يفجيني كلاوبر

محلل سياسي، باحث ومحاضر في قسم العلوم السياسية في جامعة تل أبيب
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (AFP)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (AFP)

لعبة بوتين في الشرق الأوسط

من جهة، لا يتخلّى بوتين عن سوريا، الأسد، وإيران. ومن جهة أخرى، فإنّ المحور السني -السعودي -المصري يعتبر روسيا ضمانا لأمنه. وداخل هذه العلاقات المتشابكة، تقف إسرائيل أمام تحدّ صعب

من الممكن أن نقول بالتأكيد إنّ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يقرأ جيّدا الخارطة الجيو-سياسية في الشرق الأوسط. قبل لحظة من تعمّق الحرب في سوريا، وعودتها لتحصد الكثير من الضحايا ولحظة قبل أن تصبح تكلفتها الاقتصادية غير محتملة بالنسبة للروس – يسحب بوتين (ظاهريًّا) قواته من سوريا، وهكذا يخرج وهو “منتصر”. وبهذا يعزّز مكانته في الشرق الأوسط، وفي المقابل يبني جسورا مع العالم السني والشيعي. يخرج من سوريا، جزئيا فحسب، تاركا فيها الإيرانيين والسعوديين يتصارعون فيما بينهم. في نفس الوقت تماما، فإنّ كل من الشيعة والسعوديين أيضًا يعتبرونه ضمانا لأمنهم. رويدا رويدا، وكلما انسحب الأمريكيون، يتضح أنّه ليس هناك أي صراع آخر في الشرق الأوسط يمكن التوصل فيه إلى حل من دون التدخّل الروسي.

بفضل الدمج بين عدة عوامل في الساحة الجيو-سياسية وبفضل صفاته الشخصية، فإنّ بوتين ملزم بتحقيق انتصارات. كان هناك من ادعى أنّه لم يقرأ جيّدا الخارطة القبلية السورية، وتدخّل انطلاقا من الأمل أن يقود نحو تسوية سياسية محكوم عليها بالفشل. ومن جهته، لم ترد مثل هذه النتائج في الحسبان. لن يعترف بوتين أبدا بخطئه: لن يُعلن عن الاعتراف بـ “الخطأ السوري” في وسائل الإعلام الروسية، والتي تستمر في مدحه وعرض انتصاراته في الميدان، مثل تحرير نحو 400 مدينة وبلدة من داعش، وتحرير مدينة تدمر.

رويدا رويدا، وكلما انسحب الأمريكيون، يتضح أنّه ليس هناك أي صراع آخر في الشرق الأوسط يمكن التوصل فيه إلى حل من دون التدخّل الروسي

والآن، عندما يتحدّى الأتراك وقف إطلاق النار الهشّ، ينقل بوتين مركز ثقل العمليات في سوريا إلى أردوغان. فهو يلمح للمجتمع الدولي أنّه “الرجل الطيب” في القصة، ويجعل من أردوغان “الرجل الشرير”. سيستمر أردوغان في مهاجمة الأكراد في شمال سوريا ودعم التنظيمات المتطرّفة في الدولة السورية، وكما سيستمر في الضغط على الروس من خلال دعمه لأذربيجان. أدرك بوتين أنّ وقف إطلاق النار لن يخدم أهدافه، لأنّ من شأنه أن يؤدي إلى تغيير نظام الأسد بطرق سلمية. ولذلك فقد خرج من سوريا، كي لا يُعتبر مسؤولا عن فشل وقف إطلاق النار. على أية حال، إذا “استدعاه” الأسد، فسيسطع نجم بوتين مجدّدا وسيتم تتويجه بطلا. في وسط الجسور الجديدة التي يبنيها في الشرق الأوسط، يمكنه توجيه الصراع السوري من بلاده – ولكن بشكل يخدم مصالحه.

جسور جديدة

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يلتقي بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين (AFP)
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يلتقي بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين (AFP)

ليست فقط الجسور المجازية الجديدة هي التي تُبنى في منطقة الشرق الأوسط. أعلن الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي والملك السعودي سلمان في الأسبوع الماضي، بعد لقاء بينهما في القاهرة، أنّهما قد وقّعا على إقامة جسر سيمرّ فوق البحر الأحمر ويصل بين كلا البلدين. تكلفة الصفقة: نحو 4 مليارات دولار. بناء الجسر هو واحد من مشاريع عديدة تبلغ تكلفتها نحو 20 مليار دولار، والتي تم توقيعها بين الزعيمين. رغم أن الحدث لم يحظَ باهتمام كبير في الإعلام الإسرائيلي، يجب أن نعرف أنّ هذه هي خطوة تاريخية: فمن جهة، يشكل هذا وصْلا بين كلا القارّتين، إفريقيا وآسيا، ومن جهة أخرى، ستزيد هذه الخطوة من التعاون الاقتصادي بينهما. إنها أيضًا خطوة سياسية مهمة في طريق إنشاء كتلة سنية، والتي ستقاوم صعود إيران.

بالإضافة إلى بناء الجسور، تتغيّر الحدود أيضًا في الشرق الأوسط. خلال عدة عقود بقي وضع جزيرتي صنافير وتيران غير معرّف. في العدوان الثلاثي عام 1956 وأيضا في حرب الأيام الستة عام 1967، سيطر سلاح البحريّة الإسرائيلي على كلا الجزيرتين. تم تعريف الحدود البحرية بين السعودية ومصر فقط في عام 2010، بعد عدة جولات من المفاوضات. اعترف المصريون بالحدود البحرية الجديدة، في الوقت الذي وعد السعوديون بنزع السلاح من الجزيرتين. ومنذ ذلك الحين، التقى الطرفان عدة مرات من أجل تعريف الحدود البحرية، وفقط قبل عدة أشهر تم التوصل إلى الاتفاقات النهائية المطلوبة لذلك. قرّر أعضاء في اللجنة المشتركة نقل السيطرة إلى السعوديين. للوهلة الأولى، يحاول السعوديون والمصريون تقليل نقاط الاحتكاك بين كلا القوتين، وتعزيز التعاون الاقتصادي. هناك من يدعي أنّ السعودية قد وضعت السيسي ببساطة أمام حقيقة، عندما أعلمته بضمّ جزيرتي صنافير وتيران. بحسب رأيهم، فإنّه لا مناص للرئيس المصري، الذي حصل على أموال من السعوديين وسمح لهم باستثمارات كثيرة في بلاده، ومن ثمّ فقد خضع لهم.

الحرب التي تتطور أمام أعيننا في الشرق الأوسط تتشكل كعلاقات متشابكة بين (1) الكتلة الشيعية برئاسة إيران، (2) الكتلة السنية السعودية-المصرية، وفي رأس الهرم (3) روسيا فحسب

أثار هذا الخضوع استياءً كبيرا في مصر في أوساط دوائر معينة. بقي أن نأمل فقط أنّ السيسي قد عمل حساباته، وأنّ التقرب من السعوديين لن يقوّض الاستقرار في مصر. في صحيفة “إسرائيل اليوم” حلّل السفير الإسرائيلي الأسبق في القاهرة، يتسحاق ليفانون، الواقع الجديد، وأوصى صنّاع القرار في إسرائيل بطلب تصريح علني من السعوديين بإبقاء حرية الملاحة للجميع في الممرّ المائيّ الدولي. ورغم التقارب بين إسرائيل والسعودية والذي بدأ في الآونة الأخيرة من خلف الكواليس، يجب أن نذكر أنّه بالنسبة للسعودية لا تزال إسرائيل دولة عدوّة. ويجب أيضًا أن يؤخذ بالحسبان، أنّه رغم أن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير قد صرّح أنّ بلاده ملتزمة بالاتفاقات التي وُقّعت بين مصر وإسرائيل، فإنّ السعودية لم تصرّح بعد رسميا بهذا الالتزام. إنّ الصفقة السعودية-المصرية، على ضوء التقارب بين البلدين وروسيا، تضع أمام إسرائيل سؤالا هاما: كيف ستستمر في إدارة العلاقات الدبلوماسية مع روسيا، والآخذة بالتشكّل كحليف للسعوديين والمصريين من جهة والإيرانيين من جهة أخرى.

إذا كان الأمر كذلك فإنّ الحرب التي تتطور أمام أعيننا في الشرق الأوسط تتشكل كعلاقات متشابكة بين (1) الكتلة الشيعية برئاسة إيران، (2) الكتلة السنية السعودية-المصرية، وفي رأس الهرم (3) روسيا فحسب. من المثير للاهتمام أن نذكر أنّه مقابل هذا الحدث المهم، اتفق الرئيس الروسي بوتين مع الرئيس المصري السيسي على إعادة إقامة الرحلات الجوية المنتظمة بين روسيا ومصر. ولكن هذا هو طرف جبل الجليد فحسب. من المعتاد التأكيد فقط على العلاقة بين روسيا وإيران، ولكن تشهد سلسلة من الأحداث أنّ بوتين في الواقع يعمل في حلبتين في آنٍ واحد.

الوُجهة نحو روسيا

العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز يلتقي بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين (AFP)
العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز يلتقي بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين (AFP)

إنّ مصر، بعد أن اقتنعت نهائيا أنّه ليس لديها ما تبحث عنه في واشنطن، وخصوصا بعد أن اعتذر الرئيس أوباما في الأسبوع الماضي عن “الخطأ في ليبيا”، تستمر في الابتعاد عن الولايات المتحدة وتوثيق العلاقات مع روسيا.

وكان بوتين قد حظي باستقبال ملكي في القاهرة في بداية عام 2015، ومنذ وقت ليس بعيد كان ضيف الشرف في افتتاح قناة السويس الجديدة، وقد وقّع أيضًا على عقد لإقامة منشأة نووية جديدة في مصر. تم توقيع صفقة السلاح، بقيمة 3 مليار دولار، بين الروس ومصر، وبعد أن مُوّلت من قبل الإمارات، فقد ضخّت أموالا كثيرة إلى الاقتصاد الروسي المنهار عقب العقوبات الاقتصادية من قبل الغرب، وذلك إلى جانب أسعار النفط المنخفضة. وقد وقّع الروس والمصريون أيضًا على اتفاقات لتعزيز الصفقات المتبادلة في مجال الغاز الطبيعي، واتُفق أيضًا على بناء منطقة صناعية روسية على طول قناة السويس. وصلت دورة التجارة التي قامت في السنة الماضية بين كلا البلدين إلى 5.5 مليار دولار: أكثر بـ 86% مما كانت في العام 2013. ومع ذلك، فمن الجدير بالذكر أنّه عقب انخفاض الأسعار في الأسواق العالمية والتغيرات في أسعار الصرف، ففي النصف الأول من العام 2015 انخفض التبادل التجاري بنسبة 16%.

على خلفية ابتعاد القاهرة عن واشنطن، يبدو أن السبب الأهم لتلاقي المصالح هو داعش: العدو المكروه الواضح بالنسبة للسيسي وبوتين

وإلى جانب حقيقة أن هناك لكلا الجانبين (روسيا ومصر) مصلحة اقتصادية واضحة في التقرب من بعضهما البعض على خلفية ابتعاد القاهرة عن واشنطن، يبدو أن السبب الأهم لتلاقي المصالح هو داعش: العدو المكروه الواضح بالنسبة للسيسي وبوتين. داعش آخذة بالسيطرة على سيناء، وتتسبب بانعدام الاستقرار في تونس وليبيا المجاورتين. وفي المقابل، بالنسبة للروس، تشكّل داعش خطرا استراتيجيا. إلا أن بوتين، بخلاف الرئيس المصري، يملك القدرة على عرض “فواتير” للتقدّم في الحرب على داعش. يهم الروس أن يسدد المصريون دفعاتهم، بينما الجسر الذي يقرّب بينهم وبين السعوديين يمثّل أخبارا جيّدة بالنسبة للروس. سيكون الاقتصاد المصري، بعد ضخّ الأموال الكثيف من قبل السعوديين، قويّا بما فيه الكفاية لتسديد الدفعات.

ومن الجهة الأخرى من المضائق، يعتبر السعوديون أيضًا روسيا شريكًا استراتيجيا، رغم المشاحنات المتعلقة بالحرب في سوريا. ففي السنة الماضية أعربوا عن اهتمامهم بصواريخ “إسكندر” (‪9K720 Iskander‬)‎ الروسية، رغم أنّ أساس اهتمامهم كان محاولتهم، مرارا وتكرارا، إقناع بوتين بالتوقف عن دعم نظام الأسد. إنّ احتمال ذلك لا يزال ضئيلا، إذا أخذنا بالحسبان حقيقة أن روسيا كانت تدعم دائما وأبدا النظام السوري، بسبب مزيج من الدوافع السياسية والاقتصادية. الطلبيات الصناعية الكيميائية الروسية، الدعم العسكري والأيديولوجي منذ أيام الاتحاد السوفياتي، التصويت لصالح سوريا في الأمم المتحدة، قاعدة إمداد وصيانة لأسطول البحر الأسود الروسي الموجود في طرطوس السورية: هذه كلها مجرّد جزء من قصة الحبّ. منذ العام 2010، أرسلت روسيا إلى سوريا صواريخ “ياخونت (P-800 Oniks)” متطوّرة ضدّ السفن، ومؤخرا أرسلت صواريخ أخرى من النوع المحسّن أكثر: وهو طراز مزوّد برادار يحسّن من كفاءتها بشكل كبير. إنّ قرار روسيا، في الصيف الماضي، بإلغاء الحظر المفروض على بيع صواريخ أرض-جوّ من نوع S-300 إلى إيران، والتدخّل في الحرب الأهلية السورية في أيلول عام 2015، يؤكد إلى حدّ بعيد الالتزام الروسي تجاه النظام السوري في السنوات الأخيرة.‬

لقاء بوتين وبشار الأسد في موسكو (AFP)
لقاء بوتين وبشار الأسد في موسكو (AFP)

وتقريبًا منذ بداية طريق التحالف الدولي ضدّ داعش، وجّهت روسيا انتقادات بخصوص كفاءة القصف الجوي بقيادة السعوديين، في اليمن وسوريا. ازدادت هذه الانتقادات في أعقاب رفض تركيا والسعودية بناء تحالف بديل ضدّ “الدولة الإسلامية”، بقيادة بوتين، وهو تحالف سيشمل الأسد أيضًا. لن يتنازل بوتين عن الأسد في الطريق إلى تسوية ما في الشرق الأوسط. ورغم أن روسيا تعتبر داعش تهديدا حقيقيا على أمنها، وتنظيما غير قانوني: فقد حرص بوتين على أن يخرج من القانون تجنّد مواطنين روس في تنظيمات ذات أهداف “تعارض مصالح الاتحاد الروسي”، وذلك على ضوء قدرة داعش على تقويض نظام بوتين من الداخل، وهذا في ظلّ الوضع في القوقاز، حيث أقسم بعض قادة إمارة القوقاز في الشيشان وداغستان يمين الولاء لزعيم تنظيم “الدولة الإسلامية”، أبو بكر البغدادي.

ورغم الانتصارات النسبية في الحرب ضد داعش، تشعر روسيا بعدم وجود الثقة الكافية بخصوص دعم العالم السني. في أكثر من مرة اتهمت الأتراك والسعوديين بدعم المتطرّفين في الحرب بسوريا. ومن جهته، يحاول العالم السني الاتحاد ضدّ الإيرانيين ويعتبر روسيا ضمانا لأمانه. يدرك بوتين ذلك جيّدا، ونتيجة لذلك فهو يرحب ببناء الجسر بين القارتين – وهو الأمر الذي سيسمح له بإقامة جسور سياسية داخل العالم السني والعالم الشيعي في آنٍ واحد.

نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في موقع ميدا

اقرأوا المزيد: 1552 كلمة
عرض أقل
مقابلة بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما والعاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز (Flickr White House)
مقابلة بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما والعاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز (Flickr White House)

السعودية: بين المطرقة الأمريكية والسندان الروسي

بعد عدة سنوات قاسية من العلاقات المتوترة بين السعودية والولايات المتحدة والصداقة بين الملك سلمان وبوتين، هل تتم صياغة سياسة جديدة لإعادة السعوديين إلى حضن الولايات المتحدة؟

كانت السياسة الخارجية للسعودية دائما ولا تزال مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتطورات الجيوسياسية – الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا. على هذه الخلفية يُطرح السؤال: ما هو الخط السعودي الحالي، وما هي العلاقة بين هذا الخط وبين توقّعاتنا من هذه الدولة.

تتغيّر السياسة الخارجية للسعودية من حين إلى آخر وهي “تتحرّك” بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية. إن الفروقات بين الاتجاهات المختلفة في السياسة الخارجية لديها متجذّرة في متغيّرات تاريخية، جيوسياسية، اجتماعية وثقافية. رغم الفارق النوعي الهائل بين النظامين الدوليين: ذلك الذي كان في فترة الحرب الباردة وبين النظام الحالي، يحاول قادة السعودية العثور على توازن بين قدرتهم على وضع خطّ مستقلّ كدولة ذات سيادة، وبين تأثير الضغوط التي تُمارس من كلتا الكتلتين، واللتين تشكلتا خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة، وهي ضغوط تهدف إلى ضمان الحفاظ على مصالحهما القومية في الشرق الأوسط.

في فترة الحرب الباردة، منحت الولايات المتحدة مساعدة عسكرية واقتصادية للسعوديين، لاحتياجات تطوير وتنمية اقتصادهم وتطوير علاقات دبلوماسيّة مع حلف شمال الأطلسي. كان هدف هذه السياسة تجاه السعودية هو تكبيلها بتحالف عسكري، من أجل الحدّ من اعتماد الأخيرة على الكتلة الشرقية

الحرب الباردة

في فترة الحرب الباردة، بشكل تقليدي، منحت الولايات المتحدة مساعدة عسكرية واقتصادية للسعوديين، لاحتياجات تطوير وتنمية اقتصادهم، ولرفع مستوى حياة السكان وتطوير علاقات دبلوماسيّة مع حلف شمال الأطلسي. كان هدف السياسة الخارجية الأمريكية تجاه السعودية هو تكبيلها بتحالف عسكري، من أجل الحدّ من اعتماد الأخيرة على الكتلة الشرقية. تمت صياغة هذه السياسة في أعقاب الموقف الثابت للسعوديين في الوقوف إلى جانب واشنطن في الحرب الباردة. ومن الجدير بالذكر أن المملكة العربية السعودية تلقّت من الولايات المتحدة مساعدات أقلّ من دول أخرى في الشرق الأوسط، من بينها الأردن، مصر وإسرائيل. لقد حصلت السعودية على مساعدة ضئيلة نسبيًّا. وذلك لأنّ السعودية هي دولة وفرة عظمى بسبب كنوز النفط الموجودة في أراضيها. تركّزت المساعدات الأمريكية في تقديم الاستشارة العسكرية. فعلى سبيل المثال، عام 1963، كان في السعودية 250 رجلا عسكريًّا أمريكيًّا. وشكّلت المساعدات الخارجية، كما ذكرنا، أداة مهمة وأساسية في السياسة الخارجية الأمريكية، وتم تحديد برامج تقليصها أو زيادتها بشكل أساسيّ على ضوء اعتبارات استراتيجية عالمية في الحرب الباردة. وهكذا، وللمرة الأخرى، وجدت السعودية نفسها بين المطرقة الأمريكية والسندان السوفياتي.

قوات من الجيش السعودي (AFP)
قوات من الجيش السعودي (AFP)

بعد أحداث 11 أيلول

بعد 11 أيلول عام 2001 تقوّض التحالف الأمريكي السعودي، لأسباب معروفة. وخلال العقد الأخير، بدأت السعودية في التموضع كقوة سنّية مهيمنة في المنطقة، تُوازن بين القطب الشيعي، أي: إيران. أخذت السعودية دورا فاعلا في الحرب ضدّ الإرهاب الإسلامي، كشريك في التحالف ضدّ الحوثيين الشيعة في اليمن، كقوة مهيمنة في التحالف ضدّ داعش، وكـ “دبوس أمان” أمام التوسعات الأخرى لإيران الشيعية. في المقابل، بدأ يُنظر إلى الولايات المتحدة أكثر وأكثر كدولة فاقدة للاستراتيجية الواضحة وخاسرة في الشرق الأوسط؛ حيث خسرت في أفغانستان والعراق، ولم تُسيّطر على المتمردين في اليمن. بالإضافة إلى ذلك، بدا الرئيس أوباما وكأنه لم يعد قادرا على تسوية الأزمات الحالية في الشرق الأوسط. لقد تخلّى سريعًا جدّا عن القذافي ومبارك، ووقّع على اتفاقات خطيرة جدا بالنسبة لإسرائيل مع الإيرانيين. في المقابل، تهدف السعودية، التي ترغب في أن تكون القوة الرائدة في المحور السني في الشرق الأوسط، إلى زيادة ميزانية مشترياتها الدفاعية من 49 مليار دولار في السنة إلى 60 مليار دولار في السنة حتى عام 2020، وأن تصبح بذلك الدولة الخامسة في العالم في كمية الإنفاق الدفاعي.

بعد 11 أيلول عام 2001، بدأ يُنظر إلى الولايات المتحدة أكثر وأكثر كدولة فاقدة للاستراتيجية الواضحة وخاسرة في الشرق الأوسط؛ حيث خسرت في أفغانستان والعراق، ولم تُسيّطر على المتمردين في اليمن

العلاقة الروسية

على ضوء برودة العلاقات مع الأمريكيين، طرأ تحسّن ملحوظ في العلاقة بين السعودية والروس. ترتبط المصالح القومية الروسية، دائما وأبدا، بأسعار النفط العالمية، حيث إنّ للسعودية دور رئيسي في سوق النفط العالمي. هيمنت السعودية لفترة طويلة على منظمة منتجي النفط، وأملتْ الشروط في السوق. في وقت ما، سمحت السعودية بارتفاع كبير لأسعار النفط من 12 إلى 36 دولارا للبرميل عام 1979، ولاحقا خفّضت من الإنتاج من أجل الحفاظ على هذه الأسعار. واليوم، بعد الصفقة مع الإيرانيين وانخفاض أسعار النفط إلى ما تحت 50 دولارا للبرميل، فإنّ روسيا – التي تضرّر اقتصادها من هذه الخطوة – تطلب من السعوديين تخفيض الإنتاج من أجل رفع أسعار النفط. ولكن السعوديين لا يسارعون في اتخاذ هذه الخطوة. تخسر المملكة العربية السعودية نفسها أموالا هائلة منذ انخفاض الأسعار، ولكنها تصحّح ذلك من خلال زيادة الإنتاج. في أعقاب ذلك، استُئنفت في صيف هذا العام المحادثات بين السعوديين والروس. وخلال هذه المحادثات يحاول الروس جعل السعوديين يخفّضون الإنتاج، بينما يطلب السعوديون – من جهتهم – من بوتين التوقف عن دعم نظام الأسد. لقد تمّ تجنّب الإضرار على الاقتصاد السعودي في الوقت الراهن بفضل احتياطيات النقد الأجنبي الهائلة لديها، نحو 700 مليار دولار، والتي تسمح لها باجتياز انخفاض أسعار النفط دون تضرّر.

مقابلة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والعاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز (AFP)
مقابلة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والعاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز (AFP)

ولقد ازداد تصلّب الروس في الشأن السوري في الأسابيع الماضية، مع تعزيز الوجود الروسي في سوريا. مؤخرا، من المرجح أن يكون بوتين – كعادته – قد قال للسعوديين بأنّ تزويد السلاح الحالي يتم بموجب عقود تم توقيعها منذ عدة سنوات، وبأنّها أسلحة لأغراض دفاعية. ولكن لا يمكن تجاهل مصالحه الحقيقية: وهي الدعم المكثّف لجيش نظام الأسد، الذي يُقاتل ضدّ قوات المعارضة الجهادية وضدّ داعش. يعاني نظام الأسد من عدة مشاكل جادّة: إن الجزء الأكبر من الجنود، رغم مهاراته، ليس قادرًا على مواجهة العدوّ، إثر التكتيكات المبتكرة، و “لعبة” القتال النموذجية لدى مقاتلي داعش. لقد فرّ الكثير من الجنود من الجيش النظامي السوري من البلاد، وهم يتواجدون “في مكان ما في بودابست” في طريقهم إلى “الحياة الأفضل” في أوروبا، المليئة بالمهاجرين من الشرق الأوسط عموما ومن سوريا بشكل خاص، ويحتاج جنود الأسد إلى القتال على عدة جبهات في وقت واحد، مع غياب السيطرة الحقيقية على حدود البلاد. ولكن يستمر بوتين في أن يُظهر للعالم، ومن بين أمور أخرى، للسعوديين، أنّه لن يُهمل حلفاء روسيا أبدا. إنّ عملياته – ومن بينها وضع طائرات ومروحيات حربية في سوريا – هي إشارة إلى أنّه لن يدع نظام بشار الأسد يسقط، رغم الضغوط الهائلة التي يمارسها عليه السعوديون، وفي الواقع، العالم كله. علينا أن نذكر أنّه في السنوات الماضية أيضًا موّلت السعودية جزءًا كبيرا من عمليات المتمردين ضدّ نظام الأسد.

يستمر بوتين في أن يُظهر للعالم، وللسعوديين، أنّه لن يُهمل حلفاءه أبدا. إنّ عملياته – ومن بينها وضع طائرات ومروحيات حربية في سوريا – هي إشارة إلى أنّه لن يدع نظام بشار الأسد يسقط، رغم الضغوط الهائلة التي يمارسها عليه السعوديون

إذا تجاهلنا للحظة الخلاف حول القضية السورية بين الروس والسعوديين، يبدو أنّ إحدى أهم الخطوات التي اتخذتها السعودية في السنوات الماضية، هي خطوة تقاربها الاقتصادي من روسيا. في حزيران 2015، وقّع السعوديون على منظومة اتفاقات للتعاون، بنطاق 10 مليارات دولار تقريبا. بل وقد وقّع البلدان – “تحت مرأى ومسمع” أمريكا – اتفاق تعاون نووي، يهدف إلى تمهيد الطريق لبناء 16 مفاعلا نوويا في السعودية من قبل روسيا. وقد التزمت روسيا أيضًا بمساعدة السعودية على تدريب علماء سعوديين على التخلّص من النفايات النووية. علينا أن نذكر، بأنّه خلال التنقّل بين المطرقة الأمريكية والسندان السوفياتي، كانت السعودية في فترة الحرب الباردة عدوّا تقليديا للاتحاد السوفياتي. تجدّدت العلاقات بين البلدين عام 1992، بعد سقوط الاتّحاد السوفياتي.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستقبل الأسد (AFP)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستقبل الأسد (AFP)

على خلفية التباعد عن الولايات المتحدة والتقارب من الروس في السنة الماضية، قدّر العديد من المحلّلين الأمريكيين في شهر أيار عام 2015، أنّ إلغاء الزيارة الرسمية للولايات المتحدة من قبل الملك سلمان يُشير إلى توتر وخلاف في الآراء بين الرياض وواشنطن، بخصوص الصفقة النووية التي تشكّلت في تلك الفترة، وبسبب سلوك واشنطن بخصوص الحرب في اليمن. بل وقد اعتبر المحلل الإسرائيلي تسفي بارئيل أنّ السياسة الخارجية السعودية هي “استعراض عضلات” ضدّ الأمريكيين.

عودة إلى أحضان أوباما؟

أساس التقارب السعودي – الامريكي هو إعادة صياغة دور الولايات المتحدة في الشرق الاوسط، بالإضافة إلى الحفاظ على المصالح القومية للسعودية

والآن، بعد التقارب الواضح في العلاقة بين الولايات المتحدة والسعوديين في العقدين الأخيرين، يشكّل العام 2015 متعرّجا آخر في العودة تجاه الأمريكيين. إنّ أساس هذا التقارب – بعد إدارة الظهر – هو إعادة صياغة دور الولايات المتحدة في المنطقة، بالإضافة إلى الحفاظ على المصالح القومية للسعودية. إلى جانب هذا التقارب هناك أيضًا صياغة غير رسمية لبنود الاتفاق، التي تعكس شكل السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط. قال كيري، قبل عدة أشهر، إنّ الولايات المتحدة ودول النفط تعمل على تشكيل “سلسلة من التفاهمات الأمنية التي ستقودنا إلى مكان لم نكن فيه أبدا”. إنّ الإشارة إلى الدفء الإضافي في العلاقات، هو حقيقة أنّ السعودية ستستمر في شراء السلاح من الولايات المتحدة. ستكون مشكلة واشنطن من الآن: الحفاظ على التفوّق العسكري الإسرائيلي. وهذا يُفسّر امتناع الإدارة عن بيع الطائرة الحربية الجديدة F-35 من شركة “لوكهيد مارتن” للسعوديين. في نفس الوقت وافقت الإدارة على بيع هذه الطائرة ذات القدرات المتقدّمة لإسرائيل.

الإشارة الأبرز لما أسماه المحلّلون “تصفير العلاقات” و “فتح صفحة جديدة” هو زيارة الملك السعودي التاريخية لواشنطن قبل نحو ثلاثة أسابيع، واللقاء مع الرئيس أوباما، من أجل مناقشة الاتفاق النووي مع إيران. كانت هذه هي زيارة ملك السعودية سلمان الأولى للولايات المتحدة منذ أن تمّ تتويجه في شهر كانون الثاني في المنصب بعد وفاة شقيقه. سيشتري السعوديون من الأمريكيين فرقاطتين بقيمة مليار دولار، عشرة مروحيات بقيمة 1.9 مليار دولار، مروحيات من نوع “بلاك هوك” وصواريخ من نوع PAC-3‎ مقابل 5.4 مليار دولار ونظم أخرى ضدّ الطائرات وضدّ الصواريخ البالستية. بل قال تسفي بارئيل، في مقاله في صحيفة “هآرتس” (‏04/09/2015‏) إنّ “السعودية لا تشتري السلاح فقط؛ بل تشتري حماية تُساعد في الحفاظ على الاقتصاد الأمريكي وفي المقابل فهي تتوقع منتجات دبلوماسية مناسبة”. أي إنّه ليس مجرّد تحسّن في العلاقات بين السعوديين والأمريكيين، وإنما تعزّز غير تناسبي سعودي في هذا الحوار المتجدّد. وإذا كان الأمر كذلك، فالسعودية اليوم ذات قوة أكثر، وقدرات أكبر على التنقّل بين المطرقة والسندان.

نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في موقع ميدل نيوز

اقرأوا المزيد: 1498 كلمة
عرض أقل