في 26 مارس (2015) انطلقت عملية “عاصفة الحزم”. هاجم السعوديون وحلفاؤهم في الخليج جوّا أهدافا للمتمرّدين الحوثيين في اليمن، وفجأة سطع نجمها وسط جدول الأعمال العالمي والشرق أوسطي.

وينشر الكثير من وسائل الإعلام، التي لم تنشغل منذ وقت طويل على الإطلاق بهذا البلد الضخم والمهم، في هذه الأيام ، الأخبار بانتظام خارطة السيطرة لعناصر القوة المختلفة في اليمن: الحوثيون، موالو الرئيس وتنظيم القاعدة. ولكن من المرجّح أن تتغيّر هذه الخارطة خلال أيام عدّة مرات. على أية حال، من أجل محاولة فهم ما يحدث في اليمن علينا أن نفهم بأنّها ليست فقط قضية “شيعة ضدّ سنّة” أو “موالي إيران ضدّ موالي السعودية”، وإنما صورة أكثر تعقيدا، تشمل العديد من اللاعبين.

اتحاد مصطنع

جندي موالي لعالي عبدالله صالح (AFP)
جندي موالي لعالي عبدالله صالح (AFP)

اليمن اليوم هي دولة تم إنشاؤها من توحّد دولتين. تم الإعلان عام 1990 عن الوحدة بين شمال اليمن، التي كان يقودها ائتلاف عسكري – قبلي – ديني برئاسة علي عبد الله صالح حينذاك. حيث اجتمع حول طاولة حزب “المؤتمر الشعبي العام”، زعماء اتحادات القبائل الكبرى من حاشد وبكيل ونخبة من ضباط الجيش، مع جنوب اليمن، الذي كان جمهورية ماركسية، تحت حماية الاتحاد السوفياتي. ورغم أنه قد تم الإعلان في اتفاقات الوحدة بأنّ اليمن سيتوحّد بشكل كامل، ولكن في حقيقة الواقع كان ذلك اتحادا مصطنعًا لا أكثر، لأنّه اشتمل بشكل حصري على تقسيم المناصب بين النخب الشمالية والجنوبية دون أن يقوم بأية محاولة في تكوين شعب يمني واحد.

وقد حوّل الواقع الذي نشأ، والذي عملت فيه النخب الجنوبية والشمالية على تحييد بعضهم البعض، الدولة من دولة موحّدة إلى دولة مشلولة. ناهيك عن الفقر المدقع الذي ساد فيها وعزلتها عن العالم العربي، بسبب دعمها لغزو صدام حسين للكويت. عام 1994، وعلى خلفية إعلان النخب الجنوبية عن انسحابها من الاتحاد وعن إقامة دولة جنوب يمن جديدة، اندلعت حرب أهلية انتصرت فيها قوات الرئيس صالح. استطاع الرئيس الذي أظهر قبل الاتحاد قدرة مثيرة للإعجاب على المناورة بين عناصر القوة المختلفة في البلاد، أن يجنّد الأوساط الإسلامية لصالحه وخصوصا أنصار حركة “الإصلاح”؛ وهي حزب إسلامي، لديه قاعدة قبلية واسعة، وقد كان لديه قاعدة دعم سواء في أوساط السنة أو الزيدية.

عمل الرئيس صالح في السنوات التي تلت الحرب الأهلية على ترسيخ حكمه وحكم حزبه؛ المؤتمر الشعبي العام، مع دفع جميع عناصر القوة التي وقفت في طريقه إلى الهامش، بما في ذلك أعضاء “الإصلاح”. عيّن عبد ربّه منصور نائبًا له، وهو رجل عسكري سنّي، كان جنرالا في جيش الجنوب حتى انشقاقه ولجوئه إلى الشمال عام 1986. حتى نهاية التسعينيات عمل صالح وهادي سويّة، وفي نهاية ذلك العقد كان يبدو أنّ اليمن يرسم طريقه نحو تقليص الفقر والفوضى، من بين أمور أخرى، بفضل تسوية النزاعات بين جيرانه ومع الولايات المتحدة، وبفضل عائدات النفط التي بدأت بالتدفّق أكثر فأكثر إلى خزينة الدولة. في تلك السنوات، حدث أيضًا انخفاض معيّن في مستوى العنف بالبلاد.

https://www.youtube.com/watch?v=uDBXFRE9HyE

صعود الحوثيين

منذ نهاية عام 2000، بدأ اليمن بالانحدار إلى فوضى جديدة تشكّلت في البلاد. عزّز تنظيم القاعدة من حضوره، مع استغلاله لمزاياه بشكل تامّ: التضاريس التي تصعّب على السلطات الوصول إلى أراض واسعة في البلاد، حقيقة أن أصول عائلة بن لادن تعود لليمن، الفقر المدقع الذي يعاني منه معظم سكان البلاد، حقيقة أنّه في اليمن هناك لدى كلّ شخص تقريبا سلاح أيا كان، تيّار اللاجئين الكبير الذي وصل إلى اليمن من دول القرن الأفريقي واتجاهات التطرّف التي ظهرت في أوساط الأحزاب الإسلامية، وخصوصا حزب “الإصلاح”. أضعفت التفجيرات الكثيرة التي تم تنفيذها في أراضي اليمن ومن أراضي اليمن من قبل القاعدة، سواء ضدّ أهداف يمنية أو ضدّ أهداف أجنبية، شرعية حكومة صالح وجلبت معها تدخّلا عسكريا أجنبيا في اليمن.

في المقابل، بدأت – دون أن يلاحظ أحد تقريبا – تعمل في منطقة صعدة، المجاورة للحدود مع السعودية، حركة الحوثيين. قامت تلك الحركة في الواقع في بداية التسعينيات تحت مسمى “الشباب المؤمن” وكحركة اجتماعية – ثقافية تهدف إلى مواجهة تعزّز الحركات السلفية والتيارات الموالية للوهابية في منطقة صعدة والمنطقة المحيطة بها. وقد سعت إلى العمل من أجل تحسين أوضاع السكان اليزيديين الاقتصادية في تلك المنطقة. كان قائد الحركة حسين بدر الدين الحوثي، رجل دين كاريزماتي، والذي رغم كونه زيديا وليسا من التيار الشيعي الإثني عشري، مقبولا جدّا على إيران بل وأقام فيها لمدة طويلة، مع ربطه للعلاقات الوثيقة مع مسؤولي الحكومة الإيرانية، وعلى رأسهم المرشد الأعلى علي خامنئي.

أنصار الحوثيين يتظاهرون (Abdel Rahman Abdallah / AFP)
أنصار الحوثيين يتظاهرون (Abdel Rahman Abdallah / AFP)

في بداية العقد الماضي، كان الحوثيون لا يزالون حركة صغيرة، لم تزعج راحة السلطات اليمنية، ناهيك عن بقية الجهات الخارجية. بل وقد سعى الرئيس صالح، الذي أدرك بعد تفجيرات 11 أيلول 2001 بأنّ تنظيم القاعدة والتيارات الأصولية السنّية تشكّل خطرا على نظامه، إلى التقرّب من “الشباب المؤمن” وحسين بدر الدين الحوثي. في البداية، كان حسين وأنصاره راضين، ولكن بعد غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003 بدّلوا جلودهم وزعموا أن صلاح ونظامه من المتعاونين مع الأمريكيين. ومنذ ذلك الحين، بدأت الأمور بالتدهور. بين عامي 2004-2009، اندلعت ما لا يقلّ عن ستّ جولات من المواجهات المسلّحة بين القوات الموالية لعائلة الحوثيين وبين وجيش صالح. وقد قُتل حسين بدر الدين الحوثي في إحدى المعارك عام 2004 وحلّ مكانه كقائد للحركة أخوه، عبد الملك الحوثي.

“الربيع العربيّ” وطائر الفينيق: صالح يعود من جديد

تفكّك اليمن خلال العقد الماضي بسرعة وأصبحت سلطات البلاد غير فعالة إطلاقًا، ليس فقط ضدّ الحوثيين، وإنما أيضًا ضدّ تنظيم القاعدة، وبالطبع ضدّ القبائل الكبرى، التي قامت كلّ منها بما تراه مناسبا. وقد تسبّبت أحداث “الربيع العربيّ” التي بدأت عام 2010 في تونس واشتعلت كالنار في الهشيم في جميع أنحاء العالم العربي، في تدهور الوضع في اليمن بشكل أكبر. أصيب الرئيس صالح في 3 حزيران 2011 إصابة بالغة بنيران مدفعية استهدفت القصر الرئاسي. تمّ نقله لتلقي لعلاج في السعودية وبشكل مفاجئ جدّا عاد إلى بلاده بعد عدّة أشهر، وإنْ كان قد استقال من منصبه بسبب وضعه الصحّي والضغوط الكبيرة التي مورستْ عليه في 25 شباط عام 2012. حلّ مكانه الرئيس الحاليّ، عبد ربّه منصور هادي.

الرئيس اليمني المعترف به دوياً السيد عبد ربه منصور هادي (AFP)
الرئيس اليمني المعترف به دوياً السيد عبد ربه منصور هادي (AFP)

وخلافا لطرق تغيير النُظم الأخرى في العالم العربي، والتي يموت الحاكم السابق فيها، أو يرسل إلى السجن، أو يفرّ خارج البلاد أو يُطرد منها؛ فلم يحدث شيء من هذا مع صالح. رغم استقالته، ورغم إقامته لعدّة أشهر في السعودية والولايات المتحدة، عاد في النهاية إلى اليمن. فضلا عن ذلك، استمر في العمل السياسي، مع مواصلته لتولّي منصب رئيس حزب “المؤتمر الشعبي العام”، واستمرّ في التأثير والسيطرة على وحدات جيش عديدة، بواسطة أقاربه من الدرجة الأولى والثانية. في هذه الفترة، تحالف صالح، الذي اعتُبر لما يقارب الأربعين عاما وكأنه “طائر الفينيق” الذي يعرف كيف يقف على قدميه دائما، تحالف مع الحوثيين، رغم أحداث العقد الماضي، وأدار ظهره لحلفائه القدماء وعلى رأسهم حزب “الإصلاح” ورعاته السعوديين.

ميليشيات موالية للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي (AFP)
ميليشيات موالية للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي (AFP)

ويبدو أنّ تحالف صالح مع الحوثيين هو السبب الحقيقي لانتصاراتهم وتوسّعهم الإقليمي. قيل كثيرا عن الدعم بالمال والسلاح والذي يحصل عليه الحوثيون من إيران، ولكن على الرغم من أن الحديث هو فعلا عن مساعدة كبيرة تتدفّق على مدى أكثر من عشرة سنوات، فلم يكن باستطاعتهم الوصول إلى إنجازاتهم الحالية دون التحالف مع صالح، وقد منحهم هذا الحلف دعم وحدات النخبة في الجيش اليمني، التي كانت خاضعة لأقارب صالح بالإضافة إلى الحصول على الأسلحة الثقيلة، بما في ذلك الدبابات، الطائرات المقاتلة، الصواريخ والقذائف.

يوضّح الحلف الغريب – إنْ جاز التعبير – بين الحوثيين وصالح وأنصاره أكثر من أي شيء الواقع اليمني؛ وهو واقع تقوم فيه التحالفات أو تسقط انطلاقا من المصالح الضيّقة للقبيلة، الطائفة أو المجتمع، وليس انطلاقا من المصلحة الوطنية. علينا هنا أن نتذكر بأنّ صالح جاء من عشيرة زيدية، تنتمي إلى قبيلة سنحان؛ وهي إحدى القبائل الرئيسية في اتحاد قبائل حاشد، وعلى ضوء هذه المعطيات ربما يكون من الأسهل أن نفهم “المنعطف” الذي قام به صالح من الحرب ضدّ الحوثيين إلى دعمهم. استطاع صالح أن يدرك بأنّ لغة الحديث المسيطرة في اليمن اليوم هي دينية – طائفية، ولذلك كان من السهل عليه أن يضع نفسه في المعسكر الزيدي.

نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في موقع ميدا

اقرأوا المزيد: 1203 كلمة
عرض أقل