوزراء نتنياهو يجتمع مع العاهل الأردني الملك عبد الله (Flash90/Avi Ohayon)

فيما يظهر للجميع بأن العلاقات مع إسرائيل تتمتن، بل وفي المعارضة – وحتى المعارضة الاسلامية – وُجد تفهم معين لحسنات التعاوُن مع إسرائيل في عصر انهيار الأمن الشخصي في الدول العربية (وأحيانا انهيار الدولة ذاتها)، وبينما الملك نفسه يقوم بإبداء البرود نحو إسرائيل كمن أُكره على العلاقات: ما هو الاحتمال في أن يتحول السلام إلى أخوة بين الشعوب لا صفقات سرية بين الحكومات فحسب؟

على الحقيقة أن تذكر: ليست إسرائيل فقط هي من يكتفي بالتعاون العسكري الأمني مع الأردن، والأردن أيضًا يكتفي بالتعاون العسكري الأمني مع إسرائيل. للنخبة في كلا الدولتين لا مصلحة في تهيئة المواطنين لعصر السلام المدني، مع أو بلا علاقة بالقضية الفلسطينية. هذه العلاقات لا تُسمى سلاما، وبالتأكيد ليس سلام الشجعان. بل يسمونها تعاونا بين جبناء.

اقرأوا المزيد: 1102 كلمة
عرض أقل
امراة ترتدي النقاب (AFP)
امراة ترتدي النقاب (AFP)

تلفيق “جهاد النكاح” لداعش وسرّ فتوحات التنظيم

قضية "جهاد النكاح" الذي تقوم به داعش في العراق هو تلفيق إعلامي. وجاء الحرص الشعبي على اعتبار عرض التنظيم تجسيدًا حديثًا لـ "قصص ألف ليلة وليلة" على حساب الدراسة الجادة لسرّ نجاح الفتوحات المذهلة للخلافة الإسلامية المتنامية

قبل نحو أسبوعَين، انتشرت أنباء في الإعلام العربي بأنّ سيطرة مسلّحي داعش على مدن الموصل ونينوى في العراق رافقها نشر بيان من قبل التنظيم يدعو سكان كلتا المدينتين إلى تسليم بناتهم العازبات لأيدي مسلّحي التنظيم، كي يتمكّنوا من استغلالهنّ جنسيّا وفقًا لأحكام “جهاد النكاح”. حذّرت عناصر داعش – كما يُزعم – السكان بأنّ كل من لا يقوم بذلك يتمّ عقابه وفقًا للشريعة. فأثارت هذه الأخبار صدمة في الحوار العام العربي وفي النهاية تم نشرها في مواقع إعلامية رئيسية وأخرى في إسرائيل. وقد أثارت بالطبع النقاشات العلمية حول الطبيعة الوحشية للإسلام.

يرجع “جهاد النكاح” أو “جهاد المناكحة”، الذي يمكن ترجمته في العبرية كـ “الجهاد الجنسي”، إلى تغريدة في تويتر لرجل الدين السعودي محمد العريفي، الذي سمحَ – كما يُزعم – للفتيات المسلمات بالسفر إلى سوريا لممارسة الجنس مع المتمرّدين على النظام السوري. نفى العريفي بشدّة التغريدة التي نُسبت إليه، ولكن يبدو أنّ بعض الفتيات في تونس على الأقل قد استجبنَ لـ “الفتوى الدينية” التي نُسبت إليه. لدى السلفية الجهادية، التيار الإسلامي المتشدّد الذي نمت منه القاعدة وداعش، يعتبر “جهاد النكاح” انحرافًا فقهيًّا وأخلاقيًّا وتلفيقًا من قبل “أعداء الإسلام” الذين يسعون إلى تشويه صورة السلفية الجهادية.

العريفي يتكلم بوضوح عن حقيقة جهاد النكاح:

https://www.youtube.com/watch?v=0k9iMclPQqc&feature=youtu.be

حين نُشرت “وثيقة نينوى” انتقد الكثير من الدعائيين العرب، وغالبهم من خصوم السلفية الجهادية، بشدة التلفيق الجديد. حوّلت الأعين الحادّة الانتباه إلى مصطلحات غريبة في الوثيقة والتي لم تكن عناصر السلفية الجهادية يستخدمونها، مثل “إقامة الشريعة” (بدلا من “إقامة الحدّ”) – ومعناها تطبيق العقوبات الثابتة في الشريعة؛ غياب التطرّق للشيعة من خلال المصطلح الأكثر قبولا لدى السلفيين وهو “الرافضة” أو “الروافض”؛ وخصوصًا مصطلح “قوانين الشريعة”، وهو مصطلح لا تحبّ الأذن السلفية سماعه، حيث إنّ كلمة “قانون” تُنسب إلى القانون الوضعي الذي هو نوع من الكفر. وقال متصفّحون مثقّفون في الشبكات الاجتماعية إنّ التفسير هو أنّ كاتب الوثيقة “حمار” وتساءلوا إذا ما كان هو قاسم سليماني، قائم قوات القدس التابعة للحرس الثوري في إيران.

أما الوثيقة الحقيقية التي نشرتها داعش عن نينوى، فقد انتشرت في الإعلام العربي تحت اسم “وثيقة المدينة”. ويرجع هذا المصطلح إلى “دستور المدينة” الذي صاغه النبيّ محمد لدى دخوله للمدينة في العام الأول للهجرة (623 ميلادية)، والذي نظّم العلاقات بين الغالبية المسلمة والأقليّات الدينية، وعلى رأسها الجالية اليهودية. صياغة وثيقة مدينة نينوى راسخة جدّا بالخطاب الإسلامي – السلفي ومشبعة بالاقتباسات التي هي غالبًا من القرآن والحديث. إن الإحالة الداعشية موجّهة في المقام الأول إلى “عشائرنا” في نينوى ومليئة بنعوت الإدانة للحكومة المركزية الموالية للشيعة في العراق. ويفهم عناصر التنظيم، كما يبدو، الواقع على الأرض، ويسعون إلى البناء على عداء العشائر السنّية للسيطرة الشيعية على البلاد انطلاقًا من التفكير بأنّ هذا هو المفتاح الأفضل لتجذّر ونموّ التنظيم في المناطق التي سيطر عليها.

"وثيقة المدينة"
“وثيقة المدينة”

ويؤكّد رجال داعش في وثيقة مدينة نينوى أنّهم يريدون أن يحكموا جميع المسلمين حكمًا إيجابيًّا طالما أنّهم لا يعملون في خدمة العدوّ، وأنّ رجال المدينة يمكنهم أن يكونوا “آمنين وهادئين” تحت سلطانهم. مع ذلك، فهم يؤكّدون أنّهم يريدون إدارة المدينة وفق أحكام الشريعة. بحيث سيتمّ معاقبة السارقين واللصوص بقطع أطرافهم، وصدرت تعليمات للنساء بأن عليهن ارتداء الملابس ارتداء محتشمًا وأن يخرجن من بيوتهنّ للحاجة فقط، ومُنع بيع الكحول، المخدّرات والسجائر، وكذلك  مُنعت التجمّعات الكبيرة، مع ومن دون سلاح. وأعطيَ لرجال الأمن العراقيين خيار تسليم أنفسهم في ظروف معيّنة، وإذا لم يفعلوا ذلك فسيُقتلون. أضاف رجال داعش أنّهم “يشجّعون” الناس على الصلاة معًا في المساجد وأعلنوا أنه وفقًا لتعليمات الدين فهم ينوون تدمير التماثيل والأضرحة “الوثنية”.

خُتمت وثيقة المدينة في نينوى بمقولة بسيطة ومفهومة لكلّ عراقي وعربي وهي: “إنّكم قد جرّبتم الأنظمة العلمانية كلها ومرّت عليكم الحقبة الملكية فالجمهورية فالبعثية فالصفوية [الإيرانية-الشيعية]. وقد جرّبتموها وذقتم لوعتها واكتويتم بنارها. وها هي الآن حقبة الدولة الإسلامية وعهد الإمام أبي بكر القرشي [البغدادي، الذي عُيّنَ فيما بعد خليفة للدولة الإسلامية]. وسترون بحول الله وتوفيقه مدى الفرق الشاسع بين حكومة علمانية جائرة صادرت طاقات الناس وكمّمت أفواههم وأهدرت حقوقهم وكرامتهم وبين إمامة قرشية اتخذت الوحي المنزل منهجًا والقضاء به أبيض أثلج، وتسمع النصيحة من الصغير والكبير والحرّ والعبد لا فرق بين أحمر وأسود”.

تستخدم داعش، التي تحوّلت الآن إلى “الخلافة الإسلامية”، القوة والإرهاب لفرض سيطرتها وإقامة حكم ديني طوباوي ومحافظ جدّا. ولكن تفهم عناصر التنظيم الواقع التي تعمل فيه وتتوجه إلى مشاعر الإحباط، المرارة والاضطهاد العرقي لدى رعاياهم، من المواطنين البسطاء الذين عانوا لعشرات السنين من أنظمة قمعية تحت أقنعة مختلفة. حتى لو اتّضح أنّ الخلافة الإسلامية هي نسخة أخرى لنظام قمعي، فالخطوات الأولى التي ستسعى إليها داعش هي أن تغذّي بحكمة وتتعاون مع النسيج الاجتماعي المحلّي. بالنسبة للكثير من العرب السنة، في العراق وخارجها، فإنّها قبل كلّ شيء “ثورة سنّية” مبرّرة وناجحة ضدّ الحكم الشيعي – الإيراني في بلاد الرافدين. وستنتظر مواجهتهم مع مفهوم عودة الخلافة الإسلامية إلى مرحلة متأخرة أكثر.

إنّ الحرص الشعبي على اعتبار عرض التنظيم تجسيدًا حديثًا لـ “قصص ألف ليلة وليلة” جاء على حساب الدراسة الجادة لسرّ نجاح الفتوحات المذهلة للخلافة الإسلامية المتنامية.

نُشرت المقالة للمرة الأولى في موقع Can Think

اقرأوا المزيد: 767 كلمة
عرض أقل
تشييع جثمان رائد زعيتر في نابلس (AFP)
تشييع جثمان رائد زعيتر في نابلس (AFP)

حدث قاسٍ في توقيتٍ حسّاس

أعرب رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، عن أسفه للأردن في أعقاب موت القاضي الأردني رائد زعتير برصاص الجيش الإسرائيلي في معبر اللنبي

كما في حالاتٍ مشابهة في الماضي، ليس واضحًا بعد في هذه المرحلة ما هي ملابسات مقتل رائد علاء الدين زعيتر (38 عامًا)، أردنيّ – فلسطينيّ، بسلاح جندي إسرائيلي في الجانب الإسرائيلي من جسر الملك حُسَين. في البداية، أعلنت السلطات في إسرائيل أنّ زعيتر حاول اختطاف السلاح من الجندي، ثم قيل إنه حاول اختطاف مرآة التفتيش ليهاجم بها الجنود. صباح اليوم، أعلن الجيش الإسرائيلي أنه تبيّن من التحقيق الأوّلي أنّ زعيتر ركض باتجاه الجندي صارخًا “الله أكبر”، ومحاوِلًا خطف سلاحه. خشي الجنود على حياتهم وأطلقوا النار على رِجله، لكنّ زعيتر، حسب ادّعائهم، واصل محاولة مهاجمتهم عبر قضيبٍ حديديّ. حينذاك، أطلقوا النار عليه لقَتله. مع ذلك، تشير التقارير في الجانبَين الأردنيّ والفلسطيني، إلى تبادُل أقوال وتدافُع، أدّت في النهاية إلى القتل بدمٍ بارد.

عُيّن زعيتر، الدكتور في الحقوق وخرّيج المعهد القضائي الأردنيّ، قاضيًا في محكمة صُلح عمّان قبل خمس سنواتٍ تمامًا. وقال والده، قاضي محكمة الاستئناف الأردنيّة المتقاعد، إنّ نجله، وهو وحيد والدَيه، خرج في السادسة صباح أمس من منزله في منطقة أبو نصير شمال عمّان إلى عمله في المحكمة. أصيبت العائلة بذهول تامّ لدى سماع نبأ موته، إذ إنّ والد الراحل وأصدقاءه لم يعلموا بنيّته زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وهم لا يعرفون حتّى الآن ماذا كان سبب الزيارة. كان زعيتر أبًا لطفلَين، ابنة عمرها عام ونصف وابن عمره خمس سنوات، مكث في مستشفى في عمّان خلال اليومَين الماضيَين فاقدَ الوعي. زاره والدُه صباح أمس، قبل نحو ساعة من مغادرته عمّان في رحلةٍ لم يعُد منها. وغادرت العائلة الأردنّ اليوم لدفن ابنها في نابلس، حيث ستُقام خيمة عزاء لمدّة ثلاثة أيّام. بعد ذلك، ستعود العائلة إلى خيمة العزاء التي ستُقام في عمّان لمدّة ثلاثة أيّام أُخرى.

مظاهرات في عمان بالقرب من السفارة الإسرائيلية احتجاجا على مقتل قاض أردني برصاص إسرائيلي عند معبر اللنبي (AFP)
مظاهرات في عمان بالقرب من السفارة الإسرائيلية احتجاجا على مقتل قاض أردني برصاص إسرائيلي عند معبر اللنبي (AFP)

تركّزت ردود الأردن، السلطة الوطنيّة الفلسطينية، وعائلة الضحيّة على أنّ زعيتر كان رجلًا رصينًا، مثقّفًا جدًّا، ذا وظيفة مرموقة ورفيعة، عائليًّا، وبالدرجة الأولى – أعزل دون سلاح. إطلاق الرصاص الحيّ عليه عن بُعد صفر، كما ادُّعي، غير مبرّر إطلاقًا، حتّى في الظروف التي وصفتها السلطات في إسرائيل. وأعلنت أسرة زعيتر أنّ رواية السلطات الإسرائيلية للحادثة هي إهانة للمنطق السليم، وأنها ستعمل قضائيًّا لتحديد المسؤولين ومحاكمتهم. أمّا السلطة الوطنيّة الفلسطينية فقد احتجّت على تعدّد حالات إطلاق قوّات إسرائيليّة النار حتّى الموت على مواطنين عزّل، معلنةً أنها تطلب تحقيقًا دوليًّا في الحادثة.

استدعت الحكومة الأردنية مفوَّض السفارة الإسرائيلية في عمّان، استنكرت الحادث، وطلبت تحقيقًا مستقلًّا وشاملًا فيه، وأعلن الناطق باسمها لاحقًا أنها تُطالب بـ “خطوات مشدَّدة ضدّ من يثبت تورّطه في القتل”. لكنّ الرياح في الأردن هبّت بسرعة فائقة منذ الساعات الأولى التي تلت الحادثة. فقد نشرت كتل وأعضاء في مجلس النواب، أردنيّون وأردنيون – فلسطينيون على السواء، بيانات استنكار رسميّة، قسم منها شديد اللهجة، وجرى تنظيم تظاهرة غاضبة أمس أمام السفارة الإسرائيلية في عمّان حتّى تفرّقت في ساعات الليل المتأخّرة.

تحاول الحكومة الأردنية، التي تخشى من استمرار الهيجان، احتواء الحادث، وتتلقى نقدًا حادًّا لهذا السبب. فرغم تغطية الحادثة بتوسُّع في الصحافة اليومية، يكاد لم يُنشَر أيّ مقال تحليليّ حولها، فيما التلفزيون الحكوميّ يلتزم الصمت، يواصل إظهار انفصاله عن الواقع، وما يبثّه مُخجِل. ويتركّز النقد الجماهيري على كون الحكومة تعطي الانطباع أنّ القتيل “فلسطيني” – كما جاء في تقرير وكالة الأنباء الأردنيّة الرسمية، وبالتالي، لا مبرّر لاهتمام حقيقيّ للأردن بتحقيق أساسيّ في الحادثة. لماذا، تساءل محلّل هامّ، لا تطلب الحكومة لجنة تحقيق إسرائيلية – أردنيّة مشتركة وإمكانية للوصول إلى ساحة الجريمة، نتائج التحقيق، والشهادات؟

رئيس الوزراء نتنياهو يجتمع مع العاهل الأردني الملك عبد الله (Flash90/Avi Ohayon)
رئيس الوزراء نتنياهو يجتمع مع العاهل الأردني الملك عبد الله (Flash90/Avi Ohayon)

تواجه هذه الحادثة العلاقات الإسرائيلية – الأردنية في نقطة حسّاسة. فمنذ نحو ثلاث سنوات، تتوثّق العلاقات باطّراد، على جميع المستويات وأحيانًا بدرجة غير مسبوقة، لا سيّما بسبب الشعور بالخطَر ممّا يجري سوريّة. في الأشهر الأخيرة، تبدو براعم تعاوُن استثنائيّ في مجالَي المياه والطاقة (تزويد الغاز الطبيعي). وكانت ردود الفعل الشعبية، بما فيها الإسلاميّة، على التعاوُن المدنيّ في إطار الحدّ الأدنى نسبيًّا. مع ذلك، إثر التخبُّط في المفاوضات حول اتّفاق كيري الإطاريّ والتسريبات منها، ثمة مخاوف ثقيلة في الأردن، سواء لدى الأردنيين أو الأردنيين – الفلسطينيين، من جميع شرائح السكّان، بأنّهم سيدفعون ثمن الفشل أو الخضوع الفلسطيني المرتقَب، وسيصبح الأردن، فعليًّا، الدولة الفلسطينية.

لهذا السبب، تحوّلت الساحة الشعبية إلى أكثر قابليّة للاشتعال من أقوال إسرائيل وأفعالها. في السنتَين الماضيتَين، تجري نزاعات هائجة بين مجلس النوّاب – الذي يوصف منذ عقود بأنه “قبليّ”، “محافِظ”، و”وليّ للملك” – وبين الحكومة حول مبادرات وقوانين مختلفة، اقتصادية – اجتماعيّة في الغالب. نجح البرلمان مرة بعد أخرى في توبيخ الحكومة، كفّ يدها، أو على الأقل الحصول منها على موارد مقابل تعاوُن النوّاب. في الشهور الأخيرة، توسّع ميدان الصراع بين مجلس النوّاب والحكومة ليشمل الجانب السياسي، وفي نهاية جولة مناقشات مستمرّة وعاصفة، اتّخذ المجلِس قرارَين غير مسبوقَين – طرد السفير الإسرائيلي من عمّان، وإخراج الصراع المسلّح ضدّ إسرائيل من تعريف كلمة “إرهاب”. يعطّل المصادقة على القرارَين ممثّلا الملك، الحكومة ومجلس الأعيان، لكنّ ذلك لا يخفي تنوّع التحديات الداخلية التي تواجهها الأسرة المالكة.

نجح النظام الهاشميّ في الحدّ من التدهور الفعليّ في مكانته في السنوات الماضية، برعاية ومساندة النخبة وقوى محافظة، إذ اجتاز الأمر الخطوط الحمراء في السنة الأولى من “الربيع العربيّ”. مع ذلك، لا تزال النيران تنتشر لدى السكّان البدو الأردنيين بشكل خفيّ، في كلّ ما يتعلقّ بالملك عبد الله نفسه، صلاحيات الأسرة المالكة، وإجراءات اتخاذ القرارات. والخطر هو أن تؤدي الإدارة غير السليمة للأزمات من هذا النوع إلى الهيَجان من جديد. والتلميح الخطير إلى ذلك موجود في رسالة شديدة اللهجة وجّهها عضو مجلس النواب الأردنيّ وصفي الرواشدة يوم أمس عبر الفيس بوك، وانتشرت انتشار النار في الهشيم: “رسالة إلى الملك عبد الله الثاني .. لمرة واحدة افعلها. أشعرنا بأننا شعبُك، وبأنّ لنا كرامة. اليوم … قُتل بدمٍ بارد مواطن.. قاضٍ .. أب لأطفال .. وحيد لوالدَيه. إنه الشهيد رائد زعيتر، رحمه الله. أشعِرنا … ولو مرّة .. أنّ كرامتنا تهمك .. ودمنا يهمك. افعل شيئًا نحسبه لك .. شيئًا واحدًا. نترك لك الخيار… وأرجو أن لا يكون القرار حبسَ من تظاهر بالقرب من السفارة الصهيونية في عمّان”.

ورغم أنّ كرة الثلج الناتجة عن مقتل زعيتر هي في مراحل تبلوُرها الأولى، ويُرجَّح أن يتفاقم الاحتجاج الشعبي والضغط على الأسرة المالكة، فمن الصعب في هذه المرحلة رؤية ائتلاف سياسيّ يمكن أن يُجبر الملك على اتّخاذ خطوات جذريّة ضدّ إسرائيل. تعكس الخطوات الأولى للنظام إثر الحادثة ارتيابًا وتُوسّع الهوة الأردنيّة – الفلسطينية في المجتمَع الأردنيّ، لكنّ الماضي أظهر أنه لا يُتوقَّع احتجاج أردنيّ فاعل على وفاة أردنيّ من أصل فلسطيني. خلافًا للحديث الإعلامي عن وحدة الدم والكرامة في الضفّتَين – إذ يُدعى معبر أللنبي “معبر الكرامة” في السلطة الفلسطينية، وستُحيى ذكرى معركة الكرامة بين القوات الأردنية والفلسطينية من جهة والجيش الإسرائيلي من جهة أخرى بعد عشرة أيّام – فإنّ نبض الشارع الحقيقي في الأردن يعكس منذ اليوم التالي للحادثة نزاعًا داخليًّا أردنيًّا – فلسطينيًّا قذرًا على الدم، الألم، الكرامة، والصراع المسلَّح. صحيح أنّ العداء لإسرائيل هو القاسم المشترك لجميع المشترِكين في المنافسة، لكنّ العداء المتبادل بينهما أحبط، حتّى الآن على الأقل، التوحّد في نضالٍ فاعل، سواء ضدّ معاهدة السلام الإسرائيلية – الأردنية، أو ضدّ الأسرة المالكة التي وقّعت عليها. لا يمكن لإسرائيل أن تتدخل في ذلك طبعًا، لكنها إن أرادت تخفيف أمر إدارة الأزمة على الأسرة المالكة، يجدُر بها أن تدرس المشاركة الرسمية والعلنيّة للأردن في التحقيق في الحادث.

وأعرب رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، عن أسفه للأردن في أعقاب موت القاضي الأردني رائد زعتير برصاص الجيش الإسرائيلي في معبر اللنبي. وعمّم ديوان رئيس الحكومة الإسرائيلية بيانا جاء فيه أن “إسرائيل تقدم التعازي للشعب الأردني وللحكومة الأردنية”، وأضاف أن “طاقما إسرائيليا – أردنيا مشتركا” سيحقق في ملابسات الحادث الذي أدى إلى توتر بين البلدين.

اقرأوا المزيد: 1162 كلمة
عرض أقل
سلام الآن (FLASH90)
سلام الآن (FLASH90)

الربيع العربي في منظمات السلام الإسرائيلية

الربيع العربي "يزوّد منظمات السلام بعدد من الفرص لإثارة نقاش جماهيري جديد".‎ ‎لكنّ ذلك مشروط باستعدادها للنظر في المرآة القاسية ولتحديث صورتها النمطية الليبرالية، النيو ليبرالية، العلمانية، الشكنازية، الذكورية، والنخبوية

قبل شهرَين، نشر معهد متفيم، المعهد الإسرائيلي للسياسة الخارجية الإقليمية، ورقة موقف بحثت في تعامُل منظمات السلام الإسرائيلية مع مفاجأة “الربيع العربي”.‎ ‎وتعتقد الكاتبة، ياعيل باتير، مندوبة منظمة جي ستريت في إسرائيل، أنّ الاختلاف الرئيسي بين ردّ فعل منظمات السلام على ما يحدث وردّ فعل حكومة إسرائيل هو “مقدار بسيط من الارتياب والاستعداد للنظر في التطورات الإقليمية بمنظار إيجابي”.‎ ‎وادّعت أنّ المنظمات، التي سبب وجودها هو تعزيز جدول أعمال السلام والتعاون العربي – الإسرائيلي، قد خشيت من التأثيرات المحتملة لـ “الربيع العربي” على جدول الأعمال هذا.‎ ‎لذلك، فضّلت تجاهل الأحداث، وإبقاء استراتيجية عملها كما هي.‎ ‎وأوصت باتير منظمات السلام الإسرائيلية، التي لم “يُنبت الربيع العربي حتى الآن زهورا جديدة في بساتينها”، بأن تجد طرقًا للتعايُش مع التطورات في المنطقة، سواء كانت تخدم أهدافها الآنيّة أم لا.

وتأتي باتير في الوثيقة بادّعاءات عديدة صحيحة وهامّة.‎ ‎مثلًا، أهمية طرح مبادرة إسرائيلية موازية للمبادرة العربية؛ الحاجة إلى إنشاء تعاون وحوار عربي – إسرائيلي على المستوى المدني عبر استخدام مواقع التواصل الاجتماعي؛ تفهّم النقاش حول الحقوق الذي يتصدر موجة الاحتجاجات التي غمرت الدول العربية، وهلمّ جرّا.‎ ‎لكن النقد الذي توجهه إلى منظمات السلام يتسم بالحذر والتهذيب الشديد، حسب رأيي.‎ ‎فالتحليل الأساسي لرد فعل هذه المنظمات على الربيع العربي يتطلب التطرق إلى وجهات النظر التي تحرّكها، طرق عملها، تشكيلتها، والأدوات المهنية والحضارية الكامنة أمامها.‎ ‎في كل هذه الجوانب، يبدو أنّ منظمات السلام الإسرائيلية مُطالَبة بإجراء مراجعة نقدية مريرة ومؤلمة، لا تصحيحات تجميلية طفيفة تقترحها باتير.

فقبل سنوات معدودة، تحدثتُ إلى قيادي في إحدى المنظمات التي تذكرها باتير.‎ ‎سألتُه لمَ منظمات السلام مشبَعة بخريجين ممجَّدين ومُنَمَّقين للعلوم المالية من الجامعات الرئيسية في الولايات المتحدة، كلهم يتحدثون الإنكليزية الرفيعة، لكنّ أقليَّة طفيفة منهم يعرفون شيئًا عن الشرق الأوسط والإسلام، هذا دون أن نتحدث عن القدرة على إدارة محادثة يومية بسيطة باللغة العربية.‎ ‎لم تكن إجابته مقنعة، فقد قال: ثمة القليل من الوظائف والمناصب في منظمات السلام.‎ ‎لكنّ سؤالي كان لمَ يشغل هذه الوظائفَ القليلة أناسٌ معينون، لا غيرهم.‎ ‎تساءلتُ أيضًا لمَ تتنازل منظمات السلام أصلًا عن خريجي دراسات الإسلام، الشرق الأوسط، والعربية في مؤسسات التعليم العالي لصالح أجهزة الدولة، المدنية والعسكرية – الأمنية، التي تُسرّ بضمهم إلى صفوفها.‎ ‎هكذا يتشكل نوع من “تقسيم العمل” الذي يفرض نفسه. فمنظمات السلام تتحدث الإنكليزية الليبرالية، والنيو ليبرالية عادةً، وهي منقطعة كليًّا عمّا يجري في الشرق الأوسط، فيما خريجو دراسات الشرق الأوسط، الإسلام، واللغة العربية يجدون مكانهم في خدمة الدولة.‎ ‎يوفر لهم العمل في القطاع العام الكثير من الفرص لفهم الشرق الأوسط والعربية من وجهة نظر مؤسساتية ومحافِظة قلقة من المخاطر أكثر مما هي مهتمة بالاحتمالات.

لم أتلقَ إجابة شافية.‎ ‎ولا تعزّيني سوى كلمات أرسلها لي عبر البريد الإلكتروني مدير منظمة سلام آخر، يشغل اليوم منصبًا رفيعًا في منظمة دولية، حيث أصرّ على أنه “لا حاجة لمعرفة العربية للتحدّث إلى المصري أو الفلسطيني”!‎ ‎واكتفى المدير نفسه بقدرته على “عقد صفقات” مع واحد بالألف من واحد بالألف من نخبة المجتمع المصري.‎ ‎فهو يتمتع بالاختباء في ظل دبلوماسيين وسياسيين، ذوي نفوذ، “تأثير”، وقوة. ولا يقلقه مطلقًا عجزه عن التحدث إلى العربي العادي بلغته.

هذا هو السبب الأول للمأزق الذي تواجهه منظمات السلام الإسرائيلية حاليًّا.‎ ‎فهي عاجزة عن فهم ما يحدث في الدول العربية دون وساطة اللغة الإنكليزية، وهي عاجزة كذلك عن تحليل الأحداث والتطورات في الدول العربية بعمق دون مساعدة اختصاصيين ومهنيين من الخارج؛ والأسوأ من كل ذلك، لا ندري إلى أي مدى يهمها ذلك أصلا.‎ ‎فمن الممكن إبرام صفقة بالإنكليزية المهنية المصقولة مع عم الزعيم وابن الرئيس!‎ ‎إذا كان الأمر كذلك، فلا.‎ ‎لم يعُد ذلك صحيحًا.‎ ‎فالملوك والرؤساء يُستَبدلون الآن بنخبة سلطوية جديدة، تتحدث العربية وتفكّر بطريقة إسلامية.‎ ‎مَن يمكنه أن يفهمهم في منظمات السلام؟‎ ‎مَن يريد أن يفهمهم في منظمات السلام؟

في مناسبة أخرى، سألتُ دبلوماسيًّا سابقًا، كان ناشطًا في منظمات السلام الإسرائيلية لماذا، حسب رأيه، هناك هيمنة شكنازية، علمانية، وليبرالية (ويمكن إضافة: ذكورية) في منظمات السلام؟ ألا يعتقد أنّ معسكر السلام الإسرائيلي يتعالى على محيطه الداخلي (في إسرائيل) والخارجي (في المنطقة)؟‎ ‎لم يفهمني الدبلوماسي، رجل ذكي ومتعمّق، كاملًا وشعر بالإهانة من الإيماءة.‎ ‎هل أظن، سألني، أنّ الشرقيين، المتدينين، وذوي التوجه المحافظ يُستثنَون عمدًا من هذه المنظمات؟‎ ‎لم تجد هذه المجموعات طريقها إلى منظمات السلام لأسباب مرتبطة بها.‎ ‎في هذه الحالة، يُخيّل لي، شعرتُ بقلة رجاء مرتفعة أكثر من تلك التي شعرتُ بها أثناء النقاش حول مكان “المستشرقين” و”دارسي العربية” في تلك المنظمات.

في ورقة الموقف التي وضعتها باتير، تنتقد تركيبة منظمات السلام، وتعترف بالهيمنة الشكنازية في معسكر السلام الإسرائيلي، بانقطاعه عن الصراع على الهوية الشرقية والعربية في إسرائيل، وبانقطاعه عن الصراع ضد الأنظمة الطاغية والاستبدادية في الشرق الأوسط.‎ ‎وتعترف أيضًا بأنه “بالنسبة لبعض منظمات السلام، فإنّ الانتقال إلى سياسة الصراع ضد الغرب أو النظام الرأسمالي – العالمي بعيد مسافةَ سنوات ضوئية”.‎ ‎لكن في نهاية الأمر، تظنّ أن المنظمات “ليست بحاجة إلى التغيّر، بل لإتاحة المجال أمام مجموعات جديدة لدخولها والتأثير فيها”.‎ ‎يبدو لي أنّ هذه التوصية هي تفويت كبير لفرصة التصحيح الجوهريّ في منظمات السلام.

وتكشف توصيات باتير أنها تقبل النظرة النمطية “الليبرالية” للسلام.‎ ‎ورغم أنها تعترف بأهمية قنوات الاتصال مع عناصر دينية، وإسلامية تحديدًا، فهي تظنّ أن الشراكة الطبيعية لمنظمات السلام هي مع الليبراليين العرب.‎ ‎وهي تتجاهل غياب التمثيل الديني والمحافظ في منظمات السلام الإسرائيلية، وتتغاضى عن كون منظمات السلام هذه، في تركيبتها الحالية، عاجزة عن التواصل مع مجموعات دينية ومحافظة عربية: فهي لا تراهم مُطلقًا، وحتى لو أرادت، ليس لديها الأدوات المهنية والحضارية لفهم هذه المجموعات والتواصل معها.

صحيح أنّ مواقع التواصل الاجتماعي توفّر اتصالا دون وسيط بمجموعات عديدة ومتنوّعة، لكنّ المثالَين اللذَين تذكرهما باتير في هذا السياق هما حملتا: “نحن نحبك، إيران”، و “نحن مع مصر”. ‎‎ ‎هذه الحملات لا قيمة لها بالنسبة للنقاش الجماهيري في مواقع التواصل الاجتماعي بالعربية – سواء من حيث طابعها أو مدى تمثيلها.‎ ‎هل ستنشأ من مجرد حوار باللغة الإنكليزية، جرى مثله الآلاف حتى الآن، “فرصةٌ حقيقيّة لإصغاء مفتوح وفاعل لأشخاص ومجموعات مختلفة”، وفيما بعد “وجهات نظر جديدة وطرق عمل جديدة” بين الإسرائيليين وجيرانهم؟‎ ‎توصي باتير، على سبيل المثال، بتعزيز القوى المعتدلة والليبرالية في الدول العربية، التي تشكل، رغم ضعفها السياسي والانتخابي، “فرصة لتحديد وإقامة علاقات مع قوى جديدة”.‎ ‎فهل يأتي الخلاص من مجرد حوار مع ليبراليين عرب، سبقه الآلاف من الحوارات حتى الآن؟‎ ‎وتقترح البحث عن مصالح مشتركة مع “مثقفين، رجال أعمال، دبلوماسيين سابقين، وما شابه”.‎ ‎فهل يؤدي حوار آخر مع أشخاص من النخبة، جرى الآلاف مثله حتى الآن، إلى إحداث تغيير؟

صدقت باتير في دعوتها منظمات السلام الإسرائيلية إلى إعادة فحص وجهات النظر التي تحرّكها.‎ ‎لذلك، يصحّ السؤال: ألا تحتاج الصورة النمطية الليبرالية، النيو ليبرالية، العلمانية، الذكورية، والنخبوية إلى زلزلة من الأساس، إذا أرادت هذه المنظمات أن تكون أكثر ارتباطًا بالمجتمع الإسرائيلي والمجتمعات المحيطة به؟‎ ‎وتشير باتير إلى هذا التغيير المطلوب، إذ تقول: اعترافًا بأنّ الربيع العربي يعكس أيضًا انقلابًا عُمريًّا في الدول العربية، فعلى منظمات السلام الإسرائيلية أن تندمج في هذا الانقلاب أو “تخلي المكان للاعبين جُدُد يستطيعون فعل ذلك”.

منهجية باتير هي جزء من المشكلة، وكذلك جزء من الحل.‎ ‎فهي تميّز بين منظمات سلام على شاكلة “سلام الآن”، “مبادرة جنيف”، “مركز بيريس للسلام”، “صندوق التعاون الاقتصادي”، “مجلس السلام والأمن”، وبين منظمات حقوق إنسان وحركات نزاع مثل “الشيخ جرّاح”، “هتحبروت – ترابط”، وغيرها لا تتناولها ورقة الموقف.‎ ‎لكنها تشرح لاحقًا أنّ التعامل مع النقاش حول الحقوق، الذي يتصدر الاحتجاجات التي تدفع “الربيع العربي” في الدول المجاورة، فرصة لإقامة ائتلافات إسرائيلية – عربية في شؤون غير سياسية.‎ ‎وهي توصي المنظمات أيضًا “بدعم النضالات من أجل التحرّر والعدالة”.‎ ‎لكنّ التعامل مع نقاش الحقوق والنضال من أجل التحرّر والعدالة يمكن أن يكون موثوقُا به فقط إذا كان إسرائيليا داخليا.‎ ‎لذلك، لا مبرر للتمييز بين منظمات السلام ومنظمات حقوق الإنسان، ولا مبرر لتنكّر منظمات السلام والتنظيمات اليسارية لمنظمات حقوق الإنسان.‎ ‎حان الوقت أن ينزل اليسار الصهيوني من على الجدار “ويشرح كيفية استعداده للنضال من أجل إنهاء الاحتلال والمساواة في الحقوق داخل إسرائيل”.‎ ‎للاحتلال منتقدون كثيرون، من داخل المؤسسة الأمنية أيضًا.‎ ‎ويعتقد بعضهم أنّه يقود إسرائيل إلى حافة الهاوية.‎ ‎فماذا هم مستعدون ليفعلوا ليمنعوا الكارثة؟‎ ‎أليس مطلوبًا هنا تغيير في القالب النمطي؟‎ ‎ألم يحن الوقت لهجر اعتبارات الشعبوية و”الرسمية” لعرض وجهة نظر شاملة وموثوق بها لتعاون في السلام بين إسرائيليين وعرب؟

ويمكن أن يكون تغيير هام إضافي في الصورة النمطية لمنظمات السلام تموضعًا في الواقع، ووقفًا لتوزيع الأوهام على الشعب الإسرائيلي.‎ ‎يمكن أن يزوّد الربيع العربي حاليًّا المزيد من النقاط الإيجابيّة.‎ ‎ويمكن أن يتجسد التغيير الإيجابي الذي يمثّله – سقوط أنظمة الاستبداد والقمع وازدياد قوة المواطن – فقط بعد جيل أو جيلَين من تصوير حياة الشعب قوميًّا، أنظمة قمع أخرى، ازدياد معاناة النساء والأقليات في العالم العربي، وهلم جرا. ‎ ‎قد تكون مخاوف وتشاؤم مواطني إسرائيل وحكومتها منطقية ومبرَّرة.‎ ‎ماذا تستفيد منظمات السلام الإسرائيلية من زرع أوهام بأنّ دولة فلسطينية ستتيح “سلامًا دائمًا ودافئًا أكثر مع كل الشعوب في المنطقة”، أو أنّ الأنظمة العربية الجديدة، التي هي تمثيلية أكثر ومتعلقة أكثر بالشعب، “ستستصعب القيام بهجومات أو حروب خارجية”؟‎ ‎من الأفضل لمنظمات السلام أن تعترف أنها لا تحمل بشارة بالضرورة في هذا الشأن.‎ ‎ليعترفوا بوجود تهديدات، لكن ليشدّدوا على أنّ على إسرائيل إنهاء الاحتلال أولا من أجل مصلحتها، بغض النظر عمّا يقوله العرب.‎ ‎يجدر بمنظمات السلام أن تعتاد من الآن على شرق أوسط أكثر تديُّنًا، أكثر قوميّةً، وأكثر مُحافظةً – بما في ذلك في إسرائيل نفسها – وأن تسأل كيف يمكنها أن تتأقلم معه.‎ ‎يجدر أيضًا الاعتراف بنزاهة أنّ اتفاقًا سياسيًّا يمكن أن يولّد فترة صعبة من عدم الاستقرار، الإحباط، واليأس. لكن يجب الإصرار على أنّ هذا هو الحل الوحيد الذي بإمكانه دفع عملية إنعاش العلاقات بين إسرائيل وجيرانها، وبين اليهود والعرب.

الربيع العربي “يزوّد منظمات السلام بعدد من الفرص لإثارة نقاش جماهيري جديد”، كما تدّعي باتير.‎ ‎لكنّ ذلك مشروط باستعداد هذه المنظَّمات أن تنظر في المرآة المحرجة، وأن تسأل كيف يمكنها أن تعيد تشكيل نفسها لتكون على صلة بإسرائيل والشرق الأوسط المتغير.‎ ‎بكلمات أخرى، حان الوقت أن يعرّج الربيع العربي على منظمات السلام الإسرائيلية أيضًا.

اقرأوا المزيد: 1539 كلمة
عرض أقل
مدرعة للجيش المصري خارج المحكمة الدستورية العليا (AFP)
مدرعة للجيش المصري خارج المحكمة الدستورية العليا (AFP)

في الانقلاب العسكري لا يوجد سوى خاسرين

البيت الأبيض الذي "لم يقرر بعد" ما إذا كان الحديث يجري عن "انقلاب عسكري" قد وفر له فترة استراحة لا غير،لأن الأيام التي مرّت توضح بأنه إنقلاب عسكري.

انقلاب عسكري ضد سلطة منتخبة في مصر في الثالث من تموز/يوليه 2013. إن حقيقة كون الانقلاب قد رافقه احتجاجا جماهيريا شارك فيه آلاف الأشخاص، بل ربما عدة ملايين (من أصل عدد سكان يبلغ أكثر من 80 مليون نسمة)، ضد سلطة تم انتخابها، والحقيقة أن السلطة المنتخبة هي إسلامية، لا تزيد ولا تنقص فيما يتعلق بالمقولة المذكورة أعلاه. البيت الأبيض الذي “لم يقرر بعد” ما إذا كان الحديث يجري عن “انقلاب عسكري”، وذلك بعد نحو أسبوع من الإطاحة بالرئيس مرسي على يد الجنرال السيسي ، قد وفر فترة استراحة لا غير، ربما تكون هزلية وربما تكون مربكة، في هذه المسألة، لأن الأيام التي مرّت توضح بالذات وبشكل أكثر قوة الناحية العسكرية للانقلاب في مصر.

الإخوان المسلمون بعيدون كل البعد عن أن يكونوا الحمل الوديع. في محاولة لتحقيق إنجازهم الرائع في الانتخابات الديموقراطية وتعزيز سلطتهم، أثاروا ضدهم خصومهم وخلقوا لهم أعداء جدد من الناحية العملية. لقد شاهدت النخبة البيروقراطية والقضائية بغضب كيف يتم إقصاؤها عن مراكز القوة لصالح المقربين من الإخوان، وقد ارتدع الليبراليون حيال الخطوات التي تم تفسيرها على أنها أسلمة القطاع العام؛ وقد نفذ صبر مدنيين كثيرين حيال عدم قدرة السلطة الجديدة على ترسيخ الاقتصاد والأمن الشخصي. وقد ظهرت انشقاقات داخل “الإخوان” ذاتهم وفي العديد من الأحيان كان يبدو أن قيادة الأكثر تطرفا تؤثر على مرسي أكثر مما أثرت عليه جهات براغماتية وإصلاحية في الحركة. غير أن المفارقة هي أن كافة هذه الجهات قد أضعفت سلطة مرسي ووفرت لخصومه ذخيرة ممتازة في النضال على الرأي العام. لم تكن سلطة الإخوان، بكل مساوئها، قوية، متغطرسة وتحتقر خصومها كما حدث في الجمهومليكة لدى مبارك في سنواته الأخيرة؛ لقد تراجعت شعبية الإخوان في الرأي العام المصري والعربي في السنتين الأخيرتين، وقد كانت الهزائم التي منيوا بها في الانتخابات الحرة في اتحادات الطلاب الجامعيين العريقة في مصر، تونس والأردن دليلا قاطعا على ذلك. وقد قرر الجيش، في هذه النقطة بالذات، بكل ما في الكلمة من معنى، ‏to jump the gun‏.

مصريون يحتفلون في ميدان التحرير مع صورة لقائد الجيش السيسي (AFP)
مصريون يحتفلون في ميدان التحرير مع صورة لقائد الجيش السيسي (AFP)

ثمة خصوم كثيرون للإخوان المسلمين في مصر، غير أن خصومهم خارج مصر هم أكبر، أقوى وأكثر ثروة: معظم دول الخليج العربي (بزعامة المملكة العربية السعودية ودول اتحاد الإمارات العربية)، الولايات المتحدة وإسرائيل. لقد رغب جميع خصوم الإخوان المسلمين سقوطهم، وقد دفعت دول الخليج، على الأقل، المال مقابل هذه الرغبة. وسرعان ما تم الحصول على المبرر في اللحظة التي تم فيها إسقاط حكم الإخوان. على سبيل المثال، شرح إفراييم هليفي، رئيس الموساد الأسبق، أن مرسي قد تم إقصاؤه لأنه “لم يوفّر البضاعة المطلوبة” وفشل في تحسين الاقتصاد وظروف عيش الشعب المصري. كان يتعيّن على مرسي، على ما يبدو، أن يصحح في سنة حكم واحدة ما أفسده حكام مصر الفرعونيين طيلة عشرات السنين، وإذ لم يفعل ذلك أصبح من العدل إقصاؤه بـ”انقلاب عسكري ديموقراطي”.

مؤيدو الرئيس المخلوع محمد مرسي خلال إعتصام إخواني (AFP)
مؤيدو الرئيس المخلوع محمد مرسي خلال إعتصام إخواني (AFP)

إذا كان حكم مرسي قد فشل في إدارة السياسة، الاقتصاد والمجتمع المصري، فإن الجيش سوف يكون مسؤولا عن ذلك ليس بأقل من مسؤولية “الإخوان”. ذلك الجيش كان قد قطع “عهدا من الحراسة” مع الإخوان، في السنة الأولى بعد الإطاحة بمبارك، حيث أحبط هذا العهد بشكل ناجع الديموقراطية الحقيقية ومنع خلق كوابح وتوازنات بنيوية في النهج السياسي المصري. لقد فضل الإخوان والجيش التوصل إلى تفاهمات صامتة فيما بينهما حول “تسليم” السلطة لأيدي الإخوان في انتخابات، مقابل الحفاظ على حقوق الجيش المفرطة في الاقتصاد وفي قطاع الأعمال واحترام مكانته في الشؤون الاستراتيجية في مجالي الخارجية والأمن. لذلك، أصر كل من الجيش والإخوان، لسوء حظ الليبراليين، على تعديل الدستور القائم (بدلا من وضع دستور جديد) والتقدم بسرعة نحو انتخابات للبرلمان والرئاسة لتقرّ شعبية الإخوان. غير أن أسلوب “المنتصر يحظى بكل شيء” وعدم الثقة والاحترام المتبادلين قد قوّضا هوية المصالح الأولية بين الطرفين: أصر الإخوان على تحقيق التخويل الذي منحهم إياه المواطن، وبدأ الجيش يقترب من معارضي الإخوان، وأصبح منذ سنتين يبث رسائل واضحة من عدم الرضى من تصرف السلطة المنتخبة. وقد زادت وتيرة هذه الرسائل وأصبحت شديدة اللهجة في الأسابيع الأخيرة.

هل تصرف الإخوان بشكل غير ديموقراطي في سنتهم الأولى في الحكم؟ ثمة شك في ذلك، لأن الإجابة متعلقة بالسؤال: ما هي الديموقراطية. لقد حصل الإخوان على توكيل من الجمهور لتنفيذ سياستهم المُعلنة في كافة المجالات. ديموقراطيتهم ليست ليبرالية، مفاهيمهم هي دينية ومحافظة، ومن المفترض أن الفئات السكانية المستضعفة (النساء، الأقليات) سوف تعاني تحت حكمهم أكثر مما عانوا تحت حكم مبارك. غير أن هذا ما أراده وقرره معظم الشعب المصري. على الرغم من ذلك، لا شك في أن شعبية الإخوان في بداية طريقهم قد أخرجتهم عن صوابهم وأذهبت توازنهم أدراج الرياح. إحدى القواعد الأساسية لدى المعارضة التي تستلم السلطة نتيجة انهيار نظام استبدادي هي الامتناع عن إقصاء النُخب القديمة، وبالأساس الجيش، حتى وإن كان لديك مبرّر “ديموقراطي”. ربما يكون الإخوان المسلمون قد تصرفوا بحق في مصر، ولكن ليس بحكمة. لذلك دفعوا الثمن على شكل انقلاب عسكري.

مؤيدة للرئيس المخلوع محمد مرسي حي رابعة العدوية (AFP)
مؤيدة للرئيس المخلوع محمد مرسي حي رابعة العدوية (AFP)

لقد حُسم مصير الانقلاب وتأثيره في هذه الأيام، إلا أنه يمكن أن نلاحظ منذ الآن أمرين على الصعيد المبدأي والفائدي. على الصعيد الأول، فإن الانقلاب العسكري يستأهل الاستنكار: لقد ارتقى الإخوان المسلمون السلطة بشكل ديموقراطي، وكان عليهم أن يتصرفوا على هذا النحو. إن إسقاطهم بشكل اصطناعي من قبل الجيش قد يمس مسًا لاذعا بتطور الديموقراطية المصرية، وبالتالي استقرار مصر على الأمد البعيد. على الصعيد الآخر، المنفعي، فقد يكتشف الجيش أنه ساعد بكلتا يديه على وقف توجه التدهور في شعبية الإخوان. الأنكى من ذلك هو أنه منذ اللحظة التي يتم فيها سد القنوات السياسية أمام الإخوان، فقد يُستقطبوا، هم وداعموهم، حتى وإن لم يكن الأمر فوريا، إلى مسارات عسكرية عنيفة. كان بإمكان الجيش أن يشاهد الإخوان وهم ينتقلون من فشل إلى آخر، وأن “يقطف الثمار” هو ومعارضوهم السياسيون في الانتخابات القادمة، غير أن الجنرالات لم يكبحوا جماح أنفسهم واستعجلوا الأمور. بكلمات أخرى، إذا كان “الربيع العربي” قد اتضح حتى الآن بأنه أحد أسوأ الأمور التي حلت بالإخوان المسلمين في العقود الأخيرة، فإن الانقلاب العسكري في مصر قد يتضح بأنه أحد أفضل الأمور التي حصلت لهم.

إن البشارة الأسوأ التي يحملها الانقلاب العسكري معه إلى مصر هي تجذّر عدم الاحترام والثقة بين اللاعبين الرئيسيين، الإخوان والجيش، بشكل يثير الشك بإمكانية تغييره. لقد أعلن الجيش المصري، عمليًا، أنه عاقد العزم على وقف عملية سحب مراكز القوى “الكمالية” من تحت أقدامه، والتي يطلبها لنفسه – المسؤولية عن التعرف على إرادة الأمة وضمان “مصالحها” في وجه الإسلام السياسي. غير أن الجنرالات المصريين يتجاهلون كون العلاقات العسكرية-المدنية سواء في تركيا الكمالية أو في تركية الأردغانية، قد تميزت بعدم الثقة وعدم وجود احترام متبادل بين سلة الضباط وبين السياسية الإسلامية. بكلمات أخرى، لا تكمن المشكلة في السؤال مَن مِن بين اللاعبين هو الأقوى في لحظة مُعطاة، بل تكمن في أنهما غير قادرين على التوصل إلى تفاهمات بينهما. لقد أدخل الانقلاب العسكري هذين اللاعبين المهمين إلى مسار من التصادم من شأنه أن يتخذ شكل نظام حكم استبدادي جديد أو عدم استقرار مزمن. سوف يأتي صراع القوى هذا على حساب مصلحة مصر، مصلحة مواطنيها ومصلحة المنطقة كلها.

هذا التحليل المثير هو لأحد الكتاب الأكاديميين العاملين في موقع “Can Think”، والمختص في شؤون الشرق الأوسط. ونضيف أن الموقع “Can Think” هو مشروع مستقل، لا يمت بصلة إلى أي جهة سياسية أو اقتصادية، ويعمل بموجب نموذج اشتراكي. الكُتاب والعاملون في الصحيفة هم أكاديميون، يقدمون تحليلات موضوعية من منظور بحثي.

د. آساف دافيد هو باحث في معهد ترومان لتشجيع السلام في الجامعة العبرية في القدس، ومدرّس في قسم العلوم السياسية في الجامعة العبرية، وفي قسمَي تاريخ الشرق الأوسط، والسياسة والحُكم في جامعة بن غوريون في النقب.

اقرأوا المزيد: 1147 كلمة
عرض أقل