د. نمرود هورفيتس

د. نمرود هوروفيتس، مختصّ بإسلام القرون الوسطى، القانون والمجتمع في الشرق الأوسط،، والعلاقات بين الدين والدولة. مُحاضِر في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة بن غوريون في النقب. محرّر وكاتب ثابت في موقع Can Think
متظاهر مصري (AFP)
متظاهر مصري (AFP)

حروب العرب: ترتيبات سياسية جديدة

اشتراك دول عربية في الهجمات على الإسلاميين يدل على مرحلة جديدة في الصراع العربي الداخلي، التي تفتت الترتيب السياسي القائم ولا تعرض حلولا للمشاكل الأساسية للمجتمعات العربية فقط عندما يذوّت السياسيون العرب الحاجة إلى التنازل، ستبدأ عملية المصالحة، البناء والتعامل مع المشاكل الأساسية للمجتمعات العربية

في صباح يوم الثلاثاء، 23 من أيلول، انضمت طائرات من السعودية، البحرين، الأردن، الإمارات العربية وقطر إلى الهجمات الجوية التي قادتها الولايات المتحدة ضد داعش في سوريا. لم تكن هذه أول هجمات جوية تجريها الدول العربية ضد متطرفين إسلاميين. قبل شهر، عندما احتلت مليشيات إسلامية مطار طرابلس عاصمة ليبيا، نُفذت ضدها عمليات قصف غامضة. لم تعترف أي دولة بأن طائراتها هي التي نفذت القصف، لكن من الراجح نسبتها إلى مصر والإمارات. أي أن السلاح الجوي للدول السنية هاجم سنيين ينتمون للإسلام المتطرف. إن الحقيقة القائلة بأن سنيين معتدلين، والذين يشكلون الأغلبية الساحقة من المسلمين، ينضمون إلى صفوف الجيوش الغربية ويقاتلون معهم الإسلام المتطرف يجب أن توقظ من جديد الفكرة عند من يعتقد أن داعش تتمتع بدعم عارم من السنيين.

قادة دول المجلس في قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية (AFP PHOTO / SPA)
قادة دول المجلس في قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية (AFP PHOTO / SPA)

يؤجج دخول جيوش من الدول العربية إلى دول أخرى الصراع في العالم العربي، ويشكل جزءا من عملية أوسع يحاول فيها العالم العربي أن يشكل نظاما سياسيا جديدا. لسنا نشهد فقط تفتتا للدول التي أقامها البريطانيون والفرنسيون في نهاية الحرب العالمية الأولى، بل ونرى عدم توافق على سمات المبنى السياسي المقترح من قبل الحركات والسياسيين المختلفين على الساحة العربية.

في المجتمعات العربية في هذه الأيام، تعمل ثلاث مجموعات تحاول تشكيل ترتيب سياسي جديد. المجموعة الأبرز، التي تحظى بأغلب الانتباه، هي مجموعة الإسلاميين المتطرفين، مثل داعش، جبهة النصرة، وتنظيمات أخرى مقربة من القاعدة وتطمح لاستبدال دول المنطقة بالخلافة. حسب طريقة هؤلاء الإسلاميين، اتفاقية سايكس بيكو، التي أدت إلى إقامة دول الشرق الأوسط، هي جزء من مؤامرة غربية أعدت لتقسيم العرب والمسلمين ولإضعاف صراعهم ضد الغرب. هدف الإسلاميين طويل المدى هو السيطرة على المناطق العربية وتوحيدها، والسيطرة شيئا فشيئا على باقي العالم.

مقاتلو داعش في العراق (AFP)
مقاتلو داعش في العراق (AFP)

المجموعة الثانية هي مجموعة زعماء الدول العربية الحالية، التي يدير أغلبها حكما استبداديا يتجاهل الجماهير الواسعة ومصالحها. زعماء هذه الدول، ومنها مصر، السعودية، الأردن وغيرها، هي طبقات تستغل موارد الدولة لإثراء نفسها. الآن، يحس هؤلاء الزعماء بالتهديد من المنظمات الإسلامية، ولذلك يرسلون الطيّارين الخاصين بهم لقصفهم في المناطق التي يتحصنون فيها.

المجموعة الثالثة تتألف من مواطني الدول العربية. القليل من بينهم هم أولئك الشباب المتحرر الذي قاد “الربيع العربي”. في البداية، استطاعوا أن يبرموا عهودا مع الإسلاميين المعتدلين، وعلى أساس هذه العهود قاموا بتشكيل قوة شعبية عزلت الحكام الفاسدين لتونس، ليبيا، ومصر، لكن في وقت قصير نُقضت هذه العهود على يد زعماء متصلبين وطموحين من كل التيارات، والآن نشهد عودة مجموعات القوى التقليدية.

عمليات إرهابية ضد القوات المصرية في سيناء (AFP)
عمليات إرهابية ضد القوات المصرية في سيناء (AFP)

صنعَ فشل القوى التي صعدت في “الربيع العربي” والقضاء على الحكام المحليين في دول مثل ليبيا وسوريا فراغا في السلطة. إلى داخل هذا الفراغ تسللت الفئات الإسلامية التي تهدد بتحويل سوريا ومعها العراق وليبيا، إلى بدايات جسر الانقلاب الإسلامي المتطرف. مقابلها تقف منظمات ودول ليس بيدها إمكانية الوصول لاتفاق حول رؤيا سياسية مشتركة.

والأسوأ من ذلك، أن التيارات والقوى التي تعمل على الساحة العربية غير مستعدة للتنازل فيما بينها. من اللحظة النادرة التي عمل فيها معا إسلاميون معتدلون وليبراليون جنبا إلى جنب، بقيت دولة واحدة، تونس، التي نجحت في إقامة بنية سياسية فاعلة. في دول أخرى، رفضت القوى المختلفة أن تصل إلى تسوية، وبسبب ذلك ضعُفت، وبهذا مكنوا الحكام التقليديين الفاسدين من العودة للحكم. تسللت إلى عدد من الدول التي اغتيل فيها الحكام التقليديون (ليبيا) أو تضرروا كثيرا (سوريا)، فئات إسلامية تسعى إلى تفتيت حدود الدول واستبدالها بطريقة سياسية مختلفة تماما- الخلافة. المقام المشترك لكل هؤلاء هو رفضهم- أو عدم قدرتهم- على التعامل مع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي أشعلت ثورات “الربيع العربي”.

تونس، الدولة التي أشعلت "الربيع العربي" (AFP)
تونس، الدولة التي أشعلت “الربيع العربي” (AFP)

يبدو إذا أن العالم العربي غارق في فترة حروب طويلة الأمد. ما دامت الجهات السياسية المتخاصمة تلعب لعبة مبلغ الصفر فستبقى منقسمة، ضعيفة، وعديمة القدرة على التعامل مع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تلقي بثقلها على مواطني الدول العربية. الطريقة الوحيدة التي يمكن للعالم العربي أن يخرج بها من دائرة العنف والدمار هي التوقف عن الطلبات بعيدة المدى من الجوانب المختلفة، وتقديم التنازلات، وبهذا يمكن إقامة التحالفات التي يمكن أن تستجيب للخلافات في المجتمعات العربية.

نُشر المقال للمرة الأولى في موقع Can Think

اقرأوا المزيد: 607 كلمة
عرض أقل
نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية (Prime Minister's Netanyahu's Flickr)
نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية (Prime Minister's Netanyahu's Flickr)

اليمين يفقد رشده، الليكود سينقسم

يعرف نتنياهو أنه طالما بقيت حماس في غزة، محاصرة ومشلولة اقتصاديًا، هذا معناه استمرار وتفاقم الحرب بين إسرائيل وحماس. هل سيبدأ رئيس الحكومة تغييرًا سياسيًا عميقًا على إثر عملية "الجرف الصامد"، أو أنه سيفضل قمع جنون اليمين وعدم تقسيم الليكود؟

وقّع مناحيم بيغن عام 1978، بعد خمس سنوات من صدمة حرب تشرين؛ التي سقط فيها أكثر من ألفي جندي إسرائيلي وتم أسر ثلاثمئة تقريبًا، اتفاقية سلام مع مصر؛ الدولة التي قادت العالم العربي ضدّ إسرائيل طوال 30 عامًا.

إذًا، كما هي الحال اليوم، عندما يتصرف قائد اليمين تصرفًا منطقيًّا ويبحث عن السلام بدل الحرب، يقوم رفاقه في اليمين ضدّه. وقف ضدّ مناحم بيغن في الكنيست، بخصوص توقيع اتفاقية السلام مع مصر والانسحاب من سيناء، غيئولا كوهن وابنها تساحي هنغبي في ياميت. عارض هنغبي ومن معه في الجيش بالقوة بينما استقالت غيئولا كوهن ومن معها من الليكود وأسسوا حزب “هتحيا”. تم تحقيق أحد أهم الإنجازات الاستراتيجية في تاريخ دولة إسرائيل، نتيجة ذلك المفترق السياسي الهام، فقد اليمين رشده وانقسم حزب الليكود.

مناحيم بيغن وأنور السادات في حفل توقيع اتفاقية السلام الإسرائيلة المصرية (AFP)
مناحيم بيغن وأنور السادات في حفل توقيع اتفاقية السلام الإسرائيلة المصرية (AFP)

اندلعت الانتفاضة الثانية بعد صدمة حرب تشرين بـ 27 عامًا، عام 2000. اعتلى شارون، المهندس المعماري الذي أعاد بناء الليكود والبلدوزر الذي وقف خلف عشرات المستوطنات، سدة الحكم ووعد بأن يقضي على الإرهاب. لقد فشل وفي عام 2005، بدا كقائد عسكري مستعد للاعتراف بفشله،  كطفل يتصرف بغضب، قام بانسحاب أحادي الجانب من غزة. لم يكن مستعدًا أن يبقى في مصيّدة الموت تلك المسماة غزة ولم يكن على استعداد للتفاوض مع القادة الفلسطينيين. هكذا تمالانسحاب، أحادي الجانب، من غزة.

تمامًا كما في عهد بيغن، اعترض الكثير من اليمين على ذلك. قاد المجلس الإقليمي “يشع”، حملة وبادر إلى الدعوة لمظاهرات وصلوات ضدّ الانفصال؛ وقام نشطاء من اليمين بسد الطرقات ونادوا الجنود بالعصيان، وفي أقصى تلك الأحداث، قام نشطاء متطرفون من اليمين؛ أمثال عيدان نتان – زادا وآشر فايزغن، بقتل ثمانية عرب، بينما قام آخرون بإشعال أنفسهم. قاد اعتراض اليمين شارون وعدد كبير من قادة الليكود إلى ترك الحزب ولإقامة حزب “كاديما”. وللمرة الثانية، انقسم اليمين وفقد رشده وانقسم الليكود.

ماذا سيحل بمستقبل نتنياهو السياسي؟ يبدو أن نتنياهو أيضًا دخل مفترق الطرق الذي دخله من قبله بيغن وشارون واتجها يسارًا بينما اليمين ينحدر إلى اليمين أكثر فأكثر. يدير الصراع الحالي مع حماس وكأنه يساري يبحث عن تسويات وحوار، ولا يتردد بإدخال القوات البرية. عرض “الهدوء مقابل الهدوء” ووافق على المظاهرات الإنسانية. نجح نتيجة ذلك بعزل حماس، إنجاز هام في وقت الحرب وله آثار كبيرة بعيدة المدى – إن كان لدى إسرائيل الشجاعة بأن تستغل الوضع الجديد. والأهم من كل شيء، فهو يدرك أنه في ميزان الثمن والمقابل، التغلغل في غزة قد ينتهي بفشل ذريع. حتى هذه اللحظة، ظهيرة السبت، لم تحظ حماس بـ “صورة نصر” وعلى وجهها صفعة دبلوماسية، بعد أن أبدت الولايات المتحدة والأمم المتحدة شجبها لحركة حماس ولم تشجب إسرائيل على قتلها 1600 فلسطيني. يقترح “أحيتوبليون” من اليمين على نتنياهو أن يخسر كل هذا فقط لإشباع رغبتهم بالانتقام.

رئيس الحكومةالسابق أريئيل شارون وبنيامين نتنياهو (AFP)
رئيس الحكومةالسابق أريئيل شارون وبنيامين نتنياهو (AFP)

ولكن أولئك الـ “أحيتوبليون” لا يقدمون الاستشارات وحسب. بل إنهم سحبوا خناجرهم السياسية وطعنوه بها في ظهره. وهنا تكمن ورطة نتنياهو: هل يبقى مع اليمين الذي يزداد تطرفًا، أم يفعل “فعلة بيغن” ويتحاور مع العدو اللدود؟

أثبت نتنياهو أنه لا يثق بالثمن الذي يتوجب بذله للقضاء على حماس، ولهذا لم يتغلغل بشكل عميق في غزة. ولكن نتنياهو يعرف أنه طالما بقيت حماس في غزة، محاصرة ومشلولة اقتصاديًا، هذا معناه استمرار وتعقد الحرب بين إسرائيل وحماس. يبرز، على ضوء ذلك، السؤال إن كان نتنياهو مستعد للانفصال عن اليمين والانتقال إلى المركز من أجل الدفع ببرنامج سياسي يحل مشكلة جولات العنف والصراع مع الفلسطينيين. بكلمات أخرى، هل سيستمر نتنياهو بسبب عملية “الجرف الصامد” بتغيير سياسي عميق، أم أن السلوك الحالي ليس إلا ضرورة للمشكلة الأنانية في غزة؟ هل تبني سياسة معتدلة حيال الأوضاع في غزة وهو تكتيك مؤقت أو إشارة لتغيير عميق في وجهة النظر؟

ربما بالطبع أن تكون الإجابة ليست أيديولوجية واستراتيجية أبدًا. ربما الإجابة هي تكتيكية. ربما يفضّل نتنياهو أن يكمل حياته السياسية ضمن اليمين، حتى وإن كان هذا اليمين يخونه في اللحظات الحساسة، بدل أن ينتقل إلى معسكر الوسط والعمل مع حلفاء جدد. أي، ربما من أجل حياته المهنية قد يفضّل نتنياهو عدم تقسيم الليكود حتى وإن كان اليمين قد بدأ يفقد رشده.

نُشر المقال للمرة الأولى في موقع ‏Can Think‏

اقرأوا المزيد: 621 كلمة
عرض أقل
(لقطة شاشة من يوتيوب)
(لقطة شاشة من يوتيوب)

إخفاء حماس بدبلوماسية

تصريحات جنرالات وسياسيين يمينيين سابقين بضرورة الدخول إلى غزة تخلق حالة من الوهم بأنه يمكن إحلال تغيير كبير بتوجيه مثل هذه الضربة. إلا أنه سبق لنا أن سيطرنا على غزة وفشلنا بالقضاء على الإرهاب فيها. الخلاصة: علينا أن نقوم بتغييب حماس دبلوماسيًا فقط

يريد كل من في إسرائيل وضع نهاية لحماس وصواريخها. ليس هناك شيء طبيعي أكثر من هذا: نريد العودة للحياة العادية، مخيمات صيفية للأطفال ونريد أن نتعرق بهدوء في هذا الصيف المريع. إلا أن حماس هنا، وإلى جانب صواريخه المريعة هنالك استعراض تهديدات دائم على شاشات التلفزيون والذي تديره مجموعة من الجنرالات السابقين الذين يكررون القول بأنه يجب شن معركة برية. يجلس سياسيون إلى جانبهم مثل ليبرمان، الذين يحاولون سد الفجوات المتعلقة بشعبيتهم الجماهيرية، ويحرضون على استخدام القوة أكثر فأكثر. القوة هي مثيرة عندما يطلقون عليك النار، ولكن هذه الإثارة مصيرها الموت لا الحياة.

بينما يقوم قادة اليمين باستنهاض هممنا، لشن هجوم بري على غزة، ليقوموا بعلاج جذري للمشكلة وليس مؤقتًا، علينا أن نتذكر بعض المعطيات. سبق أن كنا في غزة. قمنا بإدارتها من عام 1967 – 2005. كان الجيش مسيّطرًا هناك، وتعقبت المخابرات، وقام الشاباك بإحباط العمليات. وماذا كانت النتيجة؟ تشكلت حركة حماس أمام أعيننا، قاتلنا الفلسطينيون وفقدنا مئات الجنود والمواطنين؛ فقط في السنوات بين 2005 – 2001 قُتل في غزة ومحيطها 120 إسرائيليًا. بالمقابل علينا أن ندرك ماذا حدث بعد أن خرجنا. مرت عشرة أعوام تقريبًا. قُتل طوال تلك السنوات 60 إسرائيليًا تقريبًا. أي، لقد انقضى ضعف السنوات (تسع مقابل أربع) وعدد القتلى انخفض إلى النصف.

يمكننا استخلاص نتيجتين من هذه المعطيات. النتيجة الأولى: التواجد في غزة أخطر بكثير من التواجد في محيطها، لأن عدد القتلى كان أكبر بأضعاف في سنوات التواجد في غزة – ثلاثون قتيلاً بين عامي 2005 – 2011 مقابل أقل من عشرة بين عامي 2005 – 2014. والنتيجة الثانية متعلقة مباشرة بمسألة الهجوم البري. لن يحسّن بالضرورة، بقاء الجيش في المنطقة، مسألة إحباط العمليات. حين كنا متواجدين داخل غزة لم نستطع أيضًا منع وقوع اعتداءات وإطلاق نار على إسرائيل. أكثر حدث تراجيدي يذكرنا بأن  السيّطرة على الأرض لا توفر الأمن هو اختطاف الشبان الثلاثة مؤخرًا وقتلهم –  آخر حلقة من سلسلة عمليات القتل التي حدثت في الضفة الغربية، وهي المنطقة التي تخضع غالبيتها لسيطرتنا.

عباس ومشعل يلتقيان في الدوحة مايو 2014 (AFP)
عباس ومشعل يلتقيان في الدوحة مايو 2014 (AFP)

من يعتقد أن هذه المعطيات ليست إلا لعبة إحصائية يمكنه أن يتأمل ما حدث في لبنان. دخلنا إلى لبنان عام 1982 وخرجنا في عام 2000 وكما حدث خلال سيطرتنا على قطاع غزة بأنه شهدنا ولادة حركة حماس كذلك حدث في سنوات سيطرتنا في لبنان أن شهدنا ولادة حزب الله. مات خلال سنوات تواجدنا الـ 18 في لبنان 1200 جندي إسرائيلي. خلال السنوات الـ 14 التي هي سنوات خروجنا من لبنان مات أقل من 200 جندي ومواطن إسرائيلي عند الحدود اللبنانية. الخلاصة التي يمكن التوصل إليها من حالتي غزة ولبنان بسيطة: السيطرة على الأرض لا تحسّن أبدًا مسألة السيّطرة على الناس الذين يعيشون في تلك المنطقة. على العكس، ذلك الأمر يشعل كراهيتهم ويدفعهم نحو خلق تنظيمات وتطوير أساليب قتالهم ضدّنا. واضح تمامًا أنه من ناحية الحفاظ على حياة الناس فإن أي توغل بري، وأي بقاء ممتد ومستمر يتيح “علاجًا جذريًّا”، كما يقول المؤيدون لشن هذه العملية، قد يؤدي ذلك إلى خسائر كبيرة وعدم السيطرة على السكان.

 يمكن لمن لا يكتفي بالمشاكل التي لدينا أن يتعلم من مشاكل غيرنا. تم طرد فرنسا من الجزائر بعد أن ثار السكان المحليون، الذين خضعوا للاحتلال طوال مائة عام؛ وخسرت الولايات المتحدة في فيتنام أكثر من 50.000 جندي وانسحبت وهي تجر أذيال الخزي خلفها؛ وانهارت قوات الاتحاد السوفيتي في أفغانستان بعد 10 أعوام من القتال وخرجت مهزومة من المناطق التي احتلتها. لا يمكن في عصرنا الحالي لأي شعب أو أمة أن تسيطر على شعب آخر يعارض السيطرة  دون دفع ثمن باهظ جدًا بالأرواح.

 بالعودة إلى موضوعنا. قام أفراد حماس بعملية الاختطاف والقتل وقيادة حماس هي التي دفعت نحو جولة الصراع هذه لأسبابها الشيطانية. لا شك أبدًا أن حماس، في ظل الوضع الراهن، تشكل عائقًا أمام جهود السلام. كيف يمكن إخفاء مثل هذه الجهة العدوانية والخطيرة؟

عباس ونتنياهو في لقائهما عام 2010 (AFP)
عباس ونتنياهو في لقائهما عام 2010 (AFP)

الإجابة بسيطة: نتحدث مع عدوه. نتفاوض مع أبي مازن، نتيح له إقامة دولة مستقلة في الضفة الغربية، نساعده على تحسين الاقتصاد هناك، وننتظر. إن كانت هناك سيادة فلسطينية في الضفة، وإذا تم توفير الأمان لسكانها، الرزق لعائلاتها، مستقبل لأولادها – من خلال أدوات دبلوماسية، ستقف حماس في حالة ارتباك ويأس. حين يرى سكان غزة ما الذي سيكون بالإمكان الحصول عليه بوسائل دبلوماسية سيزداد الضغط على حماس. وبما أن دعم جماهير غزة لحركة حماس هو أمر هام، فلا شك أن حماس ستُقدم تنازلات وتقوم بتغييرات ستقود إلى اختفائها وعدم بقائها كما نعرفها الآن.

ربما تمكنت حكومات إسرائيل حتى الآن من اللعب مع حماس. لن يحقق أيضًا بيبي وبوغي، اللذان لا زالا يديران هذه الجولة بشكل جيد، حلم “العلاج الجذري”. في حال أمرا بشن هجوم بري أو لا فإن الإنجاز سيكون تكتيكيًا فحسب. لن تختفي حماس في الوضع الراهن وفي الفترة القريبة أيضًا. على الأرجح، ستبدأ جولة أخرى بعد بضعة أشهر أو بضع سنوات على أكثر تقدير. هذا هو أقصى إنجاز حققناه في الماضي عندما كنا نسيطر على غزة أو لبنان، وهذا هو أقصى ما سنحققه الآن.

فقط عندما تفهم القيادات اليمينية بأن السلام هو هدف استراتيجي بالنسبة لإسرائيل، وأن الدولة الفلسطينية التي يتم تحقيقها دبلوماسيًا ستشكل خطرًا على حماس، الأمر الذي يعارضه اليمين، سيكون بالإمكان هزيمة حماس. إلا أنه طالما أن الحكومات الإسرائيلية تقدس مسألة المستوطنات لن يكون هناك اتفاق مع أبي مازن وستستمر حماس بإطلاق الصواريخ على إسرائيل. حاليًا، سلم الأولويات بالنسبة لحكومات اليمين واضح تمامًا: إقامة المستوطنات وبقاء حماس أهم من السلام والقضاء على حماس.

نُشر المقال للمرة الأولى في موقع ‏Can Think‏

اقرأوا المزيد: 833 كلمة
عرض أقل
القاعدة في العراق (AFP)
القاعدة في العراق (AFP)

القاعدة 2014: صورة عن الوضع الراهن

على ضوء وجود القاعدة وأتباعها على حدود إسرائيل في جنوب سوريا وسيناء، من الجدير معرفة نقاط قوّتها وضعفها. منذ أن بدأ الغرب باغتيال قادة القاعدة، فإنّ الإسلاميين المتطرّفين ينجحون على المستوى التكتيكي ولكنّهم يفشلون على المستوى الاستراتيجي

يثير اختراق عناصر مرتبطة بالقاعدة إلى جنوب سوريا وسيناء التساؤلات حول قدرات هذه الحركة اليوم. ما هي نقاط قوّتها وضعفها؟ الإجابة بإيجاز، وهي أنّ الآلية المركزية للقاعدة ضعُفتْ ولكن فروع الحركة المنتشرة في مناطق مختلفة في آسيا وأفريقيا تزداد قوّة. ظهر الضعف في الآلية المركزية بسبب الجهود التي لا هوادة فيها من السلطات الأمنية في العالم كلّه، والتي تتعاون مع بعضها البعض في مطاردة الحركة واغتيال زعمائها. الحادث الأكثر شهرة، بطبيعة الحال، هو اغتيال أسامة بن لادن نفسه. لا تدعُ القوات الأمنية الغربية زعماء التنظيم وشأنهم، وتقوم بالإضرار بهم قدر الإمكان.

بل قد اضطرّت القيادة المركزية للقاعدة إلى مواجهة الصعوبات المتعلّقة بنقل التعليمات للقادة الميدانيين وعدم امتثال هؤلاء القادة. ويمكننا أن نرى نموذجًا لذلك في محاولة الزعيم الحالي للقاعدة، أيمن الظواهري، لجَسْر الهوّة بين تنظيمي القاعدة المقاتلين في سوريا، “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) و “النصرة”. فشلت المحاولة، وفي الواقع أثبتت أنّ قادة المقاتلين في الميدان هم من يقرّر سياسات التنظيمات المختلفة.

بل فشل الظواهري في محاولته بأن يملي على التنظيمات المحليّة نوعية الهجمات التي ينبغي عليهم تنفيذها. منذ زمن طويل يحاول زعيم تنظيم القاعدة منع العمليات التي تشمل مهاجمة الأبرياء؛ فقد فهم أنّ هذه العمليات المبتذلة تهدم في نهاية المطاف اسم التنظيم وتبعد عنه المؤيّدين المحتملين. ولكن هنا أيضًا لم يتعاون القادة الميدانيين معه وتصرّفوا بخلاف تعليماته.

عناصر من القاعدة في اليمن (AFP)
عناصر من القاعدة في اليمن (AFP)

إنّ فشل القيادة المركزية للقاعدة يُبرز النجاح النسبي للعناصر المحليّة المرتبطة بالتنظيم والتي تحاول اختراق مناطق تعاني من غياب الإدارة. فعلى سبيل المثال، في جنوب سوريا وسيناء استغلت التنظيمات الإسلامية المتطرّفة الفراغ في السلطة ونجحت في السيطرة على مساحات بأكملها، وفي اليمن والصحراء الكبرى تنفّذ تنظيمات مرتبطة بالقاعدة بعض العمليات الإرهابية كلّ أسبوع. يقوم قادة هذه التنظيمات المحليّة بفعل ما يريدون، حتى وإن كان معنى ذلك عصيان أوامر الزعيم، الظواهري.

لا تخشى التنظيمات المحلّية من تحدّي أوامر القيادة المركزية بسبب استقلاليّتها الاقتصاديّة. وقد طوّرت فروع القاعدة في شمال أفريقيا واليمن سلسلة من الوسائل يمكنهم من خلالها تجنيد الأموال: عمليّات الخطف مقابل الفدية، الجريمة، سرقة بطاقات الائتمان. في سوريا، تحظى عناصر القاعدة التي تقاتل ضدّ الأسد والعلويّين من جهة وضدّ حزب الله والشيعة من جهة أخرى بتبرّعات خاصّة من الإمارات في الخليج، وفي سيناء، فإنّ مصدر الدخل الرئيسي هو التهريب. على ضوء قدرتهم على تجنيد مصادر تمويل خاصة بهم، فإنّ قادة التنظيمات التابعة للقاعدة ليسوا مستعدّين لتلقّي التعليمات من المؤسَّسات المركزية للحركة.

الأخبار السيّئة، هي أنّ التنظيمات التابعة للقاعدة والتي تنتمي إلى أيديولوجيّتها القتالية تستطيع بسهولة نسبيّا أن تخترق مناطق مسلمة تعاني من ضعف الإدارة والتأسس بها. إنّ ظهور هذه القوات على الحدود الشمالية والجنوبية لدولة إسرائيل يشكّل خطرًا محتملا، والذي قد يصبح تهديدًا فعليًّا خلال مدّة قصيرة.

نشطاء القاعدة  في الصومال (AFP)
نشطاء القاعدة في الصومال (AFP)

بالإضافة إلى ذلك فمن المهمّ أن ننتبه إلى أن التنظيمات المحلّية تجد صعوبة في تأسيس هرمية قيادية وأن تتعاون فيما بينها. يضع الانقسام إلى منظّمات متعدّدة وعدم القدرة على التنسيق فيما بينها، كما يمكن أن نرى في سوريا، أمام زعماء القاعدة تحدّيًا قياديّا صعبًا. ويبدو أنّ القاعدة تجد صعوبة في بناء تنظيم مركزي وقوي يستطيع بقوى مشتركة أن يحقّق إنجازات استراتيجية. فضلًا عن ذلك، وجدت القاعدة صعوبة حتى الآن في تنفيذ هجمات تضع الأنظمة في تلك الدول في خطر، ويبدو أيضًا أنّها لا تستطيع أبدًا أن تصل إلى الغرب للإضرار به.

ستبقى القاعدة في السنوات القادمة في الشرق الأوسط وأفريقيا، رغم أنّه يتّضح مرّة بعد مرّة أنّها غير قادرة على إقامة وحدات سياسية في هذه المناطق. وللخلاصة، فإنّ القاعدة تتمتّع بإنجازات تكتيكية محلّية، لكنّها لا تستطيع أن تترجمها إلى عمليّات استراتيجية على المدى البعيد.

نُشر المقال للمرة الأولى في موقع ‏Can Think‏

اقرأوا المزيد: 550 كلمة
عرض أقل
محاكمة الرئيس المخلوع محمد مرسي، المحكمة الدستورية العليا في القاهرة (AFP)
محاكمة الرئيس المخلوع محمد مرسي، المحكمة الدستورية العليا في القاهرة (AFP)

دُمية على خيوط: السلطة القضائية في مصر

محاكمة سريعة، تبعها قرار قاضٍ مصري إعدام 529 متَّهمًا من "الإخوان المسلمين"، يكشفان مجدّدًا الوجه الحقيقي لهذه المنظومة - دمية على خيوط يتلاعب فيها الجيش

يوم الاثنين، 24 آذار 2014، سُجّلت إحدى أكثر اللحظات المخزية في تاريخ القضاء في مصر. ففي حُكمٍ غريب، قرّر القاضي إعدام 529 متّهمًا ينتمون إلى “الإخوان المسلمين”، بينهم مُرشد الحركة محمد بديع. لم يشمل المسار القضائي الذي سبق إصدار الحُكم أكثر من جلستَين، لم يقدِّم الادّعاء أدلّة تدين كلّا من المتَّهمين إفراديًّا، ولم يُتَح للدفاع أن يدافِع عن المتَّهمين. في خطوة بالغة السرعة، كشف القضاة أنهم أسرى حكّام البلاد.

بطبيعة الحال، أثار قرار المحكمة سخط “الإخوان” وعائلاتهم. فقد قال نبيل عبد السلام، محامي عدد من أعضاء “الإخوان”، بينهم الرئيس السابق محمد مرسي، إنّ “هذه هي المحاكمة الأسرع وعدد المحكوم عليهم بالإعدام الأكبر في تاريخ الجهاز القضائيّ”. وأدانت منظمات حقوق الإنسان في مصر، سواء المستقلّة أو شبه الحكوميّة مثل المجلس القوميّ لحقوق الإنسان، هذه الخطوة أو ذكرت أنها ستُلغى حين يستأنف المتَّهمون. أمّا وزارة الخارجية الأمريكية فذكرت أنّها مصعوقة من الحُكم.

محاكمة بعض أنصار الإخوان المسلمين في الإسكندرية (AFP)
محاكمة بعض أنصار الإخوان المسلمين في الإسكندرية (AFP)

وحدث ذلك إلى جانب فضائح قضائيّة أخرى، مثل اعتقال وسجن صحفيين من قناة الجزيرة التلفزيونية قبل أشهر، بتهمة إلحاق تقاريرهم الأذى بالدولة. ويثير احتجاز أحدهم، الصحفي الأستراليّ بيتر غْرِست، توتّرًا دبلوماسيًّا بين مصر وأستراليا، حتّى إنه يهدِّد بالتحوّل إلى قضية سياسيّة في أستراليا نفسها، إذ إنّ غْرِست اعتُقل نهاية 2013، لكنّ رئيس حكومة أستراليا، طوني أبوت، لم يتكلّم في شأنه مع الرئيس المصري الانتقالي، عدلي منصور، سوى في الأسبوع الفائت. وأثار ردّ الفعل البطيء لأبوت انتقادًا حادًّا من جانب المعارضة الأستراليّة.

الجهاز القضائي في مصر، الذي يواجه الكثير من المنتقِدين من الداخل والخارج، هو موضوع الدراسة الأكاديمية للباحث القانونيّ ناثان براون. فمؤخرا، نشر براون مقالة في موقع “مركز كارنيغي”، نشرها قبل ذاك كافتتاحية في “واشنطن بوست”، تناقش ثقافة الجهاز القضائيّ في مصر وسلوكَه. وذكر براون عددًا من المميّزات التي توضح سلسلة الأحكام الغريبة للمحاكم، التي تضرب بأسس القضاء السليم عرض الحائط: تبعيّة الجهاز القضائي للقوى السياسيّة، الناجمة عن تحكُّم السلطة التنفيذية منذ فترة طويلة بحقّ تعيين ذوي المناصب المركزية في القضاء، مثل رئيس المحكمة الدستورية والمدّعي العام، وعن تمتُّع قضاة كثيرين بـ “امتيازات” لدى السلطة التنفيذيّة؛ التضامُن الجماعي والقرابة العائلية، التي تشمل انتقال مناصب قضائية من الأب إلى الابن أحيانًا؛ والحطّ من قدر الجهاز القضائي أمام القوى الأمنيّة.

محكمة الاسكندرية الابتدائية (AFP)
محكمة الاسكندرية الابتدائية (AFP)

ظهرت الصلات السياسية للقضاء المصري بشكلٍ واضح في حزيران 2012، قبل يومَين من الانتخابات الرئاسية، التي تنافس فيها محمد مرسي، مرشَّح “الإخوان المسلمين”، والفريق أحمد شفيق، العسكريّ المقرَّب من مبارك، على رئاسة الجمهورية. في ذلك الوقت تحديدًا، قرّرت المحكمة الدستورية العليا حلّ مجلس الشعب المصري، الذي كان يسيطر عليه “الإخوان المسلمون”. هدفت تلك الخطوة إلى إلحاق الضرر بالإخوان، إذ فكّكت مرتكز قوّتهم في البرلمان، وأذلتهم ضاربةً حظوظ فوزهم في الانتخابات. كما هو معلوم، لم يؤدٍّ ذلك في النهاية إلى منع انتصار مرسي، لكنه أظهر استعداد القضاة للتعاوُن مع الحكّام، ولرهن الجهاز القضائي لسلطة خُصوم “الإخوان”. في الواقع، كانت هذه مقاربة قُضاة مصر بين عامَي 2011 و2013، السنوات التي حقّق فيها “الإخوان” إنجازاتهم الديمقراطيّة. كان الجيش والجهاز القضائيّ العقبتَين الأساسيّتَين في طريقهم والقوّتَين المركزيّتَين اللاجمتَين لهم، إذ تكلّم القضاء باسم القانون، لكنه عمل فعليًّا لصالح الجيش.

يعتقد كثيرون أنّ قرار الأسبوع الماضي لن يخرُج إلى حيّز التنفيذ، ولن يتمّ إعدام المتَّهمين الـ 529. ربّما. لكنّ الرسالة العنيفة والعدوانيّة وصلت بنجاح. فالسيفُ مُصْلَتٌ على رقاب معارضي الجيش والنظام، والجهاز القضائيّ هو من نفّذ ذلك. هكذا برهنت السلطة القضائية في مصر أنها ليست أكثر من دُمية يتحكّم الجيش في خيوطها.

نُشر المقال للمرة الأولى في موقع ‏Can Think‏

اقرأوا المزيد: 527 كلمة
عرض أقل
مروحية عسكرية أمريكية في سماء القاهرة (VIRGINIE NGUYEN HOANG / AFP)
مروحية عسكرية أمريكية في سماء القاهرة (VIRGINIE NGUYEN HOANG / AFP)

مصر: جيش مع دولة

الانتخابات التي ستجري في مصر في الربيع القادم لا تبشر بأي تغيير كبير. الجيش سيستمر في قيادة البلاد، والاقتصاد سيتدهور وسيتحمّل الشعب الأعباء. في الوقت الراهن يبدو أنّ للجيش المصري هناك دولة وليس العكس

في حزيران القادم، كما يقول عدلي منصور، سيصبح رئيس مصر المؤقت رئيسًا دائمًا. يعتقد الخبراء الآن بأنّ الاحتمالات الأكبر هي لصالح عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع، في أن يُنتخب رئيسًا. وبالفعل، يأمُل الكثيرون في مصر بأن يرسي السيسي الاستقرار في مصر بل وأن يواجه بكفاءة مشاكلها المعقّدة، حيث إنّ المشكلة الأكثر إلحاحًا هي مشكلة الاقتصاد المتعثّر. ومع ذلك، فمن الصعب أن يتجنّب المشاهد الانطباع بأنّ السيسي هو رجل من المؤسسة العسكرية لمصر القديمة، وبالتالي سيكون كما كان من قبل.

في الثقافة السياسية المصرية هناك عامل واحد يلقي بظلاله على كلّ شيء آخر؛ استقلاليّة الجيش وقوّته الاقتصادية. ومعنى استقلاليّة الجيش أنّه ليس خاضعًا لرقابة مدنية حقيقية، ولا يمكن المسّ بميزانيّته. طوال فترة “الربيع العربيّ” وخلال النقاشات حول الدستور المستقبلي لمصر كان الجيش قادرًا على الحفاظ على مصالحه ومنع التدخل الحقيقي في شؤونه. وقد تمثّل اتجاه الحفاظ على قوة الجيش واستقلاليّته في الدستور المصري الذي أقرّ قبل عدّة أشهر.

في الوقت الراهن، فإنّ قبضة السلطات المدنية على الجيش (والتي تُقاد كما يبدو بأيدي السيسي، والذي هو من طينة العسكر)، ستزول وتتداعى.

عبد الفتاح السيسي (صورة من الصفحة الرسمية للمتحدث العسكري للقوات المسلحة المصرية)
عبد الفتاح السيسي (صورة من الصفحة الرسمية للمتحدث العسكري للقوات المسلحة المصرية)

من الصعب أن نقدّر بأرقام دقيقة قوّة الجيش الاقتصادية. هناك من يشير إلى كونه يسيطر على 40% من الاقتصاد المصري. وحتى لو كان هذا الرقم مبالغًا فيه، فمن الواضح أن الجيش يتمسك بمصالح اقتصادية واسعة النطاق وأنه لاعب اقتصادي مركزي مؤثر على اقتصاد البلاد. ومثال على ذلك، فهناك عقد كبير وقّعه الجيش مع شركة “عربتك” من دبي من أجل بناء مليون وحدة سكنيّة في جميع أنحاء مصر مقابل أربعين مليار دولار. ستقوم الأبنية على أراضٍ تابعة للجيش المصري. إنّ مشروعًا بهذا الحجم، والذي من المتوقع أن يؤثر بشكل عميق على العمالة في مصر وعلى أسعار المساكن في السوق، وبالتالي على النظام الاقتصادي بأكمله؛ هو مؤشّر واضح على تأثير الجيش على الاقتصاد والحياة اليومية لسكان مصر.

إنّ الانتخابات التي يكون المرشّح الرئيسي فيها رجلا من كبار العسكريين، والذي لا يزال حتى اليوم، قبل ثلاثة أشهر من الانتخابات، يرتدي الزيّ العسكري،  لا تبشّر بتغيير بعيد المدى في السياسة المصرية. إنّ ثالوث “الجيش، الثروة، السلطة”، والذي يولي فيه الجيش جزءًا كبيرًا من المضامين والقرارات المتعلقة بالدولة بأكملها للثروة والسلطة؛ يدلّ على أنّ الثقافة السياسية في مصر قد تراجعت وهي محاصرة مرّة أخرى في قبضة الجيش الخانقة، كما كان الحال عليه في العقود التي سبقت “الربيع العربي”.

ولا نستطيع حاليًّا أن نحدّد مدى القوة التي يمكنها تقويض قوة الجيش المصري السياسية أو تقديم ثقافة سياسية جديدة. تقلّدت قوة المعارضة الأهم في مصر وهي “الإخوان المسلمون” السلطة، لعام ثم تم إسقاطها. أولا: إذا كان “الإخوان” قد فشلوا بسبب سلوكهم السياسي الهاوي أو بسبب الاستخفاف وتدمير النخب القديمة (والتي ترأسها الجيش والنظام القضائي المصري)؛ فإنّ الذي يتّضح من تلك التجربة بأنّه لا يوجد قوة قادرة اليوم في مصر على أن تحرّكها من الغيبوبة السياسية – الاجتماعية التي دخلت فيها. لقد وجّه فشل “الإخوان” ضربة قوية للجهود الرامية إلى دمج الحركات الإسلامية في السياسة المصرية وتغيير هيكلها العميق.

إنّ قطاعات واسعة من السكّان، وخصوصًا في الأوساط الشبابية، تعاني من الإحباط من الوضع الحالي. يشكّك الكثيرون في أن يغيّر انتخاب الرئيس في أواخر الربيع من أنماط السياسة والاقتصاد في مصر، ويستنتجون من ذلك أنّ البلاد تتّجه نحو سلسلة من الأزمات الاقتصادية، مما سيخرج الجماهير مجدّدًا من بيوتهم إلى الشوارع. إنّ إبقاء القوة بيد النخب القديمة لمصر معناه استمرار بل وتزايد التوتّر بين الحكّام والشعب. وعلى ضوء ذلك، فمن المحتمل جدًّا أن ينفجر التوتّر المتراكم تحت السطح ويهزّ البلاد.

(KHALED DESOUKI / AFP)
(KHALED DESOUKI / AFP)

استطاع الجيش خلال “الربيع العربيّ” الحفاظ على ممتلكاته، وعلى مكانته وقوّته السياسية. في الواقع فقد خرج معزّزًا من هذه الأحداث، في حين أنّ المجتمع المدنيّ يستمر في الضعف. من المحتمل أن تذمر منظّمات حقوق الإنسان والمواطنين الجريئين، والذين يقومون بتوجيه النقد للجيش من اليوم،  أن يمتزج مع الإحباط المتفشي بين الطبقات الدنيا في مصر، والتي يئست من فشل الحكّام في تحسين أوضاعها الاقتصاديّة. عند هذه النقطة سنرى انفجارات جديدة. حيث إنّه حين ينعزل الثالوث – الجيش، الثروة، والسلطة – عن الشعب، فسيعود احتجاجه على شكل أمواج.

تم نشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع: ‏http://canthink.molad.org‏/

د. نمرود هوروفيتس، مختصّ في مجال إسلام القرون الوسطى، القانون، والمجتمع في الشرق الأوسط والعلاقات بين الدين والدولة. مُحاضِر في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة بن غوريون في النقب. محرّر وكاتب ثابت في موقع Can Think

اقرأوا المزيد: 661 كلمة
عرض أقل
مظاهرات في شوارع تونس (AFP)
مظاهرات في شوارع تونس (AFP)

زهرة “الربيع العربي” الوحيدة

فهم راشد الغنوشي، زعيم الحزب الإسلامي في تونس، ما لم يفهمه زملاؤه في مصر: من الأفضل التسوية مع المناوئين العلمانيين بدلا من أن نملي عليهم قواعد اللعبة السياسية

لذلك بإمكان تونس أن تبدأ بمعالجة اقتصادها المدمّر، بينما تئنّ مصر تحت ظلم الحكم العسكري.

“نحن لسنا ملائكة. نحن نريد قوة، ولكننا نعتقد أن الدستور الديمقراطي أهم لتونس”، هذا ما قاله راشد الغنوشي، زعيم الحركة الإسلامية – النهضة، في محاضرة ألقاها بواشنطن خلال جولته في العاصمة الأمريكية.

كان واضحًا من سلسلة الخطابات التي ألقاها في الولايات المتحدة أن الغنوشي ينظر إلى بلاده من زاوية رؤية تاريخية: “يمثّل دستورنا حلم الإصلاحيين الكبار في القرن التاسع عشر، الذين سعوا إلى دمج قيم الإسلام مع قيم الديمقراطية”، تصنع تونس التاريخ، وفقًا للغنوشي، وتنفذ برنامجًا سياسيًّا توقف لأكثر من مئة عام بسبب تدخّل الاستعمار من الخارج والمستبدّين من الداخل. وأهمّ من كلّ شيء، أنها تثبت إمكانية دمج المبادئ الإسلامية مع المبادئ الديمقراطية.

والسبب في أنّ تصريحات الغنوشي مقنعة ليس في الكلمات الظاهرة في الدستور الذي يفخر به وإنما في حقيقة أنّه من أجل الوصول إلى صيغة متفق عليها للدستور، تمكّنت التيارات الإسلامية والعلمانية في تونس من إيجاد حلّ وسط فيما بينها.

السيد راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة الإسلامي في تونس (AFP)
السيد راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة الإسلامي في تونس (AFP)

والفرق الملحوظ بين تونس ومصر هو أنّ الإسلاميين في تونس أدركوا القيود المفروضة عليهم ووافقوا على التنازل عن مواقع السلطة، مع علمهم بأنّها ستقع في يد ممثّلي التيارات العلمانية. إن التفاهم حول الدستور المتفق عليه، وإنْ كان ليس كافيًا تمامًا بالنسبة للإسلاميين، فهو مهمّ لتونس وللإسلاميين أنفسهم أكثر من بعض البنود التي تعزّز سيطرة الإسلام على الدولة، وهذا هو مصدر القوة لتونس والسبب في أنّ هناك أساس في الواقع لتصريحات الغنوشي. وقد فهم زعماء النهضة جيّدًا بأنّه في النظرة التاريخية، الأهمّ أن تثبت للعالم كلّه بأنّ الإسلام والديمقراطية قادران على التعايش بدلا من الإصرار على قوانين مصدرها القانون الإسلامي التقليدي (الشريعة).

وكما يتناسب مع الاعتبارات العملية التي اتّسمت بها النهضة في السنوات الثلاث الأخيرة، والتي تحوّلت فيها من حركة إسلامية إلى حزب سياسي واندمجت في الساحة السياسية في تونس، فقد أعلنت النهضة بأنّها لن تطرح مرشّحًا في الانتخابات الرئاسية، وتنازلت بذلك مسبقًا عن موقع القوة الأهمّ في تونس. وذلك بخلاف مصر، حيث أعلن فيها في الشهور الأولى من “الربيع العربي” الحزب الإسلامي الرائد، “الإخوان المسلمون”، تصريحًا مشابهًا – رغم تراجعهم عنه فيما بعد – وفاز الحزب في الانتخابات، وفي نهاية المطاف أيقظ غضب الجماهير وتم عزله من الساحة السياسية بيد الجيش. وسنعلم قريبًا إذا ما كان في نيّة زعماء النهضة أن يقوموا بعملية مماثلة لما قام به “الإخوان المسلمون” في مصر أو إنّهم سيتنازلون فعلا، في الوقت الراهن، عن موقع القوة الأكبر في تونس.

احتفالات في تونس بمناسبة ثلاث سنوات لإطاحة بن علي (AFP)
احتفالات في تونس بمناسبة ثلاث سنوات لإطاحة بن علي (AFP)

يسود الهدوء النسبي في تونس (بالمقارنة مع دول أخرى مرّت بتجربة “الربيع العربي”) وقد اتّضح في الأسبوع الماضي حين أعلن الرئيس منصف المرزوقي، ممثّل التيار العلماني، عن إلغاء حالة الطوارئ في البلاد. ووفقًا للقانون في تونس، فإنّ الإعلان عن حالة الطوارئ يُمكّن السلطات من منع التجمّعات، فرض الرقابة على وسائل الإعلام، إلغاء الفعاليات الفنية بل وحتى تتبّع السيّاح. في السنوات التي سبقت “الربيع العربي” أعلن الرئيس زين العابدين بن علي حالة الطوارئ مرّات عديدة. بعد اندلاع “الربيع العربي” استمرت تونس في حالة الطوارئ بسبب أعمال الشغب والصراع العنيف ضدّ قوى الجهاد. في هذا الأسبوع فحسب، للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، يثق قادة تونس بأنفسهم جيّدًا بحيث ألغوا حالة الطوارئ وأعادوا الجنود، الذين كانوا يقومون حتى الآن بدوريات في المناطق المدنية، إلى معسكرات الجيش.

وفضلا عن الثقة بالنفس التي تعكسها، فإنّ لهذه الخطوة آثار اقتصادية كبيرة، حيث إنّها إشارة إيجابية للمستثمرين التونسيين بل وحتى المستثمرين من الخارج، وستساعد أيضًا في انتعاش صناعة السياحة؛ وهي مصدر الدخل الرئيسي في اقتصاد البلاد، والذي تضرّر بشدّة في أعقاب “الربيع العربي”. ويدلّ إلغاء حالة الطوارئ على أنّ تونس تستعدّ للخطوة التالية في الانتقال من الدكتاتورية إلى الديموقراطية: التعامل المباشر مع مشاكل الاقتصاد المنهار، وهي القضية المؤلمة في معظم البلدان العربية (في الواقع في جميعها، باستثناء الدول التي تتمتّع بدخل النفط).

يبدو أنّه على الرغم من ارتفاع العنف في تونس عام 2013، وربما بسبب تراكمه في هذا العام بالذات، قرّر زعماء التيارات المختلفة، وعلى رأسهم زعماء الإسلام المعتدل، التنازل لخصومهم السياسيّين عن مواقع القوة والتوصّل إلى تسوية من شأنها أن تحدّد قواعد اللعبة السياسية الديمقراطية الجديدة وأن تتوجه أخيرًا لمعالجة الصعوبات الحقيقية في المجتمع التونسي.

تم نشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع Can Think

اقرأوا المزيد: 641 كلمة
عرض أقل
مقاتلو القاعدة في اليمن (AFP)
مقاتلو القاعدة في اليمن (AFP)

الشعب لا يريد القاعدة

صراع القاعدة وشركائها في شبه الجزيرة العربية يعود ويؤكد ما رأيناه في مناطق أخرى في الشرق الأوسط: الشعب لا يريد القاعدة. يكّر التنظيم وشركائه حياة المواطنين، وهم ينضمّون إلى القوات المناوئة للإسلاميين المتطرفين

إحدى المناطق التي نجحت فيها القاعدة وشركائها في البقاء فيها بل والتغلّب على خصومها أحيانًا هي اليمن. نجاحها النسبي في اليمن ليس فيه ما يفاجئ، ففي هذه الدولة تتوفر الظروف الأساسية المطلوبة لقيام القاعدة: تضاريس جبلية في معظم البلاد، مما يصعّب عملية السيطرة، وحكومة فاشلة لا تستطيع توحيد جميع القبائل والطوائف في دولة متّحدة، وبالتالي أيضًا يجد صعوبة في تجنيد القوات العسكرية المطلوبة من أجل التغلب على الإسلاميين. في هذه الظروف، هاجمت الحركة التي تسمى “أنصار الشريعة”، وهي حركة تتعاون مع القاعدة في شبه الجزيرة العربية، الأسبوع الماضي قاعدة عسكرية يمنية في منطقة أبين. فشلت المحاولة، ولكنها تثير تساؤلات حول نجاح أو فشل القاعدة في اليمن.

يعتبر اليمن أحد أفقر البلدان في العالم، وأبين هي إحدى أفقر المحافظات فيه. تحولّت هذه المحافظة في السنوات الماضية إلى ساحة صراع بين القاعدة وحكومة اليمن. في بداية عام 2011، سيطرت أنصار الشريعة على المنطقة، وفي وقت لاحق في آذار 2011 أعلنت أنها إمارة تحت السيطرة. دفع هذا الإنجاز للحركة والتهديد الذي تضمّنه على سيادة اليمن، الحكومة إلى التشمير عن سواعدها وتنظيم صراع عسكري واسع من أجل صدّ القوات الإسلامية.

تصرفت السلطة في اليمن بحكمة. بدلا من أن تواجه أعداءها بنفسها، قامت بتجنيد أبناء القبائل المجاورة لهذا الغرض. حتى رئيس اليمن كان مشاركًا في العملية. فقد التقى برؤساء القبائل في المنطقة وشجّعهم على الانضمام إلى الجيش والقتال سوية ضدّ القوات الإسلامية. نجحت الحكومة في تجنيد أكثر من 6000 مقاتل مأجور، حيث وصلت أجرة المقاتل ربما إلى 150 دولارًا شهريّا. هكذا نشأت في عام 2011، قوة تُدعى “لجان الدفاع الشعبي”، والتي وظيفتها دعم الجيش في الحرب ضدّ الإسلاميين المتطرّفين المرتبطين بالقاعدة. وتشبه هذه الخطوة لحكومة اليمن بشكل كبير خطوة قام بها الأمريكيون في العراق نحو عام 2006، حين توجّهوا إلى القبائل في منطقة الأنبار وبدأوا بالتعاون معهم. وكانت النتيجة ضربة قاسية (وإنْ لم تكن مميتة) لقوات الإسلاميين في العراق.

إحدى الشخصيات المركزية التي عملت في لجان الدفاع الشعبي في اليمن هو عبد اللطيف السيّد، الذي كان في السابق منضمّا للقاعدة، ولكن حين علم أنّ أخاه قُتل على يد قوات القاعدة غيّر وجهته. ويبدو أنّ السيّد يعرف بشكل جيّد الإسلاميين في المنطقة، وتساهم المعلومات التي في يده مساهمة مهمّة جدًّا للّجان والجيش، ولكن نتيجة لذلك أصبح هو نفسه هدفًا لمحاولة الاغتيال من قبل تنظيم القاعدة. في إحدى تلك المحاولات قُتل سائقه، ولكنه نجا. يمكننا أن نستوضح الصعوبة التي تواجهها الحركات الإسلامية المتطرفة في مسعاها لتجنيد الجماهير في صفّها، من خلال تجنيد القبائل ضد القاعدة وشركائها في شبه الجزيرة العربية، وخصوصًا بانتقال السيّد من الحركة الإسلامية المتطرفة إلى اللجان الشعبية. مرّة تلوَ الأخرى، سواء في العراق، أو في اليمن أو في سوريا، تجد الحركات الإسلامية المتطرفة نفسها أمام نفس المشكلة: الشعب لا يريد القاعدة.

بعد أن نظّم الجيش اللّجان افتتح عملية عسكرية واسعة ضدّ أنصار الشريعة، بهدف طرد الإسلاميين من منطقة أبين. وبعد عدّة أسابيع من القتال، والتي راح ضحيّتها مئات القتلى، نجح الجيش واللّجان في احتلال عاصمة المحافظة، زنجبار. وخلال حزيران عام 2012، سحق الجيش واللّجان الإسلاميين من المنطقة. تراجع مقاتلو أنصار الشريعة إلى الجبال والمناطق التي يجد الجيش اليمني صعوبة في السيطرة عليها، ومن هناك يعودون ويهاجمون.

ولكنّ الجيش اليمني أيضًا لديه الصعوبات الخاصة به. فقد ظهرت مؤخرًا تصدّعات وتوتّرات بين لجان الدفاع الشعبي وبين الجيش على خلفية تأخر الجيش في نقل السلاح والرواتب لرجال اللّجان. ويعتقد كثيرون، أنه فيما لو انسحب رجال اللّجان، كما يهدّدون بالفعل إنْ لم يتم دعمهم والدفع لهم، فستدخل القوات الإسلامية بسهولة إلى المنطقة وستزول إنجازات الجيش اليمني كما لو أنّها لم تكن.

وبالتالي ففي حالة الصراع بين حكومة اليمن وبين الإسلاميين سينتصر من ينجح في التغلّب على المشاكل الداخلية له: الإسلاميون على تطرّفهم، الذي يُنشئ عداءً بين سكّان اليمن، وحكومة اليمن على الفساد المستشري في أجهزتها، والتي تنشئ الاغتراب والإحباط بين المواطنين.

نشر المقال على موقع Can Think،  والمختص في شؤون الشرق الأوسط.

اقرأوا المزيد: 596 كلمة
عرض أقل
احتفالات في تونس بمناسبة ثلاث سنوات لإطاحة بن علي (AFP)
احتفالات في تونس بمناسبة ثلاث سنوات لإطاحة بن علي (AFP)

“ربيع عربي” رغم كل شيء: تونس تتقدم نحو تحقيق الديمقراطية

في الأسابيع الأخيرة يسود انطباع بأن تونس تحقق غاية "الربيع العربي". خلافًا لبقية الدول التي خلعت الحُكام المستبدين في "الربيع العربي" ولكنها بقيت غارقة في حروب أهلية أو عاد ليحكمها النظام العسكري، تمر تونس بعملية ديمقراطية حقيقية

حدث أمر مؤثر واستثنائي مع انتهاء الجدل الذي دارت رحاه في البرلمان التونسي على خلفية الوضع القانوني للنساء في البلاد:  أنشد ممثلو الشعب والجمهور في القاعة معًا النشيد الوطني للبلاد. يبدو أن ذلك كان تحريرًا تلقائيًا للتوتر الذي تراكم طوال الأشهر الأخيرة، بينما خاض إسلاميون وليبراليون صراعًا حول  هوية تونس. منذ مقتل كل من شكري بلعيد ومحمد البراهمي، سياسيين ليبراليين ونقاد لاذعين ضد الحركات الإسلامية، يتصارع المعسكران في الشوارع والبرلمان، وكان يبدو للحظات أن تونس أيضًا تقف على حافة هاوية من الشلل السياسي والفوضى الاجتماعية، كما حدث في مصر.

إلا أنه بعد الأشهر القليلة، التي توقفت فيها عملية كتابة الدستور التونسي، عاد المشرّعون إلى اللجنة وتابعوا عملهم. أظهر ذلك الجدل الكثير من الخلافات، ومنها الخلاف حول قانون حرية الضمير، حيث ادعى إسلاميون أن اطلاق مثل هذه الحرية من شأنه أن يتيح للمسلمين تبديل دينهم بأديان أخرى ومثل هذا الأمر يخالف أحكام الشريعة الإسلامية. نشب خلاف آخر أيضًا حول مسألة المساواة بين الرجال والنساء، حيث حاول حزب النهضة، الحزب الإسلامي المعتدل، طرح صيغة تتمحور حول مفهوم “التكامل” بين الجنسين وليس “المساواة”. دفع الاعتراض الشديد الذي أثارته هذه المحاولة في أوساط المعسكر الليبرالي مشرّعي حزب النهضة إلى التراجع عن الصيغ التي تختزل من حقوق النساء.

فاجأ حزب النهضة خصومه عدة مرات باستعداده للتنازل. ليس لأنه أبدى ليونة  فيما يخص التفاوض على بنود الدستور فحسب، بل أيضًا بكل ما يتعلق بالتخلي عن الهيّمنة السياسية. حتى أنه بعد اغتيال شكري بلعيد أصر حمدي جبالي، الذي كان رئيس الحكومة التونسية من قبل حزب النهضة، على الاستقالة. علي العريض، والذي هو أيضًا من حركة النهضة، وكان قد حلّ مكان الجبالي، ولكن قبل نحو أسبوع، في 9 كانون الثاني، استقال هو أيضًا على خلفية وقوع اغتيال سياسي وهو اغتيال محمد البراهيمي عند مدخل بيته وأمام عائلته. دفعت جريمة الاغتيال هذه الكثيرين للادعاء أن حركة النهضة لا تواجه الإسلاميين المتطرفين بجدية، رغم أنه بعد استقالة العريض أثبتت النهضة ثانية بأنها تستمع إلى نبض الشارع التونسي وبأنها لا تريد التمسك بالحكم بأي ثمن.

تونس، الدولة التي أشعلت "الربيع العربي" (AFP)
تونس، الدولة التي أشعلت “الربيع العربي” (AFP)

يمنح التعامل المعتدل لحركة النهضة و التعاون بين المشرّعين الإسلاميين وزملائهم الليبراليين دعمًا للديمقراطية التونسية. إن التقدم الديمقراطي في هذه الدولة هو  نتيجة عاملين أساسيين. الأول هو ليونة التيار البراغماتي بين أوساط الإسلاميين أي حركة النهضة.  رغم أن هذا الحزب خرج من الانتخابات البرلمانية التونسية ولديه الأفضلية، إلا أنه بخلاف نهج “الإخوان المسلمين” في مصر بعد فوزهم بالانتخابات، ظل على اطلاع على الرأي العام في الدولة، وعندما واجه معارضة شديدة على نهجه أو نقد شديد على إدارته السياسية، تنازل وحتى أنه غيّر سياسته. استعداد الحزب للتخلي عن منصب رئاسة الحكومة وإتاحة الفرصة لحكومة تكنوقراطية لتحل محل رئيس الحكومة الذي انتخب من قبله،  يشير إلى أن هذا الحزب يضع في سلم أولوياته تماسك الأمة ومصلحتها.

العامل الثاني لتقدم الديمقراطية في تونس هو الجيش. خلافًا للجيش المصري، المنخرط منذ عشرات السنين في اقتصاد وسياسة الدولة، فإن  الجيش التونسي يبعد  عن هذين المجالين. لذا، ليست لديه مصالح سياسية أو اقتصادية خاصة  ولا يطالب بالحقوق التي طالب بها الجيش المصري – وحصل عليها – عند صياغة الدستور المصري. لم يتدخل الجيش التونسي ولم يصعب الأمور على واضعي الدستور في وقت الأزمة أيضًا.

تقف أمام حكام تونس الكثير من التحديات، وعلى رأسها الاقتصاد. في الواقع، لا يهتم الكثير من المواطنين في الدولة، رجالاً ونساءً على حد سواء،  بتلك التفاصيل  البسيطة في البرلمان المتعلقة بحقوق المرأة والخلافات التي ترافقها؛ إنما ما يقلقهم أكثر هو أنهم لا يملكون ما يكفي من المال للمعيشة، ولإطعام أولادهم والاهتمام بتعليمهم اللائق. غير أن تقدم توسن المستمر، وإن كان بطيئًا، باتجاه الديمقراطية يعطي أملاً بأن حكامها المستقبليين سيواجهون الفساد بشكل حازم وأن تونس ستنجح بالدفع بحركة الاقتصاد وإرساء الحكم. إن نجحوا بذلك، سنشهد نظام حكم واحد على الأقل يتحقق  فيه “الربيع العربي” فعلا.

نشر المقال على موقع Can Think،  والمختص في شؤون الشرق الأوسط. ونضيف أن الموقع “Can Think” هو مشروع مستقل، لا يمت بصلة إلى أي جهة سياسية أو اقتصادية، ويعمل بموجب نموذج اشتراكي. الكُتاب والعاملون في الصحيفة هم أكاديميون، يقدمون تحليلات موضوعية من منظور بحثي.

اقرأوا المزيد: 623 كلمة
عرض أقل
تونس، الدولة التي أشعلت "الربيع العربي" (AFP)
تونس، الدولة التي أشعلت "الربيع العربي" (AFP)

الديموقراطية في صراع على الحياة: الحالة التونسية

رغم الأزمات والاغتيالات السياسية في تونس، ثمة احتمال أن تشّكل الدولة الصغيرة التي أشعلت "الربيع العربي" نموذجًا لاحتواء الإسلام السياسي في إطار ديموقراطي.

الديموقراطية في الدول العربية في صراع على الحياة. خلّفت موجة الاضطرابات والاحتجاجات التي جرفت دولًا عديدة دمارًا سياسيًّا. ففي مصر، أطاحت الجموع بمبارك من السلطة، وضعت “الإخوان المسلمين” مكانه، شاهدتهم يفشلون سياسيَّا، والآن تقبل بلامبالاة متّسِمة بالواقعية عودة المؤسّسة العسكرية – السياسية إلى السلطة. في اليمن وليبيا، لا تزال الفوضى السياسية سائدة. أمّا في سوريا، فيُخاض غمار حرب أهلية تُسفر عن كارثة إنسانيّة. إذا حكمنا بناءً على هذه الدول، فيبدو أنّ “الربيع العربي” تسبّب حتى الآن بضرر هائل وأنتج القليل جدًّا من الإنجازات.

لكن إلى جانب التحرُّر الملطَّخ بالدماء، حدثت بضعة تغييرات هامّة. ففي الواقع، من المبكر رثاء تبنّي الديموقراطية في بُلدان الربيع العربي. أوّلًا، أدركت الجموع أنّ بإمكانها تهديد حكّام أوتوقراطيين وتهديد سلطتهم نفسها. هذا الإدراك هامّ للمُواطنين أنفسهم طبعًا، لكنه يشكّل أيضًا تهديدًا مستمرًّا للحُكّام. ثانيًا، ليس واضحًا أية طرق سياسية يمكن أن تنبع من الفوضى الحاليّة. وثالثًا، تحاول دولة واحدة، تونس، وهي لا تزال تبحث عن طريقها السياسي، بناءَ إطار قانوني وشعبيّ يدمج بنجاح الأحزاب الدينية في نسيج الحياة السياسية.

تونس، الدولة التي أشعلت “الربيع العربي”، هي المختبَر السياسي الأكثر إثارةً للاهتمام في الشرق الأوسط. وتدلّ الأزمة الدائرة فيها في الأشهر الأخيرة تحديدًا على مدى قوّة القوى الديموقراطية في هذه الدولة. فمنذ شباط 2013، حين اغتيل القياديّ المعارِض شكري بلعيد، تواجه المنظومةُ السياسية خضّاتٍ عديدة. تحاول القوى السياسية المنتخَبة تشكيل حكومة تقود تونس، لكنها تخفق في التوصّل إلى اتّفاق حول هوية رئيسها. ويُشير انعدام القدرة على تحديد قائد وقتيّ يقود حكومة انتقاليّة حتّى الانتخابات القادمة إلى انعدام الثقة الذي يسود المنظومة السياسية. لكنّ الطريقة التي يواجه بها التونسيّون التحدي هي مثيرة، بشكل خاصّ لأنّ هيئات من المجتمع المدنيّ، مثل جمعية حقوق الفرد، نقابة القضاة، واتحاد العمل، هي التي تقود عملية البحث عن رئيس حكومة انتقاليّة، فيما السياسيون يتعاونون معها.

موجة الاضطرابات والاحتجاجات التي جرفت تونس (AFP)
موجة الاضطرابات والاحتجاجات التي جرفت تونس (AFP)

لكن تونس تعاني بالتوازي من موجة عمليات إرهابية، بلغت ذروتها في اغتيال شكري بلعيد. فالميليشيات السلفية تتواجه مرةً بعد أخرى مع القوى الأمنية، رغم أنّ الحكومة تحتوي على أكثرية للإسلاميين. وفيما الأحزاب الإسلامية المعتدلة – وذات الشعبيّة – الشريكة في الائتلاف مستعدّة للتنازل في مسألة مكانة الشريعة الإسلامية في القانون التونسي، فالسلفيون، بطبيعة الحال، معنيّون أن تكون الشريعةُ الإسلاميةَ المصدرَ المهيمِن. لكنّ هذه الأزمة تدلّ في حقيقة الأمر على الحضور القويّ للقِيمَ الديموقراطية في تونس، إذ تهتمّ حتّى الأحزاب الإسلامية بتعزيز الديموقراطية، ولو على حساب قِيَم إسلاميّة تقليديّة.

لا يمكن التنبؤ بكيفية حلّ هذه الأزمات. لكن بعد سنواتٍ ثلاث من محاولة تأسيس دولة ديموقراطية، نشأ في تونس بعض المميّزات التي تعزّز استقرارها واحتمال تأسيس دولة ديموقراطية. الميزة الأولى هي القدرة والاستعداد على كبح الجيش. فخلافًا لمصر، حيث نظر الجيش، الذي يتدخّل في السياسة والاقتصاد، إلى الإطاحة بمبارك كأزمة وقتية وانتظر فرصةُ للعودة إلى مواقع قوته التقليدية، يبتعد الجيش في تونس عن السياسة. الميزة الثانية هي عدم نجاح الميليشيات في حصد دعم شعبيّ واسع. فرغم أنّ موجة الإرهاب الميليشوية توتّر العلاقات بين الأحزاب الإسلامية والجمهور الليبرالي، يخفق التيار الميليشوي في حشد دعم شعبي واسع. فمعظم الشعب يدعم حركاتٍ إسلامية معتدلة أو ليبراليّة. أمّا الميزة الثالثة فهي التوازن السياسي الذي لا يمكن فيه للأحزاب الإسلامية حيازة أكثرية تتيح لها تجاهُل الأحزاب الليبرالية، ما يجعلها تميل إلى التسويات.

السؤال المُثير للاهتمام هو: هل ستستمرّ الدولة الصغيرة التي أشعلت نار التمرّد على حُكّام فاسدين في كلّ أنحاء الشرق الأوسط في قيادة الدول العربية، وتعرض أمامها نموذجًا ناجحًا لاحتواء أحزاب إسلاميّة في إطار سياسي ديموقراطي؟

 

نشر المقال على موقع Can Think،  والمختص في شؤون الشرق الأوسط. ونضيف أن الموقع “Can Think” هو مشروع مستقل، لا يمت بصلة إلى أي جهة سياسية أو اقتصادية، ويعمل بموجب نموذج اشتراكي. الكُتاب والعاملون في الصحيفة هم أكاديميون، يقدمون تحليلات موضوعية من منظور بحثي. 

اقرأوا المزيد: 569 كلمة
عرض أقل