في الأسابيع الأخيرة يُثار مجددا الخوف من تصعيد عسكري في قطاع غزة. قد تجرّ توترات داخلية في منطقة القطاع، بين حماس والتنظيمات الجهادية السلفية المحلية، إسرائيل وحماس إلى جولة مواجهة أخرى، لا يرغب بها كلا الطرفين. ومع ذلك، ففي خلفية الحوار الحالي حول الوضع الأمني في ساحة القطاع، يجب أن نتذكر السياق السياسي والجيو-استراتيجي الأوسع، والذي تستمر غزة في إطاره بلعب دور رئيسي وحاسم بشكل خاصّ.
بعد جولة الحرب التي جرت بين إسرائيل وحماس في صيف عام 2014، وعلى ضوء نتائجها الاقتصادية والإنسانية الخطيرة، والتي وقعت على القطاع خلالها، فهناك اهتمام ظاهر وزائد بإعادة إعمار البنى التحتيّة الاقتصادية والمدنية في المنطقة. فضلا عن ذلك، وخصوصا على ضوء ضعف حماس النسبي، يُعتبر تحدّي إعادة الإعمار من قبل المزيد والمزيد من الجهات الغربية، ذات الصلة بالعملية السياسية، كرافعة ممكنة لهدنة طويلة الأمد بين حماس وإسرائيل ومن ثم كوسيلة لتحقيق تهدئة في الساحة الإسرائيلية – الفلسطينية ككلّ.
من المثير للاهتمام أن نلاحظ التشابه بين التركيز الحالي على قطاع غزة وبين خط التفكير، الذي هيمن على الخطاب حول العملية السياسية في الفترة التي جاءت مباشرة بعد التوقيع على اتفاقات أوسلو، أي فكرة “غزة [وأريحا] أولا” (اتفاق القاهرة) – والذي تم الاتفاق عليه في أيار 1994 بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، التي كانت قد تأسست للتو. هناك فجوات واضحة بين تلك الفترة وهذه الفترة الحالية، خصوصا فيما يتعلق بالثقة لدى كلا الطرفين في القدرة أساسا على تعزيز اتفاق سلام شامل، وكذلك على مستوى تماسك الساحة السياسية الفلسطينية. ومع ذلك، وهذا هو وجه الشبة بين تلك الفترة والفترة الحالية، فقد عادت غزة لتُعتبر أكثر فأكثر كنقطة، يمكن منها، بل ربّما يجب، تجديد الحوار السياسي – الإقليمي بين إسرائيل والفلسطينيين.
لا شكّ أن تنفيذ خيار “غزة أولا” كقاعدة انطلاق لتعزيز العملية السياسية سيكون معقّدا للغاية، وخصوصا على ضوء حقيقة أنّه خلال العقدين الماضيين انقسم الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني إلى ثلاثة صراعات: بين إسرائيل، السلطة الفلسطينية وحماس. ومع ذلك، أحد الدروس الرئيسية التي يمكن استخلاصها من أحداث تلك السنوات العاصفة هو أنّ محاولات الماضي في تجاهل قطاع غزة وحماس، مع بذل الجهد لإحداث انفراجة سياسية، لم تُقرّب إسرائيل والفلسطينيين إلى اتفاق السلام.
بعد انتصار حماس في انتخابات البرلمان الفلسطيني، والتي جرت عام 2006، تركّز النهج الرئيسي لإسرائيل تجاه السياسة الفلسطينية – بدعم من جهات دولية رائدة وعلى رأسها الولايات المتحدة – على تعزيز الخلاف القائد بين
حماس وفتح كوسيلة لإضعاف حماس. وبعد أن تحوّل العداء الداخلي في الساحة الفلسطينية إلى العنف وأدى إلى سيطرة حماس على قطاع غزة عام 2007، تركّزت تلك السياسة على بذل الجهد لإضعاف حماس من خلال عزل حكومتها والقطاع بأسره. على هذه الخلفية، اعتُبر تجديد الحوار بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، بقيادة فتح، طريقًا لتعزيز التفاهم الإسرائيلي – الفلسطيني وفرصة للاستمرار في عزل وإضعاف حماس على حدّ سواء. ومع ذلك، فإنّ هذه السياسة المدمجة من القيود الاقتصادية والعزل السياسي لم تُخضِع حماس، وبنفس الدرجة لم يساعد تجاهل القطاع على تعزيز اتفاق سياسي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. بكلمات بسيطة، إنّ تجاهل المشكلة لم يخفِها، وإنما زادها حدّة. واليوم، كما في الماضي، بقيت حماس وقطاع غزة مكونات مركزية في الساحة الفلسطينية، والتعامل معها أمر حيوي لأي سعي لعملية سياسية بين إسرائيل والفلسطينيين.
على المستوى الاقتصادي، فقد تباعد قطاع غزة والضفة الغربية عن بعضهما البعض منذ بداية التسعينيات، ومنذ العام 2007 فإنّ الفجوة بين المنطقتين آخذة بالازدياد. ومع ذلك، في نهاية المطاف، فإنّ الدمج الاقتصادي بينهما، سواء بواسطة استثمار في التنمية الاقتصادية لقطاع غزة أو من خلال تشجيع العلاقات الاقتصادية بين غزة والضفة الغربية، سيؤدي دورا حاسما في قدرات الدولة الفلسطينية المستقبلية على الوجود وأداء دورها. حتى ذلك الحين، فعلى الموقف الدولي تجاه قطاع غزة أن يرتكز على ثلاثة مجالات: المزيد من المال، المزيد من فرص الوصول والمزيد من التكامل.
المزيد من المال: تتميّز جهود إعادة إعمار القطاع بنقص التمويل، حيث إنّ جميع المنظمات الدولية العاملة في غزة تقريبا تفتقر إلى الميزانية المطلوبة لإعادة الإعمار والمساعدة. فضلا عن ذلك، فنحو ربع التبرّعات فقط والتي وُعد بها لمشروع إعادة الإعمار، ما مجموعة نحو ثلاثة مليار دولار، وصلت فعلا إلى القطاع.
المزيد من فرص الوصول: من أجل تمكين إنجاز مشروع إعادة الإعمار يجب إدخال المزيد من مواد البناء إلى القطاع، جنبًا إلى جنب مع تخفيف التقييدات الاقتصادية المفروضة على المنطقة والتنقّل في المعابر الحدودية، سواء من قبل مصر أو من قبل إسرائيل. ومن أجل أن يكون ذلك ممكنا مع الأخذ بعين الاعتبار المخاوف الإسرائيلية من الآثار الأمنية المترتّبة على الوصول الأكثر مرونة إلى غزة ومنها، سيتطلّب الأمر انتشارا أمنيا للقوى الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية على الحدود بالإضافة إلى إعادة قوة EUBAM التابعة للأمم المتحدة إلى المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، “المزيد من فرص الوصول” معناه العمل على قلب الوضع الحالي من عزلة غزة ومزج جديد بين أسواق القطاع والضفة الغربية.
المزيد من الدمج: يجب تعزيز الدمج السياسي بين فتح وحماس كجزء من عملية إعادة الإعمار. بالنسبة للسلطة الفلسطينية، فإنّ الدمج ليس ضروريا فقط من أجل إعادة ترسيخ وجودها – بدرجة أو بأخرى – في القطاع، وإنما أيضًا لتعزيز هدف الاستقلال الفلسطيني. إن تجاهل حماس، التي هي الهيئة السياسية المُسيطرة فعليا على غزة، يتجاهل حقيقة أنّ فرض اتفاق سياسي، لا تكون حماس مستعدة على قبوله وحتى بشكل غير معلن، يُصعّب على فتح فرضه أيضًا في الضفة الغربية، ناهيك عن القطاع نفسه. من المرجح أن تُلقي حماس بآمالها على الصراع العنيف من أجل التشويش على هذه العملية، والتي هي ليست شريكة فيها ومن غير المفترض أن تحصل من خلالها على أية تعويضات من أي نوع.
يبدو أنّه قد حان الوقت لوقف إطلاق النار المستمر بين إسرائيل وحماس. منذ انتهاء جولة المواجهة الماضية، أظهر كلا الطرفين مرارا وتكرارا عزمهما على تجنّب اللعب بالقرب من الفصائل الجهادية، التي تسعى إلى إشعال جولة أخرى من العنف في الساحة الغزية. ومع ذلك، فلا ينبغي التوصل إلى تفاهم صريح أو ضمني بين إسرائيل وحماس على حساب السلطة الفلسطينية. على العكس من ذلك، يجب إبقاء الدمج السياسي المتجدد بين غزة والضفة الغربية.
على رأس الأولويات، كوسيلة لإعادة العملية السياسية إلى المسار. من الحيوي – منذ الآن – تعزيز التنسيق المؤسسي بين السلطة وحماس، حيث تضع الحكومات المانحة الرئيسية، وهي محقّة في ذلك، تعاون السلطة في مشروع إعادة الإعمار كشرط مسبق لذلك، حيث يتم تحويل الأموال المطلوبة والموعود بها ويتقدّم المشروع بدأب كامل. ولذلك، ينبغي الاستمرار في التزام السلطة الفلسطينية كشريك فلسطيني في العملية السياسية، من بين أمور أخرى، من خلال الدعم الاقتصادي الكبير والمستمرّ، إلى جانب التوقع الواضح لتنسيق حقيقي بين السلطة وحماس. بل وقد يتطوّر ذلك إلى جهود مصالحة أخرى بين كلا الطرفين الخصمين وإلى تشكيل قواعد جديدة للعبة، بالإضافة إلى توازن مؤسسي للقوى بينهما.
دون شكّ، فإنّ مبادرة سياسية تفصيلية، وحتى خطة تستند إلى الأداء (performance based)، متدرّجة وطويلة الأمد فقط، ستساعد في إقناع السلطة الفلسطينية، بأنّ برنامج “غزة أولا (مجدّدا)” لا يهدف إلى تجاوزها باعتبارها الممثل المعترف به للشعب الفلسطيني في العملية السياسية، وبذلك تليين موقفها إزاء التنسيق مع حماس.
بالنسبة لحماس، فإنّ المبادرة السياسية ستثبت للحركة بأنّ مشروع إعادة الإعمار لا يهدف، بأي شكل من الأشكال، إلى التخفيف من وجودها العسكري في القطاع. في حين أنّ نزع السلاح من حماس هو هدف غير واقعي في الظروف الحالية؛ فإنّ إيقاف جهود التسلّح لدى الحركة سيكون صعب التحقيق والتنفيذ. ولا يزال مجرد الخروج إلى طريق إعادة الإعمار الشامل للقطاع مؤشرا لحماس بأنّ عليها القيام بالكثير من التنازلات في المقابل، سواء تجاه السلطة أو تجاه إسرائيل، إذا كانت فعلا معنية بتجنّب مخاطر أخرى على حكمها في القطاع.
على أية حال، ينبغي أن نعتبر تغيير سياسة عزل غزة وحماس وتركيز الانتباه على “غزة أولا” ليس مجرّد خطوة تهدف إلى منع التدهور إلى جولة عنف جديدة في المستقبل القريب، وإنما أيضًا كخطوة تهدف إلى تمهيد الطريق لتجديد حوار بناء بين إسرائيل والفلسطينيين.
نُشر هذا المقال للمرة الأولى في موقع INSS