أن زحف “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (المعروفة حاليًا باسم “الدولة الإسلامية”) سلّط الأضواء العالمية على سوريا والعراق خاصةً بعدما استولى التنظيم على أراضٍ شاسعة في البلدين. وبالرغم من أن لبنان لا يزال بعيداً عن الأنظار، إلا أن انتشار الطائفية وغياب الاستقرار فيه يتركانه عرضة لهذا الخطر المتنامي في المنطقة.
غياب الوحدة الوطنية كان له نتائج كارثية على لبنان، فالبلد لم يتخطَّ بعد العواقب الوخيمة التي ترتبت عن الحرب الأهلية الدموية (1975 – 1990) حيث استغل بعض اللاعبين الإقليميين الانقسامات الطائفية فيه. فعلى سبيل المثال، دخل الجيش السوري لبنان تحت ذريعة مساعدة المسيحيين الموارنة في بادئ الأمر، فيما استغلت إيران ظاهرة تهميش الشيعة والاحتلال الإسرائيلي لتنشئ ميليشيا حزب الله الشيعية. وثمة احتمال كبير بأن يستغل تنظيم “الدولة الاسلامية” فشل السلطات اللبنانية في معالجة الانقسامات الطائفية العميقة تمامًا كما فعل في العراق وسوريا.
والجدير بالذكر هو أن الاحتجاجات السنية أخذت بالازدياد في لبنان بسبب انخراط حزب الله في الحرب السورية وايضاً بسبب السياسات المزدوجة المعايير التي تنتهجها الحكومة. فبعض السنة جاهروا مثلاً باعتراضهم على “التوقيفات العشوائية” لأبناء الطائفة السنية في مدينة طرابلس الشمالية. وقد بلغ الحد بالنائب في تيار المستقبل، محمد كبارة، إلى القول أن ” استمرار الاضطهاد الأمني للطائفة السنية سيؤدي إلى ردود فعل غير محسوبة النتائج”.
أضف إلى أن لبنان يأوي حاليًا أعداداّ ضخمة من اللاجيئين السوريين والفلسطينيين وغالبيتهم من الطائفة السنية. الفلسطينيون في لبنان عانوا طويلاً من الإذلال والتهميش، ونتيجةً لذلك ازدادوا تأثرًا بالعقيدة الإسلامية. فالاشتباكات التي وقعت في العام 2007 بين الجيش اللبناني وتنظيم “فتح الإسلام” المتفرع عن تنظيم القاعدة – في مخيم نهر البارد لللاجئين الفلسطينيين، هي دليل على قدرة الحركات الإسلامية على بسط سيطرتها في المخيمات. ناهيك عن تنامي العدائية الفلسطينية إزاء حزب الله الذي يحارب إلى جانب النظام السوري. فمن خلال محادثات خاصة أجريتها مع شبان فلسطينيين يتعرضون باستمرار للمضايقة من قبل حزب الله، تلمست شعورًا متناميًا بالكراهية تجاه الحزب الشيعي ولمست بالإجمال شعورًا بالنقمة على اللبنانيين الشيعة. ومن السذاجة أن نحسب أنّ تنظيم “الدولة الاسلامية” لم يلاحظ هذه المواقف، فهو سيستغلها حتمًا لصالحه. فبعض التقارير تفيد بأن التفجيرات التي خضّت بيروت في الأشهر الأخيرة والتي تبناها التنظيم كانت من تنفيذ الفلسطينيين المقيمين في لبنان.
ومن جهة أخرى، ثمة حاليًا أكثر من مليون نازح سوري في لبنان، والدولة اللبنانية غافلة عن احتياجاتهم الأساسية، أو عاجزة عن تلبيتها. هؤلاء أيضًا يشكلون قاعدة تجنيد لـ”تنظيم الدولة الاسلامية”، لا سيما وأن بعض التقارير أشارت إلى أن هذا التنظيم المتطرف قرر في أوائل شهر آب/أغسطس 2014 أن يشن هجومًا على بلدة عرسال السنية الواقعة بالقرب من الحدود اللبنانية-السورية، لأنها تأوي العديد من اللاجئين. ومع أن حزب الله تعهد بدعم الجيش اللبناني، مساهمًا في دحر تقدم المسلحين المنتسبين إلى تنظيمَي “الدولة الاسلامية” و”جبهة النصرة” في البلدة الحدودية المذكورة، إلا أن هذا الأمر قد يفاقم التوتر الطائفي الذي سيصب في مصلحة المسلحين السنة. وفي هذا السياق، صرح قائد الجيش العماد جان قهوجي أنه لو خسر الجيش معركة عرسال لتعاظم التوتر السني-الشيعي واستمر تنظيم “الدولة الاسلامية” في زحفه وصولاً إلى الساحل لإعلان الدولة الإسلامية.
أن الاشتباكات الخطيرة التي وقعت في عرسال بالتأكيد لن تكون المحاولة الأخيرة لـ”الدولة الاسلامية” لدخول لبنان. وفي حال نجحت خطوتها التالية، من المحتمل أن تصل إلى مأزق عسكري وطائفي مع حزب الله وتقوم بالسيطرة على بعض المعاقل السنية. وفي حال حدث ذلك، سينقسم لبنان طائفيا وستعود كل طائفة إلى مناطقها التقليدية للتصدي للهجوم. وقد يشكل ذلك نهاية لبنان كدولة.
الأرجح أن سنّة لبنان وقياداتهم لن يرضخوا لتنظيم “الدولة الاسلامية” من باب الاقتناع بأيديولوجيته، إلا أن احتياجاتهم العملية قد تطغى على هذه الأيديولوجية. فالنقص في الإمدادات والذخائر دفع العديد من الثوار السوريين إلى تغيير ولائهم فيما أقر آخرون أن إحباطهم في ساحة المعركة قد يدفعهم للانضمام إلى تنظيم “الدولة الاسلامية.” وبدافع اليأس والعنف الطائفي، من الممكن أن نشهد قريبًا منحىً مماثلاً لدى بعض السنة في لبنان. وإذا واصل لبنان تهميش السنة، فسيقوم تنظيم “الدولة الاسلامية” باستغلال غياب الدولة اللبنانية ويؤمّن الحماية المسلحة ومجموعة واسعة من الخدمات الاجتماعية لبعض السنة مقابل الخضوع لها تماماً كما فعل حزب الله تجاه شيعة لبنان.
لبنان في خطر كبير من أن يصبح الضحية المقبلة لتنظيم “الدولة الاسلامية” وما حدث في بلدة عرسال الحدودية يعتبر عيّنة عما قد ينتظر البلاد.
نشر المقال لأول مرة على موقع فكرة