عيران يشيف

البروفسور عيران يَشيف من جامعة تل أبيب - متخصِّص في البحث وتدريس الماكرو - اقتصاد مع التشديد على مواضيع ذات صلة بسوق العمل. يُعنى بحثُه بالأسواق الماليّة، الهجرة، وأسواق العُملة الأجنبيّة. في السنوات الماضية، عمل البروفسور يَشيف مستشارًا للمصرف المركزي في إنكلترا وبنك إسرائيل في مواضيع ذات صلة بسوق العمل.
حلب تحت القصف المكثف (AFP)
حلب تحت القصف المكثف (AFP)

دمار سوريا الاقتصادي

المعطيات الاقتصادية القاتمة في سوريا: بين 150 ألفًا و470 ألفًا من الوفيات، نحو 1.88 مليون مُصاب، نحو 3.1 ملايين لاجئ، 1.2 مليون مُهاجِر، و6.4 ملايين نازح. 85 في المئة من السكّان تحت خطّ الفقر

صُدم العالم بمشاهدة صورة عمران دقنيش، ابن الأعوام الخمسة، الجالس صامتًا ومُصابًا في سيارة إسعاف. التُقطت الصورة في حيّ القاطرجي في مدينة حلب شمالي سوريا في الثامن عشر من آب المنصرم، بعد أقلّ من سنة على الصدمة المماثلة التي أثارتها صورة جثة آلان الكردي، ابن الثلاث سنوات، التي دفعها البحر إلى شاطئ بودروم التركية.

وتتحدث التقارير الإعلامية في الأشهر الماضية عن أسواق مقفلة، غياب الحليب، نقص في الأدوية، وصعوبات متزايدة في الحصول على الطعام في الأحياء الشرقية من حلب، التي يسيطر عليها الثوّار ويقطنها نحو 275 ألف شخص. ويُقدَّر أنّ أكثر من مليون مواطن آخر في منطقة حلب يُعانون من صعوبات ناتجة عن الأزمة. لا ريب أنّ الصُّوَر والتقارير الإخبارية القاسية تُثير المشاعر أكثر من نقل جافّ للوقائع. مع ذلك، من المهمّ انتهاز لحظات الوعي المرتفع للفت الانتباه إلى أبعاد الدمار اللاحق بالاقتصاد السوري المتهاوي إثر النزاعات، وإلى العواقب الاستراتيجية لهذا الدمار.

لطالما كان الاقتصاد السوري ضعيفًا، حتّى قبل اندلاع الحرب. فقد كان الناتج المحلي الإجمالي للفرد أقلّ من 3000 دولار سنويًّا – أقلّ من الأردن ولبنان المجاورَين. الاقتصاد السوري متعلّق بشدّة بالنفط (نصف التصدير وخُمس مداخيل الحكومة). الزراعة في البلاد توفّر خُمس الناتج المحلي الإجمالي – أكثر بكثير من حصّتها في اقتصادات البلدان المتقدّمة. ومن نقطة الانطلاق الضعيفة هذه، تهاوى الاقتصاد السوري أكثر. فالأرقام المتعلقة بأبعاد الدمار خلال السنوات الخمس الماضية لا يستوعبها دماغ.

الناتج المحلي الإجمالي للفرد هبط إلى أقلّ من ثلث ما كان قبل الحرب، ما يضع سوريا اليوم في المكان الـ 225 في العالم. وللتوضيح فقط، أصبح الناتج المحلي الإجمالي للفرد أقلّ من ذاك الذي في قطاع غزّة أو حتّى أفقر الدول الإفريقية. تُقدَّر خسارة الناتج المحلي المتراكمة بما يزيد عن 160 مليار دولار، فيما هبط إجمالي رأس المال في سوريا إلى 43 في المئة من مقداره قبل الحرب. يعني ذلك أنّ لدى سوريا اليوم أقلّ من نصف الوسائل التي كانت تمتلكها قبل الأزمة – من حيث الآلات، المعدّات، المباني، وسائر البنى الجسدية – التي يمكن للاقتصاد بواسطتها أن يُنتج غلّاته. وهذه المعطيات مقلِقة بشكل خاصّ حين يكون الاقتصاد ضعيفًا، قيمة رأس المال الجسديّ فيه بالغة الأهمية.

3.1 ملايين لاجئ، 1.2 مليون مهاجر، و6.4 ملايين نازح داخل سوريا (AFP)
3.1 ملايين لاجئ، 1.2 مليون مهاجر، و6.4 ملايين نازح داخل سوريا (AFP)

والأسوأ من ذلك هو هرب الناس، الذي تجسّده صُوَر كثيرة مطبوعة في الذاكرة. فعدد السكّان في سوريا هبط من 21.8 مليونًا عام 2010 إلى 20.2 مليونًا نهاية العام 2015. من الجدير بالذكر أنّه لولا الحرب، كان يُفترَض أن يبلغ عدد السكان اليوم نحو 25.6 مليونًا. تتراوح تقديرات الوفيات المرتبطة بالحرب بين 150 ألفًا و470 ألف إنسان. فيما يُقدَّر عدد المُصابين حتى نهاية عام 2015 بنحو 1.88 مليون. يعني ذلك أنّ 11 في المئة من سكّان سوريا قُتلوا أو أُصيبوا جرّاء الحرب. فضلًا عن ذلك، تتحدث تقديرات نهاية 2015 عن 3.1 ملايين لاجئ، 1.2 مليون مهاجر، و6.4 ملايين نازح داخل سوريا. في هذه الأثناء، يعيش 85 في المئة من السكّان تحت خطّ الفقر، وتبلغ نسبة البطالة نحو 53 في المئة. وإذا تناولنا الموضوع من ناحية اقتصادية بحتة، من حيث الإنتاج والدخل، يعني ذلك ضررًا كبيرًا جدًّا بقوّة العمل، لا برأس المال فقط. غادر الكثيرون، ومَن بقوا يعملون أقلّ بكثير ويتعلّمون أقلّ بكثير. فوفق إحدى التقديرات، ذهب أكثر من 16 ألف سنة تعليمية هباءً منثورًا، في جميع المراحل الدراسية. وترجم تقرير حديث لليونيسيف الخسارة في الموارد البشرية إلى 10.5 مليارات دولار، إثر الخسارة المتعلقة بتعليم الأولاد والشبّان السوريين.‎ ‎

الآثار الاستراتيجية هائلة. فمع الدعم الخارجي، سيحتاج الاقتصاد السوري إلى عُقود ليعود إلى سابق عهده قبل الحرب. وسيكون شكل المساعدات وحجمها عاملَين رئيسيَّين في تحديد مدّة التعافي. بعض الأضرار لا يمكن تعويضه، مثل الأشخاص الذين فرّوا من البلاد وقد لا يعودون إليها مطلقًا، وكذلك السنوات الدراسية العديدة التي فُقدت دون عودة. أمّا الضرر اللاحق بالموارد المادية والبشرية فهائل جدًّا، بحيث يبدو أنّ مئات ملايين الدولارات لازمة لإصلاحه. يُشير صندوق النقد الدولي إلى مثالَين لحرب وتعافٍ حدثا في الإقليم في الفترة الماضية: “احتاج لبنان الذي عاش 16 سنة من الحرب إلى 20 سنة لاستعادة مستوى الناتج المحلي الإجمالي الذي سبق الحرب، فيما احتاج الكويت […] إلى سبع سنوات للوصول إلى الناتج المحلي الإجمالي الذي كان فيه قبل الحرب” إثر الغزو العراقي وحرب الخليج. لكنّ الضرر في سوريا أكبر بكثير، ونطاق مواردها الذاتية أضيق بكثير. يقدّر صندوق النقد الدولي أنّه ستنشأ حاجة إلى 20 سنة من التعافي. بناءً على ذلك، ستحتاج سوريا، حتى في أفضل الأحوال، إلى فترة طويلة جدًّا للعودة إلى وضعها السابق (الضعيف) الذي سبق اندلاع الحرب الأهلية.‎ ‎

التأثير الملحوظ الآخر لهذه التقديرات هو أنّ لسوريا موحّدة إمكانيات واعدة أكثر للتعافي من سوريا مقسّمة، خصوصًا من حيث تعافي الاقتصاد، إذ إنّ العالم لن يُسارِع إلى تقديم دعم خارجي لمناطق منفصلة عنها، كتلك التي تسيطر عليها “الدولة الإسلامية” (داعش). بالمقابل، ستكون الصعوبات الاقتصادية الهائلة مصدرًا دائمًا للصراعات وتجعل الوحدة قضية شائكة أكثر.

النتيجة هي أنّ سوريا لن تعود الخصم الثابت الذي اضطُرّت إسرائيل إلى مواجهته، سواء في ميدان الحرب أو على طاولة المُفاوَضات؛ فهذا الثبات يُستبعَد أن يعود في المستقبل القريب. لكن، كما تُعلّمنا تجربة لبنان، ليس الخصم الضعيف والمفكّك أمرًا جيّدًا بالضرورة. فبالنسبة للمعنيّين بتسوية النزاع بين إسرائيل وسوريا، يمكن القول إنّ احتمالات الحلّ المقبول انخفضت بشكلٍ ملحوظ. بطبيعة الحال، يؤثر ذلك في علاقات إسرائيل بباقي العالم العربي، لا سيّما لبنان.‎ ‎

وإذا تأملنا في الصورة الأكبر، يمكن القول إنّ الدمار في سوريا يُعطي معنى جديدًا لفكرة “الدّول الفاشلة”. فليس فقط أنّ سوريا تفكّكت إلى أجزاء، بل يغيب فيها النشاط الاقتصادي أيضًا. وفي ظروفٍ كهذه، يُرجَّح أن لا يؤدي اتفاق سياسي بين الأطراف المتنازعة، ولا انتصار أحدها على خصومه، إلى شقّ طريق إعادة الدولة المفكّكة والمدمّرة إلى السكة الصحيحة. ولا شكّ أنّ التفاعلات بين الصراعات الطائفية العميقة وبين الدمار الاقتصادي المتعدد الأبعاد ستلعب دورًا مركزيًّا في مستقبل سوريا، الذي يبدو قاتمًا جدًّا في الوقت الحالي.

نشر هذه المقالةَ للمرة الأولى معهد دراسات الأمن القومي INSS

اقرأوا المزيد: 895 كلمة
عرض أقل
تهريب مواد غذائية عبر الأنفاق بين رفح المصرية وقطاع غزة (AFP)
تهريب مواد غذائية عبر الأنفاق بين رفح المصرية وقطاع غزة (AFP)

الجانب الاقتصادي في عملية “الجرف الصامد”: حاسم لفهم الصراع، وحاسِم لحلّه

المدماك الاقتصادي حاسم في أيّ حل قابل للحياة.‎ ‎نشاط رئيس الحكومة الفلسطينية سلام فيّاض، في الضفة الغربية بين عامَي 2007 و2013، دليل على أنّ التقدّم الاقتصاديّ الملحوظ ممكن حين تُدير عناصر مهنيّة الإجراءات

اندلعت الحرب بين إسرائيل وحماس في غزة في أعقاب عددٍ من الأحداث، شملت اختطاف الشبّان وقتلهم، عمل الجيش الإسرائيلي في “إعادة الإخوة” (شوفو أحيم) بما في ذلك اعتقال عدد من المُطلَق سراحهم في صفقة شاليط، القتل الانتقاميّ للشابّ العربيّ، والهيجان جرّاء هذه الأحداث.

تُظهر حركة حماس تصميمًا في قتالها ضدّ إسرائيل، في ظروفٍ إقليمية متغيّرة. تهدف هذه المقالة إلى الإشارة إلى أنّ ثمة مدماكًا اقتصاديًّا هامًّا في عملية “الجرف الصامد” – تموز 2014، هو الوضع الاقتصادي في القطاع. لهذا السبب، المدماك الاقتصادي حاسم أيضًا في أيّ حل قابل للحياة.‎ ‎

الوضع الاقتصادي في غزة عشيّة الحرب

طفل فلسطيني أمام مقر الأونروا في قطاع غزة (Flash90/Abed Rahim Khatib)
طفل فلسطيني أمام مقر الأونروا في قطاع غزة (Flash90/Abed Rahim Khatib)

يقطن في غزة 1.76 مليون نسمة في كثافة سكّانية هي الثالثة في العالم – نحو 4800 إنسان في الكيلومتر المربَّع. البنى التحتيّة في غزة وضعُها مُتردٍّ، ولذلك حتّى في الأوقات العاديّة ثمة توقّف وتشويشات في أنظمة حيوية كالكهرباء، الماء، والصّرف الصحيّ. في سوق العمل بطالة مرتفعة، إذ كانت نسبة البطالة نحو 41% في الربع الأوّل من عام 2014 لأبناء 15 عامًا فما فوق، مقابل 26% في الضفة. بين الشبّان الذين يبلغ عمرهم 15 – 29 عامًا، يُشارك 39% فقط في القوّة العاملة، بينهم 32% يعملون، 10% في بطالة مُقنَّعة، و58% عاطلون عن العمل. أمّا المعطيات الموازية في الضفة الغربية فهي: 42% مشاركة، بينهم 63% يعملون، 9% في بطالة مُقنَّعة، و29% عاطلون عن العمل.

يقطن في غزة 1.76 مليون نسمة في كثافة سكّانية هي الثالثة في العالم

في ظروفٍ كهذه، لا إمكانية للإنتاج على نطاق ذي مغزى. وفق معطيات البنك الدولي، الناتج للشخص في غزة هو نحو 1500 – 1600 دولار سنويًّا، مقابل نحو 3100 – 3200 دولار في الضفة. في التصنيف العالميّ، غزة موجودة في المرتبة 174 بين 223 دولة. بالمقارنة، في إسرائيل، الموجودة في المرتبة 32 في هذا التصنيف، الناتج هو نحو 36000 دولار للشخص في السنة.

بالتالي، معطيات الفقر هي: 39% دون خطّ الفقر (مقارنة بـ 18% في الضفة)، علمًا أنّ خطّ الفقر يبلغ 2293 شاقلًا جديدًا شهريًّا لأسرة من خمسة أنفار. أمّا الذين يرزحون تحت فقر مدقع فيبلغون 21% (مقارنةً بـ 8% في الضفة)، إذ يبلغ خطّ الفقر المدقع 1832 شاقلًا جديدًا شهريًّا. ليس صعبًا فهم مستوى الحياة الممكن حين يبلغ دخل كلّ نسمة 400 شاقل جديد شهريًّا (نحو 4 دولارات في اليوم).

الوضع الاقتصادي كمُحرِّك للحرب

أطفال غزيون يعملون لكسب لقمة العيش (Flash90/Ahmad Kateib)
أطفال غزيون يعملون لكسب لقمة العيش (Flash90/Ahmad Kateib)

بادئ ذي بدء، كثيرًا ما تدفع الضائقة الاقتصادية الأمم إلى مواجهة عسكرية أو عدوانيّة أخرى. ثانيًا، تَدَهْوَرَ الوضعُ الاقتصادي، السيء أصلًا، في الفترة الأخيرة، مع انتقال السلطة في مصر وعمل النظام الجديد ضدّ الأنفاق والمعابر، وتشديد إسرائيل الخناق على غزة. في الواقع، تُعاني غزة من عقوبات اقتصادية قاسية من مصر وإسرائيل. وثالثًا، فضلًا عن القيود على الاقتصاد عامّةً، طرأ هبوط على الدعم الماليّ لحماس من جانب إيران وسوريا، ما أدّى إلى صعوبة في تسديد الرواتب في القطاع العامّ في غزة.

وفق معطيات البنك الدولي، الناتج للشخص في غزة هو نحو 1500 – 1600 دولار سنويًّا، مقابل نحو 3100 – 3200 دولار في الضفة. في التصنيف العالميّ، غزة موجودة في المرتبة 174 بين 223 دولة

ليس صُدفةً أنّ مطالب حماس في المفاوضات حول وقف إطلاق النار، كما في المفاوضات مع فتح حول تأليف حكومة مصالحة، تطرّقت إلى “الحصار” على غزة وفكّه. الأنفاق إلى سيناء هي ردّ الفعل “الطبيعيّ” على حالة العزل الاقتصادي. ويُحتمَل جدًّا أن تكون الأعمال التي آلت إلى تفاقُم هذا الوضع وغياب حلول له، عائدةً إلى أخطاء في سياسة إسرائيل.

دور الديمغرافية

نسبة اليطالة في قطاع غزة يصل ال- 40% (Flash90/Wissam Nasser)
نسبة اليطالة في قطاع غزة يصل ال- 40% (Flash90/Wissam Nasser)

السكّان في غزة شبّان إلى حدّ كبير: فالجيل المتوسّط هو 17 عامًا؛ وثلاثة أرباع السكّان هم دون التاسعة والعشرين. معظم السكّان لا يعرفون بلادهم سوى كمكان تراجُع اقتصادي وصراع مع إسرائيل.

عشيّة الانتفاضة الأولى (كانون الأول 1987)، عمل أكثر من 50% من رجال غزة في إسرائيل، التي شكّلت مصدر دخل هامًّا للاقتصاد الغزيّ. مذّاك، حدث عدد من المواجهات الدمويّة (الانتفاضة الثانية، حرب لبنان الثانية (حرب تموز)، وعمليّتا “الرصاص المصبوب” و”عمود السحاب”). احتمالات انخفاض شدّة المواجهة، ناهيك عن احتمالات السلام، تنخفض مع تراكُم هذه الأحداث في ذاكرة السكّان الشبّان.

اقتراحات لحلّ قابل للحياة

أحد المقاييس الأهمّ للحلّ هو التحسّن الملحوظ في الوضع الاقتصادي. إذا كان للغزيّين ما يخسرونه، ينخفض كثيرًا استعدادُهم للمواجهة. على الحلّ البعيد المدى أن يشمل تغييرًا أساسيًّا في الظروف الاقتصادية السائدة في غزة. ويمكن أن يؤدي الازدهار الاقتصاديّ إلى انخفاض في قوّة حركة حماس والحركات الإسلاميّة الأخرى. ‏

عشيّة الانتفاضة الأولى (كانون الأول 1987)، عمل أكثر من 50% من رجال غزة في إسرائيل، التي شكّلت مصدر دخل هامًّا للاقتصاد الغزيّ

لدى غزة إمكانيّات اقتصادية: تطوير السياحة على طول الساحل، تطوير الخدمات (بما فيها الدخول إلى مجالات التقنيّة المرتفعة كما حدث بين عرب إسرائيل في الشمال)، واستخراج الغاز (إثر اكتشاف حقل غاز بحريّ كبير عام 1999). على المديَين القصير والمتوسّط، يمكن توجيه استثمارات كبيرة وتشغيل عمّال في مجال تطوير البنى التحتيّة الماديّة والخدمات العامّة.‎ ‎

من الحيويّ التشديد: يُقصَد بـ “التغيير الأساسيّ” التقدُّم حقًّا، وليس فقط “تخفيف الحصار” وفتح بعض المعابر إلى حدٍّ ما. يُطلَب إنشاء تقنيات دولية جديدة لتطبيق التغيير، تستلزِم توافُق دول وهيئات دوليّة للتقدُّم للمهمّة. القصد هو إنشاء هيئات هادفة ذات قوى بشريّة ومعرفة مهنيّة. إذا لم تنَل الأمور تجسيدًا تفصيليًّا مُحدَّدًا ومَحسوسًا، فستتلاشى ولن يحدث التحوُّل المطلوب.

مِن أجل تحقيق ذلك، تُطلَب المكوّنات الخمسة التالية: التدخُّل الدولي؛ الترميم وبناء البُنى التحتيّة؛ التمويل، الإشراف على الإنفاق، والأمن.

التدخُّل الدولي

لن تتقدّم الأمور إذا كانت العناصر الفاعلة في المنطقة حتّى الآن في الإقليم صاحبة الكلمة الفصل. فوحدها التغطية الدولية التي تُؤمِّن الهدوء وتمنح المهارات اللازمة تُتيح التغيير الكبير المطلوب.

الترميم وبناء البُنى التحتيّة

يحصل أغلب سكان القطاع على كهرباء فقط لنصف ساعات اليوم (AFP)
يحصل أغلب سكان القطاع على كهرباء فقط لنصف ساعات اليوم (AFP)

في موازاة ترميم ما هُدم في تموز 2014، يجب بدء ترميم البنى التحتيّة وإنشاء البنى التحتيّة الناقصة. يمكن أن تُنشئ هيئة دوليّة، مثل البنك الدولي، قوّة مهمّة تستطلع الوضع وتُحدِّد سلّم أولويّات وفق الزمن. يمكن التوقّع أنه خلال 3 سنوات (من بدء العمل)، يمكن جعل غزة مكانًا معقولًا من جهة البنى التحتيّة الاقتصاديّة، وخلال 6 – 8 سنوات مكانًا جيّدًا. على سبيل المثال، يمكن أن يحدث ذلك بتشغيل العُمّال المحليّين العاطلين عن العمل. من الهامّ جدًّا أن تكون الآليّة تحت سيطرة دوليّة، تستخدم خبراء خارجيين، وتنشر عملها بشكلٍ واضح وشفّاف. سيعزِّز النشر التغيير الحيويّ في الوعي للتقدّم الاقتصادي في القطاع.

فضلًا عن كلفة ترميم المنازل والمباني التي هُدمت، ثمة حاجة إلى استثمار في البنى التحتيّة بمقدار نحو 800 مليون حتّى مليار دولار سنويًّا في كلٍّ من السنوات الثلاث القادمة، واستثمار نحو نصف مليار دولار سنويًّا في السنوات الثلاث – الخمس التي تليها. سيكون بناء المنازل والمباني التي هُدمت بمستوى أعلى بكثير ممّا كانت عليه قبل هدمها خُطوة إيجابية؛ فيمكن أن يغيّر هذا العمل إيجابًا دعم السكّان للنموّ الاقتصادي.

التمويل

على الحلّ البعيد المدى أن يشمل تغييرًا أساسيًّا في الظروف الاقتصادية السائدة في غزة. ويمكن أن يؤدي الازدهار الاقتصاديّ إلى انخفاض في قوّة حركة حماس والحركات الإسلاميّة الأخرى

يأتي تمويل تطوير اقتصاد غزة من الدول العربية والدول الغربية الغنيّة. من الحيويّ وجود تنوُّع من الدول المانِحة، لتبديد المخاطر. في البداية، يمكن فعل ذلك عبر صندوق طوارئ بإدارة البنك الدولي. على المديَين المتوسّط والطويل، يمكن إنشاء مصرف يهدف إلى تطوير غزة، وفق معيار المؤسسات الموازية في العالم، على سبيل المثال مثل المؤسسات التي أُنشئت في أوروبا الشرقية في التسعينات بُعيد انهيار الكتلة السوفياتيّة.‎

الإشراف على الإنفاق

إنّ إحدى القضايا المركزيّة هي خشية إسرائيل من أن يجري استغلال الأموال المنقولة إلى غزة لأهدافٍ عسكريّة. تجسّدت هذه الخشية، بشكلٍ بارز، في استخدام موادّ البناء لإنتاج أنفاق الإرهاب (تحت الحصار الإسرائيلي). جرى حلّ هذه المسألة في حالات مشابهة. فحين اكتشف البنك الدولي وهيئات مؤسّسية أخرى أنّ المساعَدة لم تصل إلى غايتها، أنشأوا تقنيّات لنقل المساعَدة بشكلٍ مباشرٍ إلى هدفها، عبر اشتراط الحصول عليها بمراحل تقدُّم المشاريع. يمكن تطبيق هذه المنهجيّات في حالة غزة أيضًا، عبر عناصِر عربيّة مُعتدِلة وعناصِر دوليّة.

الأمن

لا يُمكِن تطبيق الخطوات المذكورة آنفًا إذا نشبت جولات عُنف. ويمكن أن تشكّل قوّة الشرطة الدوليّة مساعَدةً كبيرة في السنوات الأولى، لا سيّما إذا تعاونت مع الآليّات التي جرت مناقشتها أعلاه، مثل قوّة المهمّة التابعة للبنك الدوليّ.‎ ‎

في الخِتام، يجدر ذِكرُ أنّ نشاط رئيس الحكومة الفلسطينية سلام فيّاض، في الضفة الغربية بين عامَي 2007 و2013، دليل على أنّ التقدّم الاقتصاديّ الملحوظ ممكن حين تُدير عناصر مهنيّة الإجراءات.

إنّ فكرة كون التقدّم الاقتصاديّ يمنع حربًا راسخةٌ في أوروبا، وجرى تطبيقُها بنجاحٍ في النصف الثاني من القرن العشرين. جرى ذلك بعد أن شهد النصف الأوّل من القرن حربَين عالميّتَين. والعكس صحيح أيضًا: تؤول الضائقة الاقتصاديّة إلى النزاع وسفك الدماء.

نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في موقع INSS‏‏

اقرأوا المزيد: 1283 كلمة
عرض أقل