لنحو قرنٍ تقريبًا، كان الشرق الأوسط مُعرَّفًا عبر دول قوميّة نشأت عقب انتصار الحلفاء في الحرب العالَمية الأولى ونهاية حقبة الاستعمار. مُذّاك، ركّز التحليل الاستراتيجي للمنطقة على العلاقات بين تلك الدول، وسعت الجهود الدبلوماسية عامّةً إلى الحفاظ على الاستقرار فيها وسلامة حدودها. نتيجةَ ذلك، بقيت خريطة الشرق الأوسط دون تغييرٍ يُذكَر لأكثر من تسعة عقود.
لكنّ الوضع ليس كذلك الآن. فالخرائط القديمة ما عادت تمثّل الواقع على الأرض، والمنطقة الآن مُعرَّفة ليس بالمنافسة بين الدول الوطنيّة، بل بالانقسامات الطائفيّة التي تتخطّى الحدود القديمة وتجعلها غير ذات قيمة. اليوم، ثمة حربٌ مذهبية واحدة تُخاض عبر الشرق الأوسط، حربٌ تُهدّد بابتلاع الإقليم بأكمله.
لهذه الحرب عدّة جبهات، بعضها أكثرُ حدّة وفاعليّة من بعضها الآخَر، لكنّ ما يحكمها في كلّ مكانٍ هو الصراع المذهبي، لا سيّما الانقسام بين المسلمين، سنّةً وشيعة. إنّها أكثر احتدامًا في المنطقة التي تشمل جمهوريات العراق، سوريا، ولبنان حاليًّا؛ لكنها امتدّت بعيدًا أيضًا – إلى البحرين، شمال اليمن، وإلى حدٍّ ما أيضًا – الكويت، وشرق المملكة العربية السعودية.
إنّ القوّة المركزيّة في الجانب الشيعيّ هي الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، القوة العظمى المتصدّرة في العالَم في دعم الإرهاب وتمويل حزب الله، الذي كان قد قتل حتّى 11 أيلول أمريكيّين أكثر من أية مجموعة إرهابيّة في العالَم. نظام الأسد في سوريا، حزب الله في لبنان، حكومة المالكي والميليشيات الشيعية المتعدّدة في العراق، الثوّار الحوثيّون شماليّ اليمن، والجهاد الإسلاميّ الفلسطينيّ، جميعُهم حلفاء أو وكلاء عن الجمهوريّة الإسلاميّة، القادرة على تقديمِ دعمٍ جوهريّ لأصدقائها عبر قوّات الحرس الثوري الإيراني – قوّة عسكريّة هامّة وقوّة اقتصاديّة تمتلك مهارة هائلة وخبرة في بناء تنظيمات وكيلة والتعاطي في النضال السياسيّ والبرلمانيّ.
أمّا في الجانب السُّنيّ، فإنّ القوة العظمى هي المملكة العربية السعودية، التي أصبح التحفّظ يسود علاقتها بطهران بعد 11 أيلول، لكنها صارعت أيضًا إسلاميّي القاعدة. يشمل حلفاؤُها مجموعاتٍ متنوعة بين الثوار السوريين، تجمُّع 14 آذار في لبنان، النظام العسكري في مصر، الإمارات العربية المتحدة، الكويت، البحرين، الأردن، وأحيانًا تركيا. لكنّ السعوديين، بالمقابل، متأخّرون نوعًا ما. فليس لديهم ما يُوازي الحرس الثوري الإيراني، كما إنّ لديهم علاقات إشكاليّة مع جهاديي القاعدة السُّنة، الذين يلعبون دورًا بارزًا في القتال في جميع الجبهات الرئيسيّة الثلاث.
فكيفَ نشأ هذا الوضع؟ هل هناك ترابُط واضح بين القوى المتعدّدة في الجوانب المختلفة؟ لماذا الصراع شديدٌ جدًّا في بعض الدُّول – مثل سوريا والعراق – إذ يبدو أنه يقود إلى تفكُّك هاتَين الدولتَين؟ وما هو مدى خطورة هذه التغييرات بالنسبة للغرب؟
إنّ التركيز على المناطق التي تختبر أقوى صراع – سوريا، العراق، ولبنان – يمكن أن يساعد على الإجابة عن هذه الأسئلة.
هذه الحرب هي نتيجة اجتماع عددٍ من الظروف. أوّلًا، إنّ العراق، سوريا، ولبنان جميعها موطن لمجتمعات مذهبية وعرقية متعدّدة. لم تُحلّ يومًا مسألة الانقسامات القاسية في تلك المجتمَعات. في سوريا والعراق، تمّ إحباطُها لعقودٍ عبر أنظمة دكتاتوريّة قاسية. كان نظام الأسد في سوريا ونظام صدّام حسين في العراق دكتاتوريَّين عائليّتَين مؤسّستَين على أقلية مذهبية – العلويين في سوريا والعرب السُّنة في العراق – تحكمان باسم القوميّة العربيّة. في خدمة هذه الأيديولوجيّة، قمع النظامان السوري والعراقي دون رحمة النزعات الانفصاليّة المذهبيّة بكلّ أشكالها؛ بشكلٍ خاصّ، الإسلاميّون الشيعة في العراق، الإسلاميّون السُّنة في سوريا، والحركة الوطنيّة الكرديّة في كلتا الدولتَين. كلّ هذه المجموعات عوملت دون رحمة.
بالمقابل، فإنّ لبنان دولة أضعف، تحكمها تسوية تقاسُم سُلطة بين المجموعات الطائفية والمذهبيّة انهارت في الحرب الأهليّة عام 1975. لم تُحلّ المسائل ذات الصّلة بهذه الحَرب؛ بدلًا من ذلك، بين 1990 و2005، أنهى الوجود العسكريّ السوريّ أيّ نقاشٍ حول المسائل الأساسيّة في الهويّة الوطنية.
خلال العقد الأخير، ضعُفت أو تلاشت الأنظمة الدكتاتوريّة القمعيّة ذات القبضة الحديدية التي كانت تمنع انفجار التوتُّرات العِرقية والمذهبيّة. عام 2003، أطاح الاجتياح الأمريكي للعراق بنظام صدّام حسين. وحلّت محلّه حكومة مذهبيّة شيعيّة، مؤسَّسة على الأكثرية العربيّة الشيعيّة ومقبولة مؤقتًا من الأكراد. في سوريا، أضعفت الحرب الأهليّة الضارية نظام الأسد بشدّة، إذ لا يحكم الآن سوى 40 من المئة من مساحة البلاد. فقد اقتطعت الأكثرية العربية السُّنية والأقلية الكردية كيانات طائفية مستقلة لهما في الستين في المئة الباقية من البلاد.
ثبَت بشكلٍ قاطع أنّ الآمال الغربية بحلول كيانٍ غير مذهبيّ في المناطق التي كان يحكمها صدّام والأسدان ليست سوى أوهام. فالملاحظات حول العراق التي قدّمتها عام 2004 مستشارة الأمن القومي الأمريكي كوندوليزا رايس توجز هذه الآمال والميل إلى خداع الذات الذي يرافقها غالبًا. ”ما أثار إعجابي إلى حدٍّ بعيد”، قالت رايس،
“هو أنّ العراقيين – سواءٌ كانوا كردًا، شيعةً، سنةً، أو أيًّا من المجموعات الإثنية العديدة في العراق – أظهروا أنهم يريدون حقًّا أن يعيشوا معًا في عراقٍ موحَّد… أعتقد أنّ الأكراد بشكل خاصّ أظهروا ميلًا يوحي أنهم يرغبون في التقليص من الفروق التي كانت فروقًا تاريخية غذّاها في كثيرٍ من الأحيان صدّام حسين ونظامه… ما وجدتُه مثيرًا للاهتمام وأعتقد أنه هامّ هو المدى الذي عبّر فيه قادة المجتمعات الشيعية، الكرديّة، والسنية عن رغباتهم في العيش في عراقٍ موحَّد”.
لإدارة أوباما الإيمان نفسُه، ونتيجة ذلك، واصلت دعم الحكومة التي يسيطر عليها الشيعة في العراق، برئاسة رئيس الحكومة نوري المالكي. وهي تنظر إلى خصومة المالكي مع المتمرّدين السُّنة في محافظة الأنبار الغربيّة على أنها خصومة بين حكومة منتخَبة ومتمرّدين متطرّفين. ولا يأخذ ذلك في الاعتبار الطبيعة المذهبية لحكومة المالكي نفسِها والسياسات التمييزية التي مارستها ضدّ السُّنة غرب العراق.
وتزامنت إعادة ظهور الصراع المذهبي الواضح جدًّا في العراق مع بروزه في سوريا، حيث يتدفّق إلى لبنان المجاوِر. انجرّ لبنان إلى الصراع كنتيجة للتدخّل الهامّ والحاسم في نتيجته دعمًا لنظام الأسد في سوريا من قِبل الميليشيا اللبنانية المدعومة إيرانيًّا، حزب الله. وسرعات ما أدّى هذا إلى الثأر مِن أهداف لحزب الله في لبنان من قِبل عناصر من الثوّار السُّنة في سوريا. فقد نجح داعمون للمتمرّدين السنة في مهاجمة معقل حزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت خمس مرّات. وكان التفجير في 2 كانون الثاني قد نفّذه شابّ لبنانيّ ينتمي إلى تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام (داعش) يُدعى قُتيبة محمّد الساطم؛ علمًا أنّ داعش مكوّنة من متطرّفين إسلاميّين يشكّلون فرعًا للقاعدة في العراق وسوريا.
وفيما يعود قرار حزب الله بالتدخُّل لصالح نظام الأسد في سوريا وردّ الفعل السُّنيّ على ذلك جزئيًّا إلى طبيعة لبنان وسوريا المقسَّمة والمسائل المختلَف عليها حول الهوية الوطنيّة، فإنّ الصراعات الإقليمية الأكبر، ذات الطابع المذهبيّ أيضًا، هي قوّة هامّة تدفع العُنف.
لم يأتِ تدخّل حزب الله في الحرب الأهليّة السوريّة نتيجة شعورٍ آليّ بالتضامُن، بل لأنّ حزب الله عضو في حلف إقليميّ بقيادة إيران، ينتمي إليه نظام الأسد أيضًا. حين وجد الأسد نفسه في مأزق، حُشد حزب الله لنجدته. في الجهة المقابلة، استفاد الثوار السوريون من مؤازرة ورعاية خصم إيران، المملكة العربية السعودية، ودول أخرى في شبه الجزيرة العربيّة، بما فيها الإمارات العربية المتحدة.
هذه العداوة طويلة الأمد، ولا تعود جذورها بشكل أساسيّ إلى الخلافات العقائديّة. إنها مسألة قوّة ونفوذ. فإيران يحكمها نظام ثوريّ هدفه أن يصبح القوّة المهيمِنة في الشرق الأوسط. ورغم أنّ الإيرانيّين يعتبرون السعوديين أعداء حتمًا وحرّاسًا غير أمناء لأقدس مقدّسات الإسلام، فإنّ هدف طهران الرئيسي هو إحكام السيطرة على موارد طاقة الخليج العربيّ، لتحلّ محلّ الولايات المتحدة كضامنٍ للموارد التي يعتمد العالَم بأسره عليها. تدرك طهران أنّ المصدر الحقيقيّ للقوّة في الإقليم هو الخليج نفسه، الذي مخزونه الهائل من النفط والغاز الطبيعيّ حيويّ للاقتصاد العالميّ. لتحقيق أهدافها، على إيران أن تجتذب الأنظمة الملكيّة في الخليج أو تكرهها على الابتعاد عن حماية الولايات المتحدة والتحالف مع طهران، ولا يفعل الضعف الأمريكي في مواجهة مشروع طهران النووي سوى زيادة احتمالات حدوث ذلك.
ظهرت الرياض بصفتها العدوّ الرئيسي لطموحات إيران الإقليميّة، بشكلٍ خاصّ لكون الضامن السابق للنظام الإقليمي الحاليّ، الولايات المتّحدة، اختار مغادرة المنطقة. حتّى 2011، بدا الشرق الأوسط مقفَلًا على نوعٍ من الحرب الباردة، كان الإيرانيّون يحاولون فيها، مع حلفائهم ووكلائهم، قلب النظام الإقليمي الذي تتحكم فيه الولايات المتحدة، والمؤسس على تحالفاتها مع المملكة العربية السعودية، مصر، وإسرائيل. لكنّ أحداث السنوات الخمس الماضية تركت انطباعًا بأنّ الولايات المتحدة لم تعُد تريد لعب هذا الدور. فقد فشلت الولايات المتحدة في مساندة حليفها المصريّ الطويل الأمد، محمّد حُسني مبارك، حين واجه قلاقل كبيرة مطلع عام 2011. كما فشلت في دعم قوّات المتمرّدين التي تقاتل نظام الأسد المدعوم من إيران. وفشلت أيضًا في دعم البحرين في وجه الحراك المدعوم من إيران في السنة ذاتِها. الآن، يبدو أنّ الولايات المتحدة تسعى إلى تقارُب شامِل مع إيران.
نتيجةَ ذلك كلّه، بدأت السعودية تلعب دورًا أكثر فعالية في المنطقة. فقد ساهمت الرياض وحلفاؤها في الخليج في دعم استقرار مصر واقتصادها بعد أن أطاح الجيش بالرئيس محمد مُرسي وجماعة الإخوان المُسلمين من السلطة. كما بدأت تلعب دورًا متقدّمًا في دعم الثوّار السوريين. ووثّقت أيضًا إلى حدٍّ بعيد علاقاتها بفريق 14 آذار المناهض لسوريا في لبنان. وفي كانون الأول 2013، تعهّد السعوديون بتقديم هبة بقيمة 3 بلايين دولار إلى الجيش الحكومي اللبناني. كما يدعمون عناصر مناهضة لحكومة المالكي في العراق. فضلًا عن ذلك، تسعى السعودية إلى خلق تحالُف مع دول خليجية أخرى لمقاومة الطموحات الإيرانية، مع تحقيق قسطٍ من النجاح.
ساهمت هذه الخصومة التي تتحوّل إلى عنيفة شيئًا فشيئًا بين المملكة العربية السعودية وإيران – والتي عزّزها الانسحاب الأمريكي من المنطقة – في تحويل الصراع الذي كان باردًا يومًا إلى حرب مذهبية ساخنة تتخطى الحدود بشكلٍ متزايد.
ثمة دليل واضح على صلاتٍ بين كلٍّ من إيران والسعودية من جهة، وبين حلفائهما في العراق، سوريا، ولبنان من جهة أخرى.
في الجانب الإيراني، لا تبذل طهران أية جهود جدّية لإنكار المساعدة الضخمة التي قدّمتها – ولا تزال – لنظام الأسد في سوريا. في الواقع، حشد الإيرانيّون جميع ما يملكون إقليميًّا للحفاظ عليه. وقد ذهب قائد فيلق القدس – قوات النخبة في الحرس الثوري – قاسم سُليماني، بنفسه إلى سوريا لتنسيق هذه الجهود. ربّما كان الأمر الأكثر ملاحظةً هو بدء الإيرانيّين منتصف عام 2012 بتدريب جند مشاة خفيف جديد للأسد. وقد أصبحت هذه القُوّات – التي دُعيت قوّات الدفاع الوطني – ضروريّة لأنّ الأسد أصبح غير قادر على استخدام قسمٍ كبير من جيشه، المكوَّن من مُجنَّدين سُنّة يُشَكّ في ولائهم. حتّى إنّ إيران أرسلت مُقاتِلين في الحرس الثوري الإيراني للقتال في سوريا؛ وهو واقع كشفته لقطات التقطها مُصوّر إيرانيّ قتله المتمرّدون لاحقًا، شهادة فارّين سوريّين، والقبض على عددٍ من عناصر الحرس الثوري في آب 2012.
في نيسان 2013، استُدعي زعيم حزب الله، حسن نصر الله، إلى إيران، وحصل على إرشادات بنشر جنوده في سوريا. نحو عشرة آلاف منهم هم الآن على الأرض في سوريا، وقد لعبوا دورًا حاسمًا في استعادة السيطرة على بلدة القُصَير الاستراتيجية في آب 2013. ويشارك مقاتلو حزب الله بشكلٍ فاعل في المعركة في منطقة القلَمون قرب الحدود اللبنانية، إضافةً إلى القتال في محيط دمشق.
لعبت التبرعات الماليّة الإيرانية دورًا أيضًا في الحفاظ على النظام. ففي كانون الثاني 2013، أعلنت إيران عن اتّفاق “خطّ ائتمان” مع سوريا، قدّم خطّ ائتمان بقيمة مليار دولار للأسد. وفي وقتٍ لاحقٍ من العام نفسه، أُعلن عن خطّ ائتمان جديد بقيمة 3.6 مليارات دولار.
لعِب العراق أيضًا دورًا هامًّا في مؤازرة الأسد، بشكلٍ خاصّ عبر السماح لإيران باستخدام أراضيه ومجاله الجويّ لنقل أسلحة إلى القوّات السوريّة. للوهلة الأولى، تبدو هذه سياسة غريبة. فالعلاقات بين العراق وسوريا قبل الحرب الأهليّة لم تكُن جيّدة، إذ كان المالكي يتّهم الأسد علَنًا بدعم المتمرّدين السُّنة. لكنّ ذلك تغيّر الآن. بدلًا من ذلك، دعم المالكي الأسد بشكلٍ صريح منذ بدء الحرب الأهليّة السوريّة. ويعكس هذا قُربَه المتزايد مع إيران، التي ساهت في تأمين بقاء المالكي رئيسًا للحكومة بعد انتخابات عام 2010، وضغطت على الأسد ليدعمه أيضًا. ومُذّاك، أخذت العلاقات بين العراق، إيران، وسوريا في التحسُّن.
وفضلًا عن الدعم الحكومي، تقاتل الميليشيات العراقية الشيعية إلى جانب الأسد في سوريا. فلواء “أبو الفضل العبّاس”، كتائب حزب الله، وعصائب أهل الحق، جميعها لديها قوّات في سوريا. وهي تلعب دورًا هامًّا، إذا أخذنا في الاعتبار أنّ نقطة ضعف الأسد الرئيسية هي غياب جنود ولاؤهم مضمون. وقد وطّد اندلاع العُنف في محافظة الأنبار غربيّ العراق هذا التحالُف، لأنّ التمرّد هو نتيجة مباشرة للتقدُّم الذي يحرزه الجهاديّون السُّنة في سوريا.
نتيجةَ ذلك كلّه، برز الجانب الذي تقوده إيران في الصّراع الإقليميّ كتحالُف ذي أواصر وثيقة، قادرٍ على العمل بشكلٍ مُنسَّق، يُوحّد موارده من أجل هدفٍ مشترك، ويقاتل بفاعليّة من غربي العراق على طول الطريق نحو البحر المتوسّط.
أمّا الجانب السُّنيّ من الصراع فهو أكثرُ تشويشًا وتفكُّكًا. فالمملكة العربية السعودية هي المموّل الرئيسي له، لكنها تفتقر إلى ما يُناظر فيلق القُدس والحرس الثوري، اللذَين يُعتبران رائدَين عالميًّا في التخريب والحرب غير النظاميّة.
وحدها العناصر الجهاديّة المتطرّفة تبدو قادرة على التنسيق الواضح فيما بينها عبر الحُدود. على سبيل المثال، الدولة الإسلاميّة في العراق والشام (داعش)، كما يدلّ اسمُها، ناشطة في كلا البلدَين، وتسيطِر على منطقة متواصلة تمتدّ من محافظة الأنبار غربيّ العراق إلى محافظة الرقّة شرقيّ سوريا. تعتبر داعش نفسَها وكيلةُ للقاعدة، رغم أنها لا تتلقى أوامرها مُباشرةً من زعامة القاعدة في باكستان. وثمّة فرع آخر للقاعدة، جبهة النُّصرة، فاعلٌ في سوريا. أمّا في لبنان، فهناك فرع ثالث للقاعدة، كتائب عبد الله عزّام، يلعب دورًا في الهجمات على حزب الله. بالإضافة إلى ذلك، تنشط داعش وجبهة النُّصرة كلتاهُما في لبنان.
لكنّ هناك أيضًا مجموعاتٍ أقلَّ تطرُّفًا تُقاتل المحور السوري – الإيراني. فقد دعمت المملكة العربية السعودية فريق 14 آذار، وهو يمثّل المعارضة السنيّة الأساسيّة في لبنان، فضلًا عن تقديم الدعم الماليّ للجيش اللبنانيّ. وفي سوريا، أنشأ السعوديون الجبهة الإسلاميّة، تحالف ثماني مجموعات إسلامية غير مرتبطة بالقاعدة. وهي تشمل بعض أقوى كتائب المتمرِّدين، مثل أحرار الشام، لواء الإسلام، ولواء التوحيد. وهي تبرز الآن بصفتها الكتلة الأساسيّة بين الثوّار. كما يُسيطِر السعوديون على المعارضة السورية في الخارج، ولا سيّما مع انتخاب أحمد الجربا، الذي تربطه علاقات وطيدة بالرياض، رئيسًا للائتلاف الوطنيّ السوري مُؤخَّرًا.
ليست هناك مؤشّرات على دعم سعودي للمتمردين السنّة في العراق، لكنّ المجتمع السنيّ الأكبر ينظر دون ريب إلى الرياض طلبًا للمُساعَدة. فالعلاقات بين المملكة العربية السعودية والحكومة الحاليّة في العراق سيّئة جيّدًا. الحدود بين البلدَين مُقفَلة باستثناء فترة الحجّ، ليست هناك سفارة سعودية في بغداد، والعلاقات التجاريّة هي في حدّها الأدنى. كما أنّ بعض القبائل السُّنيّة في الأنبار لديه علاقات وثيقة بالسعوديين. وفيما يشعر معظمُهم بالعداء تجاه القاعدة، فإنهم يعارضون أيضًا حكومة المالكيّ، التي يعتبرونها نظامًا شيعيًّا مذهبيًّا.
ثمّة عنصر ثالث في هذا الصراع الإقليميّ يُعتبَر ورقةً مُؤثِّرة: الأكراد. الأكراد هم شعبٌ غير عربيّ طالما سعى إلى دولةٍ مستقلة، وقد نجحوا في تأسيس منطقة حُكم ذاتيّ مُزدهرة شماليّ العراق تتمتع فعليًّا بمعظم مقوِّمات السيادة. منذ تموز 2012، جرى تأسيس منطقة حُكم ذاتيّ كرديّة جديدة شماليّ سوريا. تشكّل هاتان المنطقتان قطعة أرضٍ متماسّة، لكنهما ليستا مُوحَّدَتَين سياسيًّا. فالحكومة الإقليميّة الكرديّة في العراق يسيطِر عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني، برئاسة مسعود البارزاني، فيما منطقة الحُكم الذاتيّ في شماليّ سوريا يقودها حزب الاتّحاد الديمقراطي، الذي هو الفرع السوريّ لحزب العمّال الكردستانيّ، اليساريّ ذي الأصول التركية.
هذان الحِزبان هما خصمان، وكلٌّ منهما يرى نفسه الأجدر بقيادة الأكراد. لكن فيما يسود التوتُّر بينهما، يبدو كلٌّ منهما مطمئنًّا لسيطرته في منطقته. لا يتمتّع الأكراد بدعم أية دولة إقليمية، إذ ينظر الإيرانيّون والسعوديون على حدٍّ سواء إلى الطموحات القوميّة الكرديّة بعين الارتياب. مع ذلك، نجح الأكراد في اكتساب القوّة التنظيميّة والعسكريّة الكافية لضمان الحفاظ على مقاطعتَي الحُكم الذاتي الخاصّتَين بهما.
تُشير جميع هذه العوامل إلى أنّ هناك حلفَين متخاصمَين يتشابكان من أجل الهيمنة الإقليميّة. ثمة عددٌ كبير من الصلات العمليّة بين المُقاتِلين المختلِفين، وقد تجاوز هؤلاء الناشطون حدود الدول المختلفة التي تجري فيها المعارك، كما هو واضح من حضور المقاتلين الإيرانيّين، داعش، وحزب الله في سوريا، الثوّار السوريين في لبنان، وأمثلة عديدة أخرى. إيران هي زعيمة أحد الجانبَين، فيما المملكة العربية السعودية هي المسانِد الأوّل للجانب الآخَر، فيما همّ الأكراد هو حماية مناطق نفوذهم، محاوِلين النأي بنفسهم عن الصراع.
النتيجة الأكثر أهمية لما يجري هي أنّ وحدة أراضي سوريا والعراق كدولتَين موحّدتَين هي على المحكّ الآن. فعمليًّا، سوريا اليوم مقسَّمة إلى ثلاث مناطق، يُسيطر على كلٍّ منها أحد العناصر الثلاثة المذكورة أعلاه. العراق مُقسَّم فِعليًّا إلى منطقتَين كرديّة وعربيّة، يتنازع السُّنة والشيعة للسيطرة على الثانية.
بطرقٍ عديدة، لم يعُد لبنان يتصرّف كدولة موحّدة منذ وقتٍ طويل، حيث إنّ حزب الله يتصرّف فعليًّا كدُوَيلة خاصّة فعليًّا. يفتقر اللبنانيّون السُّنة إلى تقليد عسكريّ، وقد ثبت أنهم عاجزون أمام الدعم الإيراني لحزب الله. لكنّ ظهور الثوار السوريين الآن، والشعبيّة المتزايدة للإسلاميين لدى عامّة الشعب من السنة قد يغيّران هذا التوازُن. وتؤكّد صحّةَ ذلك الموجةُ الأخيرة من العُنف السُّنيّ ضدّ حزب الله، الناتجة عن محاولة جهاديين سوريين وثوّار آخرين – بالشراكة مع حلفائهم المحليين – أن ينقُلوا الحرب إلى لبنان.
بأخذ هذه العوامِل معًا، يُشير ذلك إلى أنّ تحوّلًا جماعيًّا في النموذج يسير قُدُمًا في جزءٍ كبيرٍ من الشرق الأوسط. كسوف الدكتاتوريّتَين القوميّتَين العربيّتَين في العراق وسوريا، الفشل التاريخي في إنشاء هوية وطنية موحّدة في هاتَين الدولتَين، تركيبتهما العِرقية والمذهبيّة المتعدّدة، والتراجع الأمريكيّ عن لعب دور مركزي في الإقليم، مع بُروز الخصومة السعودية – الإيرانيّة نتيجة ذلك – كلّها معًا تتّحِد لتقود إلى نتيجة استثنائيّة: حربٌ مذهبية واسعة النطاق تدور رحاها في المناطق التي لا تزال تُدعى رسميًّا العراق، سوريا، ولبنان.
بالنسبة للغرب، كما في الإقليم نفسه، ثمة آثار خطيرة جدًّا لذلك. سيتطلّب التعامُل مع ذلك بفاعليّة تغييرًا نموذجيًّا هائلًا في الأفكار بخصوص الشرق الأوسط، تغييرًا يكون قادرًا على التحرُّر من الأوهام السابقة والاعتراف أنّ حدود السيادة التي اعتُبرت يومًا مُقدَّسة تُضحي سريعًا دون معنى.
ثمة حدودٌ جديدةٌ تتشكّل، توضع وفق التقسيمات المذهبية، لكنّ الغرب يتجاهلها ومخاطرها. رغم أوهام الانسحاب من المنطقة، فإنّ أمن مصادر الطاقة العالمية والحفاظ على الاستقرار الإقليميّ لا يزالان حيويَّين للمصالح الغربيّة. إنّ مصالح الغرب على المحكّ في هذا الصراع المذهبيّ تمامًا كمصالح اللاعبين الإقليميّين المشمولين. وإذا لم يتمكّن من التأقلُم مع الشرق الأوسط الجديد الذي يتبلور سريعًا، فسيجد نفسه في الجانب الخاسِر.