عيران صدقياهو

وتيرة الحياة في غزة: نظرة من الداخل (AFP)
وتيرة الحياة في غزة: نظرة من الداخل (AFP)

وتيرة الحياة في غزة: نظرة من الداخل

عزة مُنهارة، سُكانها مُحبطون لكنهم لا يستسلموا، وإسرائيل تُفضّل أن تخوض مفاوضات سرية مع حماس بدلا من إجراء مفاوضات مكشوفة مع السلطة الفلسطينية. كيف تسير الحياة في غزة؟

تستند هذه المقالة إلى مقابلة أجراها عيران صدقياهو، باحث مُشارك في موقع Can Think وخبير بشؤون القوميات الدينية في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الذي التقى مؤخرًا مع مسؤول دولي يتواجد كثيرًا في غزة، يعرف المدينة جيدًا، ولديه علاقات كثيرة ومتشعبة داخل القطاع.

“لكي نفهم طبيعة أهل غزة علينا أن نعرف ما الذي يفرض وتيرة حياتهم اليومية؛ أشياء أساسية تدور الحياة في غزة حولها. لا شيء هناك هو مفروغ منه، وواقع الكهرباء هو الذي يفرض وتيرة الحياة”.

ضائقة الكهرباء

الكهرباء مُتاحة، في غزة، في مناوبات 8*8، ثماني ساعات كهرباء مقابل ثماني ساعات دون كهرباء (AFP)
الكهرباء مُتاحة، في غزة، في مناوبات 8*8، ثماني ساعات كهرباء مقابل ثماني ساعات دون كهرباء (AFP)

“تكون الكهرباء مُتاحة، في أفضل الأيام، في مناوبات 8*8، ثماني ساعات كهرباء مقابل ثماني ساعات دون كهرباء. هنالك تناوب طوال الأسبوع: إن كانت يوم الإثنين، مثلاً، تتوفر الكهرباء من الساعة السادسة صباحًا حتى الثانية ظُهرًا، إذًا حتى العاشرة ليلاً لن يكون هناك كهرباء ومنذ تلك الساعة حتى السادسة صباحًا ستكون الكهرباء متوفرة. بهذا يكون هناك كهرباء في صباح يوم ما وفي صباح اليوم التالي لن تكون هناك كهرباء إلا بعد ظهر ذلك اليوم. لو فكرنا بالأمر، فتوفر الكهرباء معناه توفر الماء الساخن، البريد الإلكتروني، العمل، أشياء كثيرة. إذا، يعيش الناس في غزة بموجب وتيرة الكهرباء. إن بدأ تيار الكهرباء بالتدفق في ساعة مُعيّنة، عندها يترك الناس كل شيء ويذهبون إلى البيت أو العمل. إن كان التيار الكهربائي متصلا في منتصف الليل، عندها ستفتح الحوانيت أبوابها في منتصف الليل بسبب توفّر الكهرباء”.

“هناك في غزة شركة كهرباء واحدة ومحطة توليد قديمة تعمل على الديزل، مُولّد كهربائي ضخم. تم تدمير هذه المحطة خلال جولات الحروب السابقة، ولكن، في عملية “الجرف الصامد” لم يتم تدميرها كُليًّا بل تم تفجير خزان واحد فقط من خزاناتها الرئيسية. استغرق تصليح الخزان المُدمر ثمانية أشهر، تقريبًا. تُوفر هذه المحطة نحو 40% من الكهرباء في القطاع ولكن ذلك مُرتبط بعملية تزويد وقود، مُنظمة. تم، منذ تسلم عبد الفتاح السيسي للرئاسة في مصر في منتصف العام 2013، إغلاق 95% تقريبًا من الأنفاق بين غزة ومصر. وتوقفت، على إثر ذلك، عملية التزويد المُنظمة للوقود الرخيص للقطاع ولذلك زادت الحاجة إلى الوقود الإسرائيلي. ولكن الوقود الإسرائيلي باهظٌ جدًا، ضعف سعر الوقود المصري، وذلك، من بين أسباب أخرى، بسبب الضرائب الثلاثية عليه – إسرائيل، السلطة الفلسطينية وحماس. والنتيجة هي أن سعر لتر الوقود في القطاع يُمكن أن يكون أغلى من سعره في إسرائيل ذاتها، حيث مستوى الفقر في غزة أعلى بكثير. وأيضًا، الوقود الإسرائيلي نقي ونظيف جدًا، حيث أنه من جهة هو أفضل بكثير للمحركات ولكنه يحترق بسرعة كبيرة بالمقارنة مع الوقود المصري، الذي ربما يكون مُلوثًا إلا أنه يحترق بشكل أبطأ. إذا، ليس أن الاستهلاك هو أكثر بمرتين، بل إن الوقود يحترق بسرعة كبيرة أيضًا. هذا يعني أن قلة فقط من الناس يُمكنهم شراء الوقود في غزة. يحتفظون في المؤسسات الكبيرة وفي المباني الضخمة بمولدات كهرباء خاصة بهم للتعويض عن النقص بالوقود. إنما مرة أُخرى – قلة من الناس فقط يمكنهم الحصول على طاقة كهربائية في غزة”.

تُزود محطة الطاقة في غزة نحو 40% من استهلاك الكهرباء في القطاع، وكما تُوفر مصر أيضًا ما بين 10% – 15% من الكهرباء لمنطقة رفح، ولكن هذا الخط تعطل مؤخرًا وانقطعت الكهرباء عن رفح لمدة طويلة. لا أعرف ما هي حال ذلك الخط الآن. تُزود إسرائيل القطاع بنحو 40% – 50% من استهلاك الكهرباء، الأمر الذي يُعطيها القوة للتحكم بذلك. فهناك مشكلة ديون، وبين الحين والآخر، تخرج أصوات في إسرائيل تقول: “نحن نُعطي غزة الكهرباء مجانًا”. يجب إدراك ذلك: يطمح سكان غزة للاستقلال من ناحية الطاقة ولكنهم، ببساطة، لا يستطيعون”.

“تضرر الكثير من خطوط الكهرباء خلال عملية “الجرف الصامد”، نتيجة تحرك المدرعات الإسرائيلية ونتيجة عمليات الحفر التي قام بها الجيش الإسرائيلي بحثًا عن الأنفاق. أدى ذلك الأمر إلى المس بعملية تدفق الكهرباء إلى القطاع طوال أسابيع. حتى أن شركة الكهرباء الإسرائيلية قامت بإصلاح البنية التحتية المُدمرة على حدود غزة لئلا يؤدي الأمر إلى انقطاع تام للكهرباء، وهذا لأسباب إنسانية. لم يعد التيار الكهربائي، في الشهر الأول بعد نهاية عملية “الجرف الصامد”، إلى نظام 8*8 إلا لمدة نحو 3 – 5 ساعات من توفّر الكهرباء في مدينة غزة ومن ثم كانت فترة 18 ساعة، تقريبًا، فترة انقطاع عن توفّر الكهرباء، إلى أن أصلحوا البنية التحتية. لا شك أن هذه ليست معلومات دقيقة – أحيانًا ينقطع التيار الكهربائي في الساعة الخامسة، وأحيانًا أخرى في الخامسة إلا ربع. حاول أن تعيش هكذا لمدة أسبوع واحد وربما حينها يُمكننا أن تفهم شكل الحياة في القطاع. هذه الأمور، البسيطة وكأنها هي التي ترسم حياتهم”.

رواتب جزئية ومشاكل بتدفق الميزانيات

عناصر تابعة لعز الدين القاسم، الذارع العسكري لحركة حماس في ذكرى النكبة (AFP)
عناصر تابعة لعز الدين القاسم، الذارع العسكري لحركة حماس في ذكرى النكبة (AFP)

“موضوع آخر يتحدث عنه الجميع في غزة وهو دفع الرواتب. يعتمد قطاع غزة، ومنذ سنوات عديدة، على الدعم الدولي والكثير من سكانه هم من اللاجئين، بحيث أن نسبة البطالة فيه عالية جدًا. القطاع العام والأونروا هما المُشغّلان الأهم في قطاع غزة. بعد طرد السلطة الفلسطينية من غزة، عام 2007، تحوّل نحو 70 ألف من موظفيها إلى عاطلين عن العمل. لكن حكومة رام الله ما زالت تصرف لهم رواتبهم، على الرغم من عدم ذهابهم إلى العمل، لأن أهم الجهات المانحة للسلطة الفلسطينية تعتبر حماس مُنظمة إرهابية والسلطة الفلسطينية لديها مصلحة بعدم خروج رجالها في غزة للعمل. عدا عن ذلك، فهناك لدى السلطة مصلحة بخلخلة مؤسسات حماس وقدرة التنظيم على إدارة القطاع أيضًا”.

“قامت حماس، من جهتها، بتجنيد نحو 40 ألف عامل جديد، الأمر الذي خلق وضعًا جديدًا وهو أنه خلال السنوات التي مرت منذ ثورة حماس في القطاع، يكون هناك موظفان اثنان لوظيفة واحدة: واحد يجلس في البيت ويحصل على راتب من السلطة الفلسطينية والآخر يذهب إلى العمل ويتقاضى راتبه من حماس. بدأت حماس تعاني من مشاكل خانقة من ناحية الميزانيات، وذلك منذ تم تشديد الحصار المصري على القطاع في أواخر عام 2013، الأمر الذي أدى إلى تقليص الرواتب بمعدل النصف. يُضاف إلى ذلك أيضًا انقطاع التواصل مع إيران بسبب الحرب الأهلية الدائرة في سوريا، الأمر الذي أدى كذلك إلى تضرر تدفق الميزانيات”.

“هناك في القطاع العام، في قطاع غزة، فئتان من العمال: موظفون في الجهاز الأمني وموظفون حكوميون عاديون. تلقى موظفو الدولة العاديون، حتى ربيع عام 2014، نصف رواتبهم وحصل موظفو الأمن على رواتبهم كاملة. لقد وافقت حركة حماس على التوقيع على اتفاق وحدة مع السلطة الفلسطينية في نيسان، من العام ذاته، رغبة منها بأن تجعل السلطة في رام الله تتحمل مسؤولية أزمة الرواتب في القطاع. إلا أن مصالح حركة حماس لن تتمثل بشكل ملائم في حكومة الوحدة، وفي نهاية أيار 2014 تم دفع رواتب موظفي السلطة في القطاع ولكن لم يتم دفع رواتب موظفي حماس. فسرت حماس اتفاق المصالحة على أنه التزام من قبل السلطة بدفع كل الرواتب، إلا أن رأي السلطة هو أنها ليست مُلزمة بدفع رواتب موظفي الدولة الذين جندتهم حماس وأن على حماس أن تُعيد موظفي السلطة للعمل على حساب موظفيها. وُضعت تلك الأزمة جانبًا، على إثر عملية “الجرف الصامد”، ولكنها عادة الآن لتطفو على السطح”.

“حصل موظفو حماس، في شهر تشرين الأول من العام 2014، على دفعة معونة إنسانية، لمرة واحدة، بقيمة 1200 دولار للموظف على إثر إنشاء آلية مُشتركة بين حماس، السلطة، قطر، إسرائيل والأمم المُتحدة: قامت قطر بتحويل المال إلى الأردن والأمم المُتحدة قامت بنقل الأموال من هناك إلى إسرائيل، ضمن قافلة تم تأمينها بشكل جيد، إلى حاجز إيريز ومن هناك إلى فروع البريد المُختلفة في أنحاء القطاع. توجه موظفو حماس إلى هناك ليتسلموا رواتبهم. تفاقمت الأوضاع، منذ نهاية 2014، بعد تجميد أموال السلطة، التي أدت إلى تقليص الرواتب التي دفعتها. حتى عندما حررت إسرائيل الأموال قامت باسترجاع الديون، مثل الديون الفلسطينية لشركة الكهرباء. باختصار، لا يحصل الكثير من سكان غزة، منذ عام ونصف، على رواتبهم الكاملة، المُنخفضة أساسًا. الحالة عبثية وتصل إلى حد السخرية، لكن هذا يُعطيك فكرة عن واقع الحياة في القطاع”.

القيود على حرية الحركة والشعور بالاختناق

معبر رفح البري على حدود القطاع ومصر (AFP)
معبر رفح البري على حدود القطاع ومصر (AFP)

“الأمر الثالث الذي يفرض وتيرة الحياة في قطاع غزة هو تقييد الحركة. تم فتح المعبر الواقع بين رفح والقطاع، منذ تشرين الأول عام 2014، فقط بضعة أيام، وغالبًا لعبور الأجانب، طلاب من غزة يدرسون في الخارج ولحالات إنسانية. في الجانب الإسرائيلي، عند معبر إيريز، على الرغم من زيادة عدد التصاريح المُعطاة، يحصل القليلون فقط على التصريح المنشود. يُمكن القول عمومًا إن من يُولد في غزة، في السنوات الأخيرة، يعيش ولديه شعورًا أنه لن يخرج من غزة طوال حياته”.

“الشيء العجيب هو أنه على الرغم من كل شيء نجد أن الكثيرين من السكان في غزة يديرون حياتهم اليومية. هناك محامون، طلاب وطالبات، رجال أعمال، فنانون وفنانات. الصورة المأخوذة عن غزة هي أن أطفالها حفاة وفقراء ويتجولون بين رُكام البيوت، وأن حياتهم مقرفة وأنهم يُصارعون من أجل تأمين قُوتهم اليومي لكي يعيشوا ليوم إضافي. ولكن، عندما نلتقي الناس في غزة نُدرك أننا أمام أشخاص عاديين، يعيشون حياة عادية، يتزوجون ويعملون وأن لديهم طموحات بالنجاح والتقدم كما في أي مكان في العالم. القيود على الحركة هي بمثابة تراجيديا كبيرة، لأن المجتمع في غزة متطور ويُدرك ما يدور حوله في العالم. إن حالة الإحباط التي يعيشها سكان غزة، بسبب عدم قدرتهم على ترك القطاع، كبيرة وتُغذي بدورها السياسة الراديكالية”.

نُشرت هذه المقالة لأول مرة على موقع Can Think

اقرأوا المزيد: 1373 كلمة
عرض أقل
اطفال في مخيم بلاطة قرب مدينة نابلس (Flash90/Rishwanth Jayapaul)
اطفال في مخيم بلاطة قرب مدينة نابلس (Flash90/Rishwanth Jayapaul)

فوضى تحت البلاطة

منذ نحو شهر ونصف ومخيم بلاطة للاجئين - الأكثر ازدحاما وكثافة من بين مخيمات الضفة الغربية - يشتعل، وبدأت الفورة بالانزلاق إلى داخل مخيمات لاجئين أخرى

إذا كانت مخيّمات اللاجئين (الفلسطينية) تمثّل مقياسا لما يحدث في الضفة، يمكن الاستنتاج إذن أن الأوضاع سيّئة للغاية. منذ نحو شهر ونصف ومخيم بلاطة للاجئين – الأكثر ازدحاما وكثافة من بين مخيمات الضفة الغربية – يشتعل. أصبحت الصدامات، بما في ذلك إطلاق النار، بين جهات مختلفة داخل المخيم والقوات الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، في الشهرين الأخيرين أمرا شائعا. يكمن السبب المباشر لهذه الأزمة في مداهمة لقوات الأمن الفلسطينية للمخيم في منتصف شباط بهدف اعتقال ثمانية عشر مجرما مطلوبين من سكان المخيم ونقلهم إلى التحقيق في أريحا.

أقيم مخيّم بلاطة للاجئين عام 1950 للاجئي النكبة. يبلغ عدد سكانه نحو 23,000 مواطن في مساحة أصغر من كيلومتر مربّع واحد، ويعاني من نسب مرتفعة من الفقر، البطالة، الإهمال ونقص الخدمات الأساسية والبنى التحتية (على سبيل المثال كثافة الفصول الدراسية، نقص المياه النظيفة والبنى التحتية المناسبة للصرف الصحّي). حوّل الإهمال والكثافة السكانية المخيّمَ إلى منطقة صعبة السيطرة على نحو فعّال، وغالبا ما يكون كلّ دخول للقوى الأمنية الفلسطينية مصحوبا باحتجاج عنيف واشتباكات مع السكان.

مسلحون من كتائب شهداء الاقصى (Flash90/Wagdi Ashtiyeh)
مسلحون من كتائب شهداء الاقصى (Flash90/Wagdi Ashtiyeh)

في بداية أزمة بلاطة توصّل رئيس الحكومة الفلسطيني وجهات من داخل المخيّم إلى اتفاق تسوية، سلّم في إطاره بعض المطلوبين أنفسهم للقوات الأمنية. في مقاله الذي حمل عنوان “بلاطة: لن نصطاد السمك بالديناميت”، انتقد محرّر الموقع الإخباري الفلسطيني معًا، ناصر اللحام، الاتفاق، بل ووصف خطوات السلطة الفلسطينية ضدّ سكان المخيّم بأنّها “عقوبة جماعية”. أيا كان الحال، فقد انهارت التفاهمات بين الأطراف، وتدهورت الأزمة خلال وقت قصير إلى صراع عنيف. اندلعت، في الأسبوع الماضي، اشتباكات بين القوى الأمنية التابعة للسلطة وبين سكان المخيم، سقط فيها بعض الجرحى من إطلاق النار، من بينهم أطفال في سنّ العاشرة والحادية عشرة، وأحدهم في حالة خطرة. حمّل جمال الطيراوي، وهو عضو المجلس التشريعي الفلسطيني وأحد أعضاء فتح بنفسه (هو من أقارب رئيس الاستخبارات الفلسطينية السابق ومستشار أبو مازن الأمني، توفيق الطيراوي)، قيادة السلطة مسؤولية ما يحدث داخل المخيم بشكل مباشر، وبشكل حصري لأبي مازن ورئيس الحكومة رامي الحمد الله. وفي أعقاب الأحداث الأخيرة اجتمع زعماء المخيم في محاولة أخرى لمنع استمرار التدهور.

عناصر  من أجهزة الأمن الوقائي، التابع للسلطة الفلسطينية (AFP)
عناصر من أجهزة الأمن الوقائي، التابع للسلطة الفلسطينية (AFP)

إنّ حقيقة أن الفصيل الأكثر هيمنة على المخيم هو فتح تشير إلى عمق الأزمة. وفقا لشهادات مختلفة، تنشط في الأزمة الحالية فصائل مختلفة وتخريبية، بما في ذلك أولئك المنتمين إلى محمد دحلان، رئيس أجهزة الأمن في قطاع غزة سابقا والخصم المرير لأبي مازن من صفوف فتح في الوقت الحاضر، والذي تمّ طرحه من الحركة وهو الآن في المنفى (بشكل طوعيّ؟)، في الخليج. وأيّا كانت هوية الفصائل، فالدلالة هي أنّ سكّان المخيّم أصبحوا رهائن في أيدي مسلّحين سواء من القوى الأمنية التابعة للسلطة أو معارضيهم.

إنّ حجم هذه الأزمة، وانزلاقها إلى مخيمات أخرى في الضفة (وعلى رأسها مخيّم جنين للاجئين) قد يشير إلى أزمة عميقة في قدرة الحكم لدى السلطة الفلسطينية وإلى صراعات القوة والسلطة التي تظهر داخل فتح، في ظلّ الإشاعات حول اعتلال صحّة أبو مازن. يبدو أنّ الأزمة في مخيّمات اللاجئين، إلى جانب الأزمة الاقتصادية، تدهور العلاقات مع حماس ونتائج الانتخابات في إسرائيل، تعكس أزمة داخلية خطيرة تعيشها السلطة الفلسطينية اليوم، وربّما تكون أزمة غير مسبوقة في حجمها ودلالتها السياسية.

نُشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع Can Think

اقرأوا المزيد: 482 كلمة
عرض أقل
الاخ رشيد (Facebook)
الاخ رشيد (Facebook)

الدولة الإسلامية: سؤال جريء

"الأخ رشيد"، مغربي مسلم تَنصَر ويقدم برنامجا مشهورا في العالم العربي، يُشهّر بالدين الإسلامي تشهيرًا معمما وشديدا

وُلد رشيد الحمامي سنة 1971 لعائلة مسلمة ملتزمة شمال لواء دوكالا- عبدا في المغرب، غير بعيد عن مدينة الدار البيضاء. كان أبوه إماما معروفا بين الناس وحصل رشيد نفسُه على تربية إسلامية تقليدية. لكن، حين كان تلميذا في الثانوية تَنصَر وسرعان ما أصبح منتقدا حادا وصارخا لدين الإسلام.

في السنوات الأخيرة، يُقدم الحمامي تحت اسم ” الأخ رشيد” برنامج “سؤال جريء” في القناة الفضائية المسيحية- التبشيرية “الحياة” التي تُبث من مصر. هذا هو البرنامج الرائد والأكثر مشاهدة في القناة، ويخصصه رشيد للنقد المنهجي، وأحيانا الهجومي الشديد، على دين الإسلام. إنه يستغل المنصة التي يعطيه إياها البرنامج كي “يُثبت” العنف، الكراهية، التمييز وعدم التسامُح وأنها متجذرة كما يقول في دين الإسلام.

يُلقي رشيد سلسلة من الأسئلة الإنكارية التي تُظهر “الدولة الإسلامية” كما هي: عصابة من الإرهابيين لا قيم لديهم، داسو بأقدامهم وتجاوزوا كل الحدود الإنسانية

نحن لا نشاطر “الأخ رشيد” آراءه عن الإسلام ونعترض بشدة على قسطها الأكبر؛ لا نرى معنى لتشهير دين متكامل وتحويله إلى كتلة واحدة، ذات بعد واحد، كله كراهيةٌ وعنف. مثل كل دين آخر، الإسلام هو ما يُطبّق منه المؤمنون به ورجال الدين الذين يرشّدونهم. لكن بودنا أن نفحص فيما يلي نقده المخصص “للدولة الإسلامية”.

الهجوم الإجرامي ضد حرّية الصحافة في باريس (دون علاقة بتحفظنا من الرسومات المسيئة)، ألقى الرعب في قلوب الصحفيين، الناشرين، الساخرين، وباقي الناقدين للثقافات في أرجاء العالم. كان “للأخ رشيد” ما يقوله، بهذا الخصوص، عن إرهاب “الدولة الإسلامية”، والتنظيمات الجهادية الأخرى، ونظن أن من المناسب أن تُسمع هذه الأمور وتُثير النقاش. لذلك قررنا أن نضع بين أيديكم هذه المقالة.

في المقطع الذي أمامكم، يقوم الأخ رشيد بما امتنع الكثير من الجيدين والمعتدلين أكثر منه عن فعله حتّى الآن في الحديث العام العربي، وبالطبع بلغة عربية وبصوت هادر. يُلقي رشيد سلسلة من الأسئلة الإنكارية التي تُظهر “الدولة الإسلامية” كما هي: عصابة من الإرهابيين لا قيم لديهم، داسو بأقدامهم وتجاوزوا كل الحدود الإنسانية، الرأفة والتسامح، وجلبوا لأنفسهم، مؤيديهم وأتباعهم الجدد كوارث هائلة سيعانون من ويلاتها على جلودهم لأجيال عديدة مستقبلا.

http://youtu.be/wRLCh6r2Wpo

النبرة التهكمية للأخ رشيد، الكراهية المتقدة للإسلام والإحساس بالصدق والأقوال من مثل “قلنا لكم”، تتجلى بين السطور. لكن رغم الانتقاد الواجب لكل هذه الأمور، لا ينبغي تجاهل جوهر الأمر. ليست الدولة الإسلامية، كتنظيمات سلفية أخرى، مثالا للإبداع، التقدم والتطور؛ إنها تعدُ بالخراب، الدمار والقمع، من خلال السيطرة على إنجازات الحضارة المحتلة واستعمال أدواتها ومواردها لتحقيق رؤياها العنيفة والمدمرة.

رغم الإنجازات الإقليمية والعسكرية الجارفة للدولة الإسلامية، يبدو أن رؤيا التنظيم في الحكم المطلق تزجه في طريق لا مخرج له. عدد المتجندين في العالم العربي والإسلامي ليس بلا نهاية، ودون رؤيا تجمع بين التعمير، التعليم، التطوير الاقتصادي، البنى التحتية والإنسانية، التعايش مع فئات غير سنية- سلفية والسعي نحو الشرعية الدولية، ستفقد الدولة الإسلامية قوتها على البقاء بلا رجعة.

استمعوا للأخ رشيد. حاولوا أن تفكروا بالأسئلة المهمة التي يطرحها، واسألوا أنفسكم هل التهديد المتمثل “بالدولة الإسلامية” في صورتها الحالية هو بهذا الحجم الكبير. هل من أفق حقا لدولة هي في جوهرها ضد الدولة، التي تطالب بالقضاء على جاراتها والدول الأخرى في العالم، وتقاتلها ضد قيامها وكيانها؟

نُشرت هذه المقالة لأول مرة في موقع ‏‎ Can Think‏

اقرأوا المزيد: 478 كلمة
عرض أقل
اللقاء بين فتية عرب ويهود (مصدر الصورة: canthink)
اللقاء بين فتية عرب ويهود (مصدر الصورة: canthink)

درس بالتواضع والتعايش

جولة صيفية لمدة أسبوعين في أرجاء البلاد، جولة مشتركة ضمت فتيان وفتيات أمريكيين وإسرائيليين، يهود ومسلمين، من الكيبوتسات، المدن، الضواحي والقرى غير المعترف بها، تفجر في وجه الجميع تلك الفقاعة، وتكشفهم على "الآخر" وتعلم الجميع درسًا بالتواضع والتعايش

أطل الفجر على قمة جبل هتسوفيم في القدس. تنزل مجموعة من الفتيان اليهود والمسلمين من الحافلة وتتأمل المدينة العتيقة. في وسط باحة الأقصى، التي يسميها اليهود جبل الهيكل، تلمع قبة الصخرة المطلية بالذهب عند الشروق وتجذب الأنظار. “ما هي أهمية هذا المكان بالنسبة لكم؟” سأل المرشد بالعبرية والعربية، وهو يشير بيده باتجاه ذلك المنظر.

كان الفتية المسلمين أكثر يقظة وإصغاءً من نظرائهم اليهود. واضح أن قربهم من الأقصى نفخ فيهم الروح. لديهم ما يقولونه. بنات وأولاد من البدو المنتشرين في النقب والذين أنهوا للتو الصف الحادي عشر، أيضًا أولئك الذين كانوا هادئين وانطوائيين حتى الآن، يرفعون أيديهم ويطلبون بإلحاح حق الكلام. تحدثت، شابة ترتدي الحجاب، بتأثر عن رحلة النبي الليلية، وصديقتها اقتبست الآية القرآنية الأولى من سورة بني إسرائيل (17:1). تحدث بعض الشبان عن تجارب الصلاة العائلية في الأقصى في الأعياد وأيام الجمعة. لا أحد منهم تقريبًا بقي غير مكترث. بالمقابل، أقرانهم اليهود كانوا ساكتين ويتأملون، بشكل متقطع، ذلك المنظر مندهشين. كيبوتسيون من النقب، جيران البدو، نخبة من أفضل أولاد وبنات الحركة الصهيونية، إضافة إلى ملحقين من “بلدات التطوير” الذين التحقوا بالثانوية اللوائية الفاخرة.

اليهود، الذين كانوا حتى الآن محتارين بما يخص ماهيتهم في هذه الرحلة، ظلوا هادئين ومحتارين. يدركون أنه يُتوقع منهم أن يقولوا شيئًا، إلا أنهم لا يعفون ما هو. فتى جميل الطلعة جرب قدرته: قال “هذا المكان هام بالنسبة لنا لأنه مات فيه جنود لنا، وحاربنا من أجله” . بزلة لسان انقلب لديهم السبب والمسبب. هل يُعقل أن المكان الذي اعتبر هامًا جدًا ويستحق القتال من أجله نقدسه بسبب الدماء التي سُفكت من أجله؟ لماذا تحاربوا على هذا المكان منذ البداية؟ بعد لحظات من الصمت نهضت فتاة، مجعدة الشعر، من سديروت وقالت بشكل مباشر: “عموماً، هذا المكان لا أهمية له بالنسبة لي. لا يمثل أي أهمية خاصة بالنسبة لي، ربما ما عدا الطعام الجيد”.

منذ سنوات وأنا أعمل مرشدًا صيفيًا لجولة مدتها أسبوعين والتي خلالها تتجول مجموعة من الفتيان والفتيات اليهود والمسلمين، من أوساط ومناطق من النقب والجليل، في البلاد، من الجليل وحتى النقب، وحتى أنهم ينزلون في بيوت الطلاب المشاركين ويلتقون عائلاتهم. يلتحق بالمجموعة فتيان يهود من شمال أمريكا ووسطها، الأمر الذي يضفي بعدًا عالميًا ويحول لغة التواصل إلى اللغة الإنكليزية. على خلاف معظم البرامج التي تجمع بين الفتيان اليهود من الشتات مع الفتيان الإسرائيليين، هذه الرحلة الصيفية تفجر الفقاعة، تضع المشاركين فيها أمام تحديات وتكشفهم على تعقيدات الواقع الإسرائيلي وعلى وجود “الآخر”. يهود إسرائيليون ومسلمون فلسطينيون من مواطني إسرائيل – من الجليل والنقب، مع يهود الشتات، جميعهم مجتمعين حول ارتباطهم بالأرض وقصتها. ربما الحدث الرئيسي هو ليس بالعلاقة بين الطلاب وبين أهداف الرحلة أو المواقع بل تلك الديناميكية الجماعية وتلك الرحلة الداخلية التي يخوضها المشاركون كأفراد وكمجموعة.

نظرة إلى الأقصى (Nati Shohat/Flash90)
نظرة إلى الأقصى (Nati Shohat/Flash90)

 يتمركز في قلب ذلك الحدث اللقاء بين العرب واليهود الذين يعيشون متجاورين ولا يعرفون بعضهم بعضًا في الواقع. يأتي الفتيان إلى هذا اللقاء وهم يحملون على ظهورهم عبء الهوية الذي تجذر في الجهاز التربوي، في البيت والمجتمع. ينكشف، خلال الرحلة، هذا العبء على العبء الذي يحمله الآخر. لا تكون الآليات الدفاعية، في هذه الجيل، قد تطورت كفاية بعد ومن السهل أن يندفعوا من ناحية المشاعر. كرة القدم، الرغبة والسجائر المسروقة هي الأشياء المشتركة بين كل الفتيان في العالم، وفي ظروف معينة لديهم الإمكانية أن يتعالوا عن كل الجدران والمسميات. لاحظت على مدى سنوات بان ردة الفعل الشخصية والجماعية، لدى الفتيان، تتكرر لدرجة أنها صارت متوقعة بالنسبة لي: في الشمال، ومع تلاشي أول خوف، تتبدل الحواجز ببهجة الانكشاف وتتكون علاقات صداقة؛ في اقدس، بين جبل الهيكل وحائط المبكى، تطفو مسألة الهوية الجماعية وتبدأ الأزمة، تدرك الفتيات الأمريكيات عند وصولهن إلى القرية البدوية المسافة البعيدة بينهن وبين زميلاتهن البدويات، اللواتي ضحكن معهن في الليالي الماضية وتبادلن الأسرار. يتعلم البدو في بركة السباحة أو على العشب، والذين يعيش بعضهم في قرى قريبة غير معترف بها، يتعلمون درسًا في معنى العدل بالتوزيع والسيطرة. يتعلم المشاركون درسًا واحدًا أو اثنين عن معنى الإنسانية.

من ناحية الديناميكية الجماعية، الفتيان والفتيات اليهود – الإسرائيليين هم الرواد: يُظهرون حالة من الثقة بالنفس والراحة نسبيًا مع وجود ذلك العبء الهرموني ومسائل الجندر والهوية التي تترافق مع سن المراهقة والرحلة. بالمقابل، الفتيان العرب يقفون متوترين ومحتارين بسبب ذلك التحرر الذي يميز الآخرين، تحديدًا فيما يخص العلاقة بين الجنسين. التقاليد، الفلسطينية، الإسرائيلية، الرغبة بالتدفق بدون معوقات أمام الحاجة لتذكر الظلم والحفاظ على الهوية، كل تخبطات النفس تلك واضحة على وجوههم الصغيرة. ذلك التوتر بين الديناميكية الجماعية واللقاء مع العالم الخارجي، الذي يصلهم من خلال البالغين، هو ذلك التوتر الذي بين هوية هي واقع وبين هوية أخرى مبنية. يتم في الفعاليات المنظمة الزام المشاركين بهويات قسرية: صهاينة أو فلسطينيين، يهود أو مسلمين، عبرانيون أو عرب. إلا أنه فقط عندما يلتقي المشاركون مع أنفسهم يتصرفون ببساطة: عرب فلسطينيون أو بدو، إسرائيليون أو يهود، وتحديدًا الفتيان المحتارين موجودين في ذلك المكان بين هذه اللحظة وبين الشيء الأكبر من ذلك. هذه هوية حقيقية بسيطة كما هي. لا شك بان أجمل لحظات في هذه الرحلة هي تلك اللحظات “الرمادية”، عندما يلتقي الفتيان والفتيات بدون أقنعة. في تلك اللحظات، من خلال نظرة جانبية هادئة، أتعلم كثيرًا.

هذا الصيف أيضًا، بعد رمضان وعيد الفطر مباشرةً، ستنطلق هذه الرحلة. لا يمكنني ألا أفكر كيف كنت سأتصرف خلال خدمتي العسكرية لو أتيحت لي الفرصة أن ألتقي شابات وشبان من العرب بهذا الشكل قبل عام من التحاقي بالخدمة العسكرية؛ التواصل مع فتيان عرب من مثلي جيلي، الصلاة معهم في الأقصى، وفي حائط المبكى، تناول الطعام في بيوتهم، لقاء عائلاتهم، أن أعيش تجارب معهم وأن أرى أنهم بشر مثلي تمامًا. هذا العام أيضًا سأكون مرشدًا في هذه الرحلة وسأتعلم منهم درسًا جديدًا بالتواضع والتعايش.

نُشرت المقالة للمرة الأولى في موقع Can Think

اقرأوا المزيد: 874 كلمة
عرض أقل
"حرب على البيت" في القدس (Sliman KhaderFlash90)
"حرب على البيت" في القدس (Sliman KhaderFlash90)

حرب على البيت في القدس

في السنوات الأخيرة، هناك شهادات على تغيير في ميل العرب في القدس وحتى استعدادهم، لاعتبارات عملية، للاندماج في النظام القائم في المدينة. عدا عن ذلك، في كل حدث مستقبلي سيستمر العرب واليهود بالعيش فيها جنبًا إلى جنب. حانت الساعة التي تتآزر بها في القدس قوى العرب واليهود في الرحبة والسياسة المحلية، لإنقاذ بيتهم المشترك

كل من يهتم بمسألة القدس الشرقية، لن يستطيع تجاهل التغيّرات الحاصلة (ليس بهذا العمق) من وراء ما يبدو ظاهريًّا. فالحديث ليس عن انقلاب أو انعطاف، لكن عن نوع من التطور الذي نشأ من المشي في الوحل في مستنقع الوضع القائم الذي يتدهور ببطء، من تغيير طفيف على السطح الذي يطفو في السنوات الأخيرة، في تدرج وتعاقب.

بالرغم وربما بسبب التمييز الصارخ الذي وصل عَنان السماء بين شرق المدينة وغربها، فقد نجح الجمهور الفلسطيني في القدس بأن يحافظ على مدى سنين على جنسية إسرائيلية وبقي الفلسطينيون “سكانا ثابتين”. في سنوات الاحتلال الأولى، كانت قد نجحت لجنة الآباء في القدس العربية في صراعها ضد فرض المنهاج الدراسي الإسرائيلي، وحتى اليوم تُقدم أغلب الثانويات الفلسطينية في المدينة تلاميذها لامتحانات التوجيهي لا للبجروت الإسرائيلي. لا يحق للسكان التصويت للكنيست أما انتخابات البلدية، فيقاطعونها باستمرار. منذ إقامة السلطة الفلسطينية وهم يصوتون للبرلمان الفلسطيني في رام الله الذي ليس له أي تأثير في القدس. عامّةً يمكن القول إن الفلسطينيين في القدس اعترضوا على ضم المدينة الشرقية لإسرائيل على قدر استطاعتهم. ولكن في السنوات الثلاث الأخيرة كان التغيير في هذا التوجه بيّنًا، وتشير الشهادات المتجمعة إلى استعداد السكان الفلسطينيين للاندماج في النظام القائم في المدينة.

يُمثَّل التغيير أكثر بالمعطيات العددية، التي نجح في رصدها نير حسون في سلسلة مقالات في صحيفة هآرتس، في أواخر 2012. يزداد وينمو عدد المدارس في القدس العربية التي ترغب في تعليم البجروت الإسرائيلي بدلا من التوجيهي؛ وبدأت مؤسسات خاصة لتعليم العبرية والتحضير للبجروت الخارجي في الظهور هناك كالفطر بعد المطر؛ وجرى ارتفاع حاد في عدد المقدسيين- الشرقيين ذوي شهادة التوجيهي الذين يترددون على السنة التحضيرية للجامعة العبرية.

رئيس بلدية القدس نير بركات مع معلمة عربية في القدس الشرقية (Miriam AlsterFLASH90)
رئيس بلدية القدس نير بركات مع معلمة عربية في القدس الشرقية (Miriam AlsterFLASH90)

يزداد عدد الطلاب الفلسطينيين من سكانِ القدس الذين يتعلمون في الجامعة العبرية وفي الكليات الإسرائيلية ازديادا بيّنًا، وهو توجه سيؤثر على تكملة طريقهم بعد إنهاء التعليم، إذ أن الشهادة الإسرائيلية تعني البحث عن عمل في إسرائيل لا في السلطة الفلسطينية. في عام 2007، أنشأ الطلاب الفلسطينيون في الجامعة العبرية جماعة طلّابية باسم “وطن” التي أقامت سابقا خلال السنة في حرم الجامعة معرضًا مثيرًا للجدل. يظهر جانب آخر للتغيير في التصاعد البارز في عدد طلبات الجنسية الإسرائيلية من فرع وزارة الداخلية في شرقي القدس.

يفسر البعض هذه المعطيات الكمية كبداية تغيير جوهري في مفهوم الهوية الفلسطينية في القدس الشرقية والذي يمكن أن يطال تأثيره المستقبل السياسي للمدينة. إن كان يعتبر طلب الجنسية أو شهادة البجروت في الماضي كخيانة لروح القومية الفلسطينية، فقد أصبح  اليوم مقبولا بلا اكتراث بل بتفهّم ذلك.

هذا التوجه يظهر في مجالات أخرى كثيرة، من الخدمات الصحية وحتى البنى التحتية والتخطيط، لكن سأتمحور حول العوامل التي تبرز من الواقع مثلَ أنماط الأنشطة والاستهلاك للسكان الفلسطينيين في المدينة. في الماضي أقيم في القدس نظامان مختلفان للمواصلات العامة، لكن سنة 2011 بدأ القطار الخفيف العمل في المدينة.

مُدّت خطوطه بين شرق المدينة وغربها، ووصَلت لأول مرة بين الأحياء اليهودية والعربية في القدس، التي لم يلتق أهلها  من قبل. وهكذا نشأت رحبة  عامة جديدة يتم فيها اللقاء والاحتكاك اليومي بين السكان. كذلك، إن كان الفلسطينيون المقدسيون قد عملوا في محلات “يهودية” في غربي المدينة، فقد بدأوا في السنوات الأخيرة يترددون على أماكن الترفيه والمراكز التجارية، ومجمع مالحة التجاري وحديقة ساكر كزبائن وزائرين. لا يدل الاحتكاك المتصاعد  والتغيير في أنماط الأنشطة واللقاء بين السكان على التقارب، و يبرز أحيانًا العداء، الحقد والمخاوف ويظهر الجانب القبيح والشرس للمدينة المنشقّة.

يهود وعرب يعيشون مع بعض في القدس (Zuzana JankuFLASH90)
يهود وعرب يعيشون مع بعض في القدس (Zuzana JankuFLASH90)

التغييرات التي استُعرضت أعلاه لا تشير إلى تحوّل الفلسطينيين في القدس لصهيونيين. قد صار غياب قيادة فلسطينية في القدس الشرقية وانقطاعها المكاني عن الضفة الغربية، حقيقة واقعة، وينبع الاندماج الفلسطيني في الرحبة المقدسية من معايير البقاء الشخصي ومن الحاجة الشخصية لتحصيل حياة كريمة.

لا يظهر التغيير في المستوى الشخصي حتى الآن بشكل جماعي ولا سياسي؛ لم تتصدع مقاطعة الفلسطينيين للمشاركة  في الانتخابات للبلدية، ويبدو أن النزعة السياسية للفلسطينيين في المدينة، وتضامنهم الصلب مع الحركة القومية الفلسطينية كما كانا من قبل. يعتقد باحث المجتمع الفلسطيني في القدس، د. هليل كوهين، أنه قد نشأت في المدينة هوية فلسطينية بديلة تختلف عن تلك التي في الضفة، وتلك الخاصة بعرب إسرائيل.

يصعب فهم هذا الاتجاه من ناحية كمية فقط. في عام 2006،  صوت سكان شرق القدس بكافّتهم لحماس، وبعد ذلك بخمس سنوات نشر معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى استطلاعًا  أجري عليهم، والذي أظهر أن 35 % ممّن سُئلوا يفضلون أن يكونوا سكانًا إسرائيليين حتى بعد إقامة دولة فلسطينية، يفضل 35 %  جنسية إسرائيلية، وأجاب 30 %  أنه “لا يعرف” أو رفضوا الإجابة. كانت العوامل التي ظهرت في الاستطلاع كأسباب لتفضيل الجنسية الإسرائيلية هي عمليةً- حرية التنقل، تأمين صحي وإمكانية العمل، بينما كانت الدوافع لتفضيل الجنسية الفلسطينية قوميةً ومتعلقة بالهوية (انظروا التداول الذي جرى في الموضوع في معهد القدس للبحث الإسرائيلي). حتى من يميل إلى إلغاء نتائج الاستطلاع سيضطر إلى إعادة التفكير على ضوء الواقع الجديد.

بالتباين مع التغيّرات في المجتمع المقدسي الفلسطيني، تستمر دولة إسرائيل في بناء، تخطيط وتوسيع الأحياء اليهودية شرقَ المدينة. تنجز منظمات المستوطنين في القدس إنجازات بارزة ولأول مرة ينجح اليمين المتطرف في التسلل لمجلس البلدية. من ناحية أخرى كانت عمليات الاعتراض المشتركة لليسار والفلسطينيين محدودة وليس لها أي تطلع مشترك وشامل للقدس. لذا لم تترجم أعمالهم إلى عمل سياسي مشترك وإنما تركزت في معارك كبح محصورة، وعلى الأغلب فشلت في الأهداف التي وضعتها لنفسها وخمدت على مهل. تطل اليوم بلا إزعاج مجمعات مستوطنين متكتلة ومحصّنة في كل الساحة الفلسطينية في القدس. جمعية “إلعاد”، المعروفة من فعاليتها في سلوان، تؤيد إقامة مجمع كيدم الكبير ويمكن أن تحوز على زمام التحكم بالحديقة الأثرية القريب من ساحة المبكى، جبل الهيكل ومسجد الأقصى. يمكن القول مجازًا إنه بينما هم “يطفئون الحرائق” من اليسار يبنون بيوتًا من اليمين.

مظاهرة لسكان القدس الشرقية (IR AMIM flickr)
مظاهرة لسكان القدس الشرقية (IR AMIM flickr)

في سنوات الثمانينات وبداية التسعينات توفّق المعتدلون من الجانب الإسرائيلي والفلسطيني من تحويل اللقاء بينهم إلى مسيرة مشتركة ومهمة وحتى ترجمته لإنجاز سياسي. ولكن اتفاق أوسلو، دخول عرفات ورجاله للضفة وانهيار عملية السلام لاحقًا أدت جميعها إلى إنهاء العمل المشترك وإضعاف شديد للجانب الفلسطيني المحلي في القدس. كانت أحداث الانتفاضة الثانية وموت فيصل الحسيني ضربة قاسية للجمهور الفلسطيني في القدس ولليسار الإسرائيلي على حد سواء.

مع اقتراب تاريخ الهدف الأول لبعثة وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، يطل الادعاء من جديد أننا “في وقت حاسم”. هذا الشعار الفارغ من المضمون تُعزف أوتاره ما يقارب 25 عامًا؛ بلا أي علاقة للعملية السياسية، وفي كل تجمع سياسي مستقبلي، سيلتقي في القدس دائمًا إسرائيليون وفلسطينيون، يهود، مسلمون ومسيحيون، إذ أن المدينة حقا ملتقى بشري خاص.

لن تكون لعامة الجمهور التحرري والمنادي بالمساواة في القدس بهجة ما دامت غيرَ قائمة الشراكةُ الاجتماعية، السياسية والمُسَوِّيَة بين اليهود والفلسطينيين. ليس هذا مفهومًا ضمنا: لا وُدّ ولا ثقة بين الجانبين، لا توازن بين المحتَلّ والمحتَلّ، لا توازن بين المميز والمميز ضده. لكن على ضوء الواقع، سواء في اليسار الإسرائيلي المتجدد أو الجانب الفلسطيني، يجب  أن تُحسب من جديد فرضيات العمل وطرق التنفيذ. إن توحيد القوى لصالح خلق رؤيا مشتركة للقدس، تترجَم لعملية شعبية ومستقبلا إلى إنجاز سياسي محلي، وهي ضرورة يفرضها الواقع.

في الانتخابات الأخيرة لمدينة القدس، وقف جمهور كبير من يهود القدس أمام اختيار مربك بين الأسوأ، والأكثر سوءًا. سيتنازل اليهود في انضمامهم للنضال المشترك  عن نظرة “صنع المعروف” مع الفلسطينيين، وسيتنازل الفلسطينيون إلى توجه أكثر براغماتية وأقل مثالية والذي يمكن أن يحسّن وضعهم من غير دفع ثمن سياسي حقيقي. النفور الفلسطيني من التطبيع والعمل المشترك، والتجاهل الكامل تقريبًا للسكان الفلسطينيين الذي يميز النهضة  المدنية والتحررية في القدس اليهودية، هما وجهان لعملة واحدة. للإسرائيليين والفلسطينيين الذين استيأسُوا من تغيّر الوضع داخليًا، ويطالبون بالاعتماد على ضغط خارجي، يمكن القول: افتحوا أعينكم وانظروا حولكم- من سوريا وحتى أوكرانيا، لا أحد في هذا العالم ينقذنا من أنفسنا. المقدسيون اليهود والمقدسيون الفلسطينيون يحتاج أحدهما الآخر بنفس المدى، لأن كليهما يصارعان على البيت.

تم نشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع Can Think

اقرأوا المزيد: 1190 كلمة
عرض أقل