بعد مرور يوم من العملية في الكنيس في القدس الأسبوع الفائت، دخلت فيكي مخول، طالبة في الصف العاشر في مدرسة ثنائية اللغة في المدينة، إلى صفها ووجهها تبدو عليه علامات العبوس. “لا أريد التكلم”، قالت عندما التقت عيناها بعيني مربيتها إفرات مئير.
ففي كل مرة تظهر علامات هذا الصراع البشع، كان يتطلب الوضع من هذه المدرسة التي يدرس فيها طلاب يهود وعرب ردة فعل مناسبة على ذلك. ولكن المربية مئير كفاها أن صادفت اثنتين أو ثلاث حالات وردود فعل مشابهة لفيكي حتى تفهم أنه بعد هذه العملية الدموية، الطلاب بحاجة لأنْ يعبروا عن مشاعرهم بصورة فنية وليست كلامية. فما صعّبها أكثر على الجانبين أن هناك شراكة ثنائية القومية في المدرسة. فالكلام حول السياسة سيزيد الأمر سوءا.
حاولت مئير، وهي معلمة لمادة الفنون، التغيير من الوضع. طلبت من الطلاب إخراج هواتفهم النقالة، وتصوير بعضهم البعض بهدوء حيث يكون الطالب الذي يتم تصويره حاملا للافتة ورقية كتب عليها مشاعره وأحاسيسه حول الموضوع. وبالفعل، عادت البشاشة إلى وجوههم. فكما يبدو ليس هناك شيء يعادل التصوير لتحسين النفسية، ولتذكرة الطلاب في هذه الأيام الصعبة أنهم لا يزالون صغارا، وقد يكون انشغالهم بأنفسهم وبأحاسيسهم ملجأ لصرف انتباههم عن الوضع القائم.
كتب بعض الطلاب على لافتة: “سئمت” باللغة العبرية والعربية. وآخر كتب “كم ممكن أن نتكلم”. واختارت طالبتان أن تتصورا معا وحملتا لافتة كُتب عليها “أحبك” مع رسمة قلب. هذه اللافتة كانت مهمة جدا، إذا أخذنا بالاعتبار التفرقة والكراهية القائمة في المدينة بين الجانبين، وليس مثل غالبية العبارات المسيئة على الفيس بوك.
تُشكل الفترة الأخيرة في المدرسة ثنائية اللغة فترة تحدٍ. عند زيارة المدرسة يخطر على البال فورا مصطلح العقلانية. هذه هي واحدة من بين خمسة أطر تربية وتعليم تابعة لجمعية “يدا بيد” (وفيها ثلاثة مدارس وحضانتين)، وهي الأكبر من بين الخمسة والأكثر تأسيسا. وعلى غير العادة، تحظى هذه المدرسة على دعم قوي جدا من بلدية القدس ومن وزارة التربية والتعليم، وهذا أمر غير مفهوم في الحقيقة: ففي مدينة مختلطة كمدينة حيفا، فقط في الفترة الأخيرة استجابت البلدية لضغوطات الكثير من الأهالي وأعلنت عن نيتها لافتتاح مدرسة ثنائية اللغة في المدينة (وهي المدرسة الرابعة لجمعية “يدا بيد”).
هناك في المدرسة في مدينة القدس، نسبة 85% من المستحقين لشهادة البجروت. ومع أن اللغة العبرية أقوى في المدرسة (ذلك لأن الواقع يحتم ذلك)، ولكن الطلاب اليهود يعرفون اللغة العربية بامتياز. فهم يتعلمون اللغة العربية منذ الصف الأول، وفي كل صف هناك معلمتان، يهودية وعربية، وهناك مواضيع مختلفة كالرياضيات يتم تعلّمها باللغة العربية.
ولكن كما يبدو ففي الفترة الأخيرة تعقدت الصورة قليلا. الجو الدافئ الذي تهتم المدرسة بتوفيره للطلاب العرب واليهود، على الأقل من الناحية الأمنية، انقطع، وساد جو من التوتر والغضب.
قبل أسبوعين وصل الطلاب إلى المدرسة ورأوا مكتوبا على الجدار الأمامي للمدرسة “الموت للعرب”. وبعد وصول سيارة الشرطة التابعة للبلدية والمختصة بشطب مثل هذه الكتابات (ولها عمل وفير في القدس) وإزالة هذه العبارة، قرر الطلاب أن يقوموا بتعليق مكان العبارة لافتة كبيرة باللغة العبرية والعربية مكتوب عليها “يسود هنا حب، شراكة، وصداقة بين العرب واليهود”.
التقرير في القناة الأولى
إذا كانت الأمور تسير على ما يرام في المدرسة حتى بعد كتابة العبارة الفظيعة على الجدار، فبعد عدة أيام حصلت حادثة صعبة، عندما ادعى تقرير في القناة الأولى أن هناك طلابا في المدرسة ارتدوا قمصان داعش السوداء، فثارت الأجواء. شاهدوا التقرير:
https://www.youtube.com/watch?v=CFDTnoXsatA
“في المدرسة اليوم قاموا بذكر مرور عشر سنوات على وفاة ياسر عرفات. بعضهم جاء بقمصان سوداء، وبعضهم تحدث مع مراسل القناة البائس حول الهوية الفلسطينية والتعاطف مع الأسرى الفلسطينيين”، وصفت أورلي نوي، ناشطة سياسية وأم لأولاد في هذه المدرسة منذ عشر سنوات، عملية التشويه السيئة. “فلتذهب إلى الجحيم أخبار القناة الأولى”، قالت نوي بغضب. “لم تكونوا حاضرين عندما طُلب من الأهالي أياما طويلة أن يقوموا بمرافقة الطلاب في المواصلات خوفا من حدوث هجمات وعمليات. لم تكونوا حاضرين عندما بعثت المدرسة بريدا إلكترونيا محزنا طلبت فيه من الطلاب أن لا يأتوا هذه الفترة بقمصان المدرسة حتى لا يتعرضوا للهجوم في الشارع. لم تكونوا حاضرين عندما قام الطلاب بتنظيف الكتابات المروعة التي كُتبت لهم على الجدران وكتبوا مكانها عبارات حول الأخوة، الصداقة، والاحترام. ولكن الآن تتواجدون لأن بعض الطلاب لبس الأسود والكوفية حدادا على قائدهم الراحل، وهذه تُسمى حقارة. لقد نزلتم أسفل درك الحقارة”.
للمرة الأولى، تفريق
بالنسبة للمدرسة، شكل هذا التقرير في القناة الأولى، والكتابات على الجدار مرحلة جديدة من التوتر الحاد الذي بدأ في بداية السنة التعليمية. افتتحت هذه السنة التعليمية فورا بعد عملية “الجرف الصامد”، وبسبب التصعيدات الأمنية والجو السائد في الشارع الإسرائيلي، وخاصة في القدس التي استاءت الأوضاع فيها وازدادت العنصرية، لم يكن بالمقدور تجاهل الواقع وما يحدث في الشارع.
يأتي تقريبا 600 طالب، من مرحلة الحضانة حتى الصف الثاني عشر، من اليهود والعرب إلى المدرسة الموجودة في حي “بات” من جميع أنحاء مدينة القدس، وحتى من الأحياء العربية شمالي القدس كالعيسوية التي تشهد اشتباكات بين سكانها والشرطة بشكل يومي تقريبا. في الفترة الأخيرة أصبح الذهاب إلى المدرسة أمرا غير يسير بتاتا، وحتى أنه مخيف بعض الشيء للطلاب العرب خاصة، ولكن أيضا للطلاب اليهود. فهناك احتمال أن يلتقي أحد الطلاب ببعض المتطرفين الذين يتكلمون بلغة عنصرية، وقد تكون هذه اللغة موجهة ضد اليساريين الذين يفضلون أخوة العرب وشراكتهم على عداوتهم. ولذلك قررت المدرسة، كما ذكرت نوي في ردها، أن تهتم بوجود مرافقين للطلاب صباحا وظهرا، سواء كان هؤلاء المرافقين أهالي أو متبرعين من منظمة “يدا بيد”.
وإضافة إلى الناحية العملية، تقوم منظمة “يدا بيد” بمرافقة الأحداث في المدرسة في جميع الأوقات من خلال تنظيم نقاشات حول الوضع، إعطاء مساحة للتعبير عن المشاعر والأحاسيس، وذلك بإشراف مرشدين مهنيين للطلاب وللمعلمين. هذه السنة، لأول مرة منذ 15 سنة على إنشاء الجمعية، قرروا أن يفصلوا بين الطلاب اليهود والعرب وأن يديروا حوارات منفصلة على الأقل في الأسابيع القليلة القادمة. الحوار المنفصل بين الطلاب في هذه الأيام هو في صفوف التاسع والعاشر.
بحسب أقوال نادية كنانة، مديرة المدرسة إلى جانب أريك سبورتي، ومن القائمين على تأسيس المدرسة، “نحن نلائم أنفسنا بحسب الواقع. الواقع أصبح أكثر عنصرية وعنفا، فنحن نقوم بملائمة أنفسنا للمحافظة على الطلاب والمعلمين من هذا الواقع. لا نريد أن نفصل بين الطلاب بشكل ثابت، ولكن فقط في الحالات الحساسة. قبل أن نصل إلى حوار مشترك، علينا أن نسوّي الأمور بشكل منفرد أولا. هذا نوع من المسؤولية التي تقع على عاتقنا”.
تقول كنانة إنه في النقاشات المشتركة لا يفصح الطلاب عن كل مشاعرهم لأنهم يريدون حماية أصدقائهم. “هناك عائق معين، ونحن نريد أن نتخطى هذا العائق”.
الوضع القائم يهم الطلاب الكبار أكثر كما يبدو، فهم نوعا ما أكثر اتصالا بالأحداث الجارية. وهذا مع أن المربية مئير تقول إن “لديهم الكثير من التفاهات في عقولهم”.
بحسب أقوال سبورتي، في فترة الصراع من المهم تحديد الهوية. “كنا نخاف من التفريق بيننا، ولكننا اليوم لا نريد إلغاء الفروقات. فرأينا أن الفروقات بيننا تقوينا ولا تبعدنا. عندما كنا نتناقش في مجموعات متفرقة قبل إدارة النقاش معا في مجموعة واحدة، كان هناك اختلافا جذريا بسيرورة النقاش مقارنة بعدم النقاش في مجموعات متفرقة أولا.
الملاذ من اليأس
في حديث مع طلاب من الصف العاشر، قاموا بالتحدث عن مشاعرهم المختلطة هذه الأيام. “عندما كنا صغارا جئنا إلى الصف حيث كان مكتوبا “سلام”. كنا نعتقد أنه سيحصل سلام لا بد. اليوم نحن نفهم أن السلام هو أمر غير واقعي”، قالت هجار مزراحي. مع ذلك، فإن المدرسة لا تزال تُعتبر مكانا وملجأ من اليأس والإحباط. تقول تالة جبارة إنه “بعد انتهاء الفرصة الكبيرة، أراد جميع الطلاب العودة إلى هنا، مع أنها مدرسة. أردنا أن نعود إلى الحياة العادية بطريقة ما”.
تطرقت علمة سبورتي (ابنة المدير) إلى الوضع الحالي وقالت: “نحن نشعر الآن بقلة الأمن والأمان بشكل عام. هنا نشعر كأننا في البيت. يمكننا أن نقول ما نريده، ولكن بسبب التقرير في القناة الأولى، نشعر وكأن أحدهم اقتحم بيتنا ومنزلنا. ما يحدث في المجتمع خارجا دخل إلينا”.
وتضيف جبارة: “كنا نعتقد أن الجميع يحبون المدرسة. وأن المدرسة هي مكان دافئ. ولكنهم فجأة حوّلونا لمؤيدي تنظيم داعش، لمؤيدي الإرهاب. كأنهم دخلوا إلى البيت وعبثوا بأغراضك وناموا في سريرك”.
وقال طالب آخر يُدعى عمنويل أورباخ: “إذا كنا نعتبر المدرسة مكانا دافئا، فنحن نشعر الآن كأن أحدهم اقتحم الباب وجعل الدفء يخرج إلى الخارج”.
من الجدير أن الطلاب العرب يشعرون بقلة المساواة. فهم يصلون إلى بيئة يهودية يعتبرونهم فيها مُشتبهين وأقل درجة من اليهود. تحكي فيكي مخول التي تسكن في بيسجات زئيف عن حادثة شهدتها في القطار، حيث توجه رجل أمن إلى شاب عربي وبدأ يستجوبه بصورة مستفزة ووقحة. “شعرت أني محبطة”، تقول مخول. “أنا لا أبدو عربية. أردت أن أٌقول شيئا. ولكن علمت أنه لا يمكنني ذلك”. تعترف مخول: “أفكاري تغيرت قليلا. وأعلم حدودي حتى لا أكون متطرفة”. كما يبدو حتى لو كانت هناك قوة تجذب أفكار الطلاب إلى التطرف، ولكنهم عندما يأتون إلى المدرسة ترجع الأمور عادية ومتوازنة.
وتقول لمى عواودة: “كفتاة عربية، أستصعب جدا في خارج المدرسة أكثر من داخلها”. “صديقتي اليهودية لا يعتقلونها، ولا يطلبون منها إظهار بطاقة هويتها. أنا في مكان حيث لا يحبون شعبي. ولكن في داخل المدرسة لدي ثقة أن صديقتي لا تعتبرني مختلفة”.
ولكن عواودة وطلابا آخرين يجدون في هذه الأوضاع مكانا للتفاؤل أيضا. فبحسب أقوالهم، في الأيام العادية كانت تحدث خلافات سيئة في المدرسة، وكل جانب يصر على موقفه، ولكن في هذه الأيام، وبعد التقرير التلفزيوني، يشعر الطلاب أنهم موحدون أكثر من أي وقت مضى.
“تبيّن أن الجميع هنا يساريون”، تقول عواودة. وتضيف مخول قائلة: “نحن نشعر الآن أن كلا الجانبين يتضرر بصورة مشابهة. كانت لنا أفكار مختلفة عن بعضنا البعض، ولكنا الآن لا نفكر بهذا الاختلاف”.
تم نشر هذا المقال في موقع صحيفة هآرتس