في ظل الأزمات والصراعات التي تطيح بما باتت تعرف منذ زمن بعيد بالمنطقة العربية من المحيط إلى الخليج، هناك حاجة إلى التفكير المتأني، والتحليل العميق في أسباب ظهور هذه الصراعات والنزاعات ودوافعها. إذ هذه في قسوتها وأحداثها الحربين العالميتين، الأولى والثانية، لاسيما بعد أن امتد تأثير تلك الأحداث إلى قارات أخرى خارج النطاق الإقليمي لها. وفي هذا الإطار الذى يتوافق مع مئوية سايكس ــــ بيكو، يكون السؤال الأبرز هو: لماذا انهارت الدول التي ظهرت نتيجة الاتفاقية؟
قد تتعدد الإجابات وتختلف، لكن، في النهاية، سوف تؤدى إلى نتيجة حتمية لا مفر منها، وهى أن ما يحدث في المنطقة سببه صراع “الهوية”، ذلك الصراع الذى لم تنجح التغيّرات العديدة، والمحاولات المريرة التي مرت على تاريخ المنطقة في تغييره، فمع تغيّر الهوية الدينية واللغوية لشعوب ما بات يعرف اليوم بالعالم العربي، نرى أن الدين الواحد أو اللغة الواحدة لم يفلحا في تحقيق نوع من التوازن والثبات في المنطقة هذه لفترات طويلة تذكر.
فمنذ اللحظات الأولى ظهر قتال ما بين المسلمين وبعضهم البعض على أساس طائفي (سني/شيعي)، اختلط فيه ما هو ديني بما هو سياسي، وحتى ظهور الأنظمة السياسية المختلفة بداية بعصر الخلفاء، مرورًا بالدولة الأموية، والعباسية، والمماليك، انتهاءً بآخِر الخلافات وهي الخلافة العثمانية التي شهدت سقوطا مدويا، بدأ من 1908- 1922. فالسقوط هنا للكيانات الكبيرة المبنية على أساس طائفي لا يكون مرة واحدة أو دفعة واحدة، بل يكون على فترات تطول أو تقصر على حساب الظروف والمسببات.
وبالرغم من أن اتفاق سايكس ــــ بيكو بُني على أنقاض الخلافة العثمانية، إلا أنه لم يلتفت إلى واحدة من أهم أخطاء تلك الخلافة، وهو تجاهل الأقليات العرقية والدينية الموجودة داخل أراضي تلك الخلافة المنهارة، فأخذت كل من القوى الاستعمارية الفرنسية والبريطانية، متمثلة في شخص سايكس ــــ بيكو، بتشكيل دول جديدة غير متجانسة، على أسس غير منصفة.
واستمرار هذه الدول والحدود التي نشأت عن الاتفاق لقرابة 100 عام، لا يعنى أنها كانت دولا ناجحة أو مستقرة، على العكس تمامًا، لأن هذه الدول محكوم عليها بالفشل والانتهاء منذ البداية، ولكن التشكيلات والقوى العالمية التي كانت سائدة في الفترات السابقة هي التي كانت تمنح تلك الدول، ولكى نكون أكثر دقة الأنظمة التي كانت موجودة في هيئة دول، شرعية الاستمرار، نتيجة الحاجة لها كمحاور ومحطات كان يدار من خلالها، وعلى أرضها، وعبر حدودها، صراعات تحديد القوى والنفوذ بين القطبين الكبار إبّان فترة الحرب الباردة.
ولهذا كان يتم التغاضي عن وجود أنظمة ديكتاتورية تضطهد وتبيد الأقليات العرقية والدينية، وتقمع الحريات الشخصية والفردية، فارضة نوعا من العزلة على شعوبها، حتى لا يتأثر بحركة الحرية والتحرر التي بدأت تجتاح المجتمعات الغربية بعد سقوط النازية والفاشية، وفي الوقت الذى كانت فيه أوروبا تعيد بناء نفسها على أسس ليبرالية بمساعدة الولايات المتحدة، كانت أغلب تلك المجتمعات تدخل تحت عباءة الاتحاد السوفيتي الذى كان لا يؤمن بحرية الفرد.
وطوال تلك الفترة، كان هناك على الطرف الآخر التيارات الدينية الراديكالية، تنشط وتنمو في هذه المجتمعات، وتقدم نفسها كتيار بديل عن التجربة السوفيتية أو الغربية الليبرالية العلمانية، التي كان ينظر لكلاهما نظرة ريبة وشك من أتباع هذه التيارات، وبدأت التيارات الدينية الراديكالية تنمو وتجد لها كل يوم مزيدا من الأتباع والمريدين، وبدأت الأنظمة الحاكمة تارة تستخدم العنف ضد تلك التيارات، وتارة تستخدم تلك التيارات لضرب تيارات أخرى.
ووسط كل هذه الحالة من عدم الاستقرار الفعلي لهذه الدول ذات الهياكل الهشة، كان هناك العديد من الفِرق والتيارات الأخرى التي وجدت نفسها داخل دول لا تعرف كيف تكونت، ولا كيف ذهب الحكم فيها لجماعات معينة دون أخرى، لا تجد لها أي فائدة من تلك الدول بصيغتها الحالية، لأن تلك الدول كانت لا تعترف بحقوق أقلياتها العرقية أو الدينية، وصراع السلطة بداخلها دائمًا ما ينحصر بين السلطات العسكرية والتيارات الدينية التي تحتكر الحق الإلهي لنفسها في التعامل مع الآخرين.
ومن هنا أصبحت الخريطة الحالية، بتكويناتها وتركيبتها، لا تخدم مصالح الجميع، ونشأت الصراعات الدامية التي متوقع لها أن تمتد أكثر من ذلك لتشمل كل المنطقة من المحيط إلى الخليج، لأن أسباب قيام تلك الصراعات متوفرة في كل ربوع المنطقة.
وما زال استخدام الدين والبعد الطائفي السلاح الأقوى، فنجد تنظيم الدولة الإسلامية، “داعش”، يمثل القوى السنية، يقابله قوى شيعية متمثلة في المليشيات والقوى الشيعية من حزب الله، وميليشيات الحوثي والحشد الشعبي في مواجهات مستمرة ممتدة من اليمن إلى سوريا والعراق ولبنان والبحرين.
كلاهما يبحث عن التمدد على حساب الآخر، غير عابئين بالمكونات الأخرى للمجتمعات محل الصراع الدائر بينهم، وسط استخدام الدين كهوية للدولة، وفي استمرار مريع لهدم فكرة الدولة والمواطنة واحترام التعددية والهويات المختلفة لمكونات تلك المجتمعات.
وفي النهاية، نجد أن محاولة توحيد مجتمعات ذات أصول ثقافية وتاريخية مختلفة، باستخدام الدين واللغة لإيجاد ما يعرف (بالمجتمعات العربية)، هي فكرة مصيرها الفشل من اللحظة الأولى، إذ نشأ عنها الصراع السني/ الشيعي الذى لم يتوقف حتى الآن، وبناء على ذلك الأساس في كل مآسي هذه المنطقة هو صراع الهوية، ومحاولة ضم مجموعات غير متجانسة داخل حدود دولة واحدة.