مدّعو الليبرالية في مصر أيّدوا التدخل العسكري الذي أطاح بالرئيس محمد مرسي في تموز/يوليو 2013. والواقع أن موقفهم هذا أثار حيرة العديد من المراقبين الغربيين الذين تساءلوا عن كيف يمكن لأي شخص تبنّي قيم ليبرالية أن يدعم انقلابًا استبداديًا أطاح برئيس منتخب ديمقراطياً. لا تسهل الإجابة عن هكذا سؤال، ولكن إذا تمعنا في تطور مصر خلال الزمن المعاصر قد نتمكن من فهم الحالة الذهنية والسلوك المحيّر لّليبراليين الذين يتكتلون اليوم حول الرئيس المصري الجديد عبد الفتاح السيسي.
انبثق مفهوم الجيش المصري كـ “قوة ليبرالية” خلال حكم محمد علي باشا، مؤسس مصر الحديثة. تاريخيا، تم إدارة الجيش من قبل عسكريين أجانب عرفوا بالمماليك، وبالرغم من أنهم ظلوا تحت حكم الإمبراطورية العثمانية إلا أنهم شكّلوا تهديدا لمحمد علي، حاكم مصر الطموح. فأعلن علي استقلاله عن العثمانيين وأطاح بالمماليك واتخذ قراراً استراتيجيا بتجنيد الفلاحين المصريين الأصليين في صفوف قوته العسكرية المعاصرة والمحترفة. وبالنسبة للمصريين، تثير فكرة بأن “رجالنا الأوفياء يحاربون من أجل وطننا” ثقة عميقة في الجيش كمنقذ مصر، وما زالت راسخة حتى اليوم.
أما في المجتمع المصري، فمع أن مصر عرفت حركة تنويرية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين (عصر النهضة)، إلا أن هذا التنوير لم يتكلل بالنجاح التام إذ لم تقتصر مشاكله على المعارضة الشديدة من قبل المحافظين بل شابه الجبن والتنافر الإيديولوجي أيضًا. فعلى سبيل المثال، القوميون البارزون والمدافعون الشرسون عن الدولة الحديثة والمستقلة كانوا يعارضون الحركات النسوية، لا بل اعتبروا أن آراء المصريين المؤيدين لهذا المبدأ حول حقوق المرأة، أمثال قاسم الأمين، لا تناسب مصر. بمعنى آخر، ما أرادوه هو دولة مصرية متحررة من الاستعمار إنما متساهلة مع المواقف القمعية تجاه المرأة. وشكل هذا الطابع الانتقائي لمفهوم الحداثة الخطوة الأولى نحو تكوّن حركة ليبرالية مشوّهة في مصر.
أضف إلى أن هؤلاء الليبراليين لم يدعموا بعضهم البعض في الأزمات. فقلةٌ منهم وقفوا إلى جانب الكاتب المصري اللامع طه حسين حين ألّف كتاب “في الشعر الجاهلي” وتحدى فيه مصداقية بعض الروايات الواردة في القرآن الكريم. لقد تُرك طه حسين بمفرده تقريبًا ليدافع عن نفسه ضد وابل الانتقادات الذي انهال عليه. وفي حين لم يتخذ أي إجراء قضائي بحقه إلا أنه خسر منصبه في جامعة القاهرة، وهذه تجربة عاشها عدة مثقفين ليبراليين في ما بعد.
لكن تجربة طه حسين علّمت الليبراليين أن يعتمدوا مقاربة أقل وقعاً للتعبير عن أفكارهم على الملأ، فلجأوا حينذاك إلى وسائط أخرى كالروايات والسينما والفنون. وكان هدفهم تغيير سلوك المجتمع اللاوعي بدلاً من تغيير سلوكه الواعي، مع تفادي المواجهات مع المحافظين التقليديين وعلماء الدين. وبالفعل، نجح مسعاهم إنما بالحد الأدنى. ففي حين استمتع المصريون بأفلامهم الليبرالية، لم يرق لهم بالضرورة تطبيقها على أرض الواقع. وهذه الهوة بين السينما والحياة المصرية العادية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي كانت شاسعة.
وفيما كان الليبراليون يركّزون على تكوين هوية مصرية تقدمية كإحدى ركائز الدولة، سعت جماعة الإخوان المسلمين إلى الحط من قدر مهمتهم. وإذ ادعى الإخوان أنهم يدافعون عن الإسلام من “اعتداء ليبرالي”، نجحوا في كسب تعاطف وتفهم بعض شرائح المجتمع المصري. ومع أن بعض المحللين يجادلون أن الإخوان المسلمين ساهموا بشكل ملحوظ في صياغة الهوية المصرية الإجمالية، برأيي فإن المصريين لا يتشاركون مع الجماعة سوى القليل من قيمها الإسلامية. بيد أن الدينامية المتقلبة للساحتين السياسية والاجتماعية في مصر منعت الكثير من المصريين من التعمق في التفكير بهذا المزيج غير المتناغم وربما أيضًا المتناقض بين النزعتين المحافظة والليبرالية.
وجدير بالذكر أن ثورة 1952 شكلت حدثًا حاسمًا في المواجهة بين التيار الليبرالي والمحافظة. فمن جهة، كان الرئيس السابق جمال عبد الناصر بحاجة إلى مساعدة الليبراليين في صياغة إيديولوجيته السياسية التي جمعت بعض عناصر الليبرالية الكلاسيكية بالعناصر الإسلامية الأساسية. ومن جهة أخرى كان الليبراليون بحاجة إلى سلطوية عبد الناصر في معركتهم ضد الإخوان المسلمين بسبب افتقارهم إلى البراعة الفكرية اللازمة لمواجهة علل الإسلام السياسي. من هنا لعب عبد الناصر دور الولي القادر على مساعدة الليبراليين في تفادي المواجهة الفكرية مع الإسلاميين، في الوقت الذي حارب فيه الإسلاميين بطريقة غير معلنة.
لقد لعب حكم عبد الناصر دورًا حاسمًا في تهميش الإخوان المسلمين فيما أتاح لهوية مصممة حديثًا أن تطغى على السياسة المصرية والمجتمع المصري. ولقيت هذه الهوية الجديدة ترحاب العديد من المصريين، فالليبراليون تبنوا مفهوم “الجيش الليبرالي” وتغلغلت هذه الفكرة في الذهنية الجماعية للأمة. وما الإنتاجات السينمائية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي سوى أمثلة صارخة عن هذا التمجيد للجيش وجنوده.
ولكن بخلاف عبد الناصر، بخل المصريون الليبراليون بمودّتهم على الرئيس حسني مبارك، لا سيما وأن هذا الأخير تخلى عن العلاقة التي صاغها عبد الناصر مع الليبراليين، كجزء من استراتيجية الصمود التي أتبعها. فقد خلع العديد منهم من مختلف المناصب وخصوصًا في وزارة الثقافة في خطوةٍ قلصت إلى حد كبير تأثيرهم على الأجيال الصاعدة. هذا وحدّ الرئيس مبارك من دور الجيش ليصبح مؤسسة خفية – إنما ثرية – تتردد ذكراها في سياق الحرب العربية الإسرائيلية العام 1973.
فضلاً عن ذلك، سمح الرئيس مبارك للإخوان المسلمين بأن يجردوا الهوية المصرية من نواتها الليبرالية وأن يوسعوا في المقابل نواتهم الغامضة والمحافظة. لقد أتيح لهم استيراد العادات والتقاليد الاجتماعية من الدول الإسلامية الأخرى ودمجها في نسيج المجتمع المصري، لكن الرئيس مبارك كان واضحًا في تعليماته للإخوان: ممنوع عليهم تهشيم الواجهة الليبرالية للدولة. غير أن هذا الاختراق حصل في النهاية بعد انتفاضة العام 2011 وانتخاب الرئيس مرسي في أعقابها. وكان في ذلك صدمة لليبراليين والجنرالات على حدٍّ سواء.
من الصعب تحديد المشاعر الحقيقة للمصريين الليبراليين تجاه الجيش. لعلهم يشعرون بمزيج انتقائي من الثقة والاحترام الصادق والتخوف من السيناريوهات السوداوية. فبينما ضعف الرابط بين الليبراليين والجنرالات في ظل حكم مبارك، عاد ليتأجج في وجه النزعة الإسلامية العلنية للرئيس مرسي، حيث دفعهم هذا الأخير وبدون قصد إلى استيعاب ضرورة التضافر من أجل الصمود. وبعد انقلاب العام 2013، نجح الجيش في استعادة صورته كحامي القيم الليبرالية الكلاسيكية في مصر وأتاح لليبراليين هزيمة الإسلاميين بدون الكشف عن الاختلافات بين معتقدات الطرفين.
إنّ الليبراليين في عهد السيسي هم النتيجة المحتمة للتطور الناقص والمعاصر الذي عرفته مصر. فأساليبهم وتصرفاتهم ومعتقداتهم كلها أمثلة صارخة عن الأخطاء التي حلت بمصر على مدى الأعوام المئة والخمسين الماضية. وصحيح أن المؤسسة العسكرية أقل محافظة من الإخوان المسلمين وهويتها المصرية أكثر أصالة منهم، إلا أنه من الخطأ اعتبار الجيش قوة ليبرالية. ثمة طرق كثيرة لتفسير شعبية الرئيس السيسي لدى الشعب، والليبرالية ليست إحداها.
نشر هذا المقال لأول مرة على موقع منتدى فكرة