يهود السودان

بنيامين نتنياهو مع يهود أفارقة أصولهم من إثيوبيا (Gideon markowicz/FLASH90)
بنيامين نتنياهو مع يهود أفارقة أصولهم من إثيوبيا (Gideon markowicz/FLASH90)

هل وُلِد نتنياهو في السودان؟

فحص طاقم موقع "المصدر" التقارير المثيرة للجدل التي تقضي أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، قد وُلِد في دولة مسلمة وأن اللغة العربية هي لغته الأم صحيحة

15 يوليو 2017 | 09:19

بدأت تنتشر الشائعات في السودان حول أصول رئيس الحكومة الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وفق ادعاءات جزء من سكان شمالي السودان في التسعينيات أثناء ولاية نتنياهو رئيسا للحكومة الإسرائيلية للمرة الأولى. إلا أن هذه الشائعات ما زالت منتشرة وتظهر مجددا كل بضع سنوات في السودان، مصر، وحتى في إسرائيل، إذ نُشر بشأنها مؤخرا فيلم يتطرق إلى الموضوع.

وفق الادعاءات في السودان، لم يُولد نتنياهو في إسرائيل في عام 1949، بل في قرية صغيرة شمال السودان، لعائلة يهودية محلية. كذلك، تشير الشائعات إلى أنه كان اسمه عطا لله عبد الرحمن شاؤول وليس بنيامين نتنياهو.

“اليهود عاشوا في السودان وما زال يعيش جزء منهم فيها مما يشهد على أن أصل هذه الجاليات يهودية. وصل اليهود أثناء العصر العثماني إلى السودان للمتاجرة وبقي جزء منهم فيها”

هناك عدة صيغ مختلفة لهذه الشائعات كما هي الحال مع الشائعات الأخرى. فعند البحث في محرك جوجل يمكن أن نلاحظ أن جزءا من الادعاءات يقول إن نتنياهو وُلِد في مدينة نوري الواقعة على الضفة الشمالية من النيل شمال السودان، وترعرع في منطقة مروي. بالمقابل، هناك ادعاءات أخرى تشير إلى أن نتنياهو وُلِد في وادي حلفا وهو يتقن اللغة النوبية. وفي ادعاء آخر ورد أن نتنياهو وُلِد في قرية “حالوف” الواقعة في منطقة النوبة أو أنه من أبناء قبيلة الشايقية السودانية.

وفق ناشري الشائعات، فإن عائلة نتنياهو كانت تحمل المواطَنة السودانية، وعملت مثل الكثير من يهود السودان في تصدير منتجات الكحول والزراعة واستيرادها. إلا أن العائلة غادرت السودان عندما كان نتنياهو في سن المراهقة، هذا وفق الادعاءات، وذلك بعد أن أعلن جعفر النميري أن تجارة الكحول تعتبر عملا خارجا عن القانون.

وحققت الشائعات رقما قياسيا في العقد الأخير، بعد أن نُشِرت في عدة صحف عربية لا سيّما في منطقة السودان ومصر، وفي النهاية تطرقت القناة الثانية الإسرائيلية إلى التقارير الإخبارية العربية أيضا.

نتنياهو في زيارته إلى كينيا (Kobi Gideon/GPO)
نتنياهو في زيارته إلى كينيا (Kobi Gideon/GPO)

هل تأكد الإعلام الإسرائيلي من صحة الشائعات؟

أشار بعض التقارير إلى أن القناة الإخبارية الإسرائيلية قد تأكدت من صحة الخبر. ولكن فحص طاقم “المصدر” التقارير الواردة بالعبرية، فاكتشف أنها غير مؤكدة للخبر. ذُكر في المقال الخاص بالقناة الإسرائيلية الثانية بوضوح أن مصدر التقارير يعود إلى “خبر غريب نُشِر في شبكة “الوطن” السودانية”. أي أن الإعلام الإسرائيلي قد اقتبس الشائعات التي نُشرت في وقت سابق في الإعلام العربي ولكنه لم يتأكد من صحتها.

وينظر إسرائيليون قليلون بعد أن سمعوا عن الأسطورة التي تشير إلى أن نتنياهو وُلِد في السودان باستهتار، وهم يعتقدون أنها قصة خيالية فحسب. ولكن، يشهد صمود هذه الشائعات ربما أكثر من أي شيء على حب الاستطلاع والاهتمام المتبادل بين المواطنين الإسرائيليين والسودانيين. إذ يعرف السودانيون المُساعَدة الإسرائيلية التي قُدمت لدول مختلفة في إفريقيا في القرن الماضي وحتى أن هناك جالية يهودية من البيض عاشت لسنوات في الدولة، ولكن التقى الإسرائيليون للمرة الأولى في السنوات الماضية بالسودانيين الذين وصلوا إلى إسرائيل سعيا للحصول على مأوى، ويعيش حاليا معظمهم في تل أبيب ويعملون فيها.

لوسيانا كبلون مع طاقم فيلم "من هو عطا الله عبد الرحمن شاؤول؟" (لوسيانا كبلون)
لوسيانا كبلون مع طاقم فيلم “من هو عطا الله عبد الرحمن شاؤول؟” (لوسيانا كبلون)

الفيلم الإسرائيلي من هو عطا الله عبد الرحمن شاؤول؟

عُرِضت مؤخرا في متحف تل أبيب سلسلة من ثلاثة أفلام قصيرة بعد تأليفها بإلهام من الأسطورة حول عبد الرحمن شاؤول، المعروف كبنيامين نتنياهو  وفق اعتقاد جزء من السودانيين. تحدثت مُخرجة الفيلم الإسرائيلية، لوسيانا كبلون، مع مراسلة موقع “المصدر” واصفة كيف وصلت إليها الشعائعات.

“طالبت أمينة متحف تل أبيب أن أحضر فيلما لمعرض ذي الصلة بإفريقيا. لقد عرِفَت أنني ناشطة في جاليات المُهاجرين إلى إسرائيل، ومن بينهم المُهاجرون الإفريقيون. لذا تحدثت مع شاب من إقليم دارفور وأخبرني حول الشائعات ذات الصلة بنتنياهو” أوضحت كبلون، مضيفة “كان الشاب مقتنعا أن الخبر صحيح. في البداية، ضحكت عند سماعه، ولكن عندها بدأت بالتفكير في معنى هذه القصة فيما يتعلق بطالبي اللجوء السودانيين الذين يعيشون في إسرائيل، وعرفت أنه جزء منهم يؤمن حقا أن نتنياهو قد وُلِد في السودان مثلهم. ربما يمنحهم هذا الخبر أملا في أن تكون سياسته تجاههم متسامحة أكثر”.

لم تستطع كبلون أن تصوّر فيلما في السودان، فسافرت إلى نيجيريا لتصويره. دمجت فيه نسخة سمعتها إضافة إلى نسختين إضافيتين ابتكرتهما حول أصول نتنياهو. “فكرت أنه إذا استغللت إلهاما من شائعة، فلا بد أن أستغله حتى النهاية. فدمجت في الفيلم قصصا تاريخية حول تدخل إسرائيل في إفريقيا في الخمسينيات والستينيات.”

الكنيس اليهودي في الخرطوم
الكنيس اليهودي في الخرطوم

الخلفية التاريخية كيف نشأت الشائعات؟

رغم أنه لا تعيش اليوم أية جالية يهودية في السودان، فقد كان الوضع مختلفا تماما قبل خمسين عاما. كانت الجالية اليهودية في السودان صغيرة جدا، وكان تعدادها في ذروة عصرها نحو ألف نسمة. وصل معظم يهود السودان من مصر، وعاشوا في مدينتي الخرطوم وأم درمان، وعملوا في التجارة. رغم ذلك، عاشت عائلات يهودية قليلة في مناطق نائية أكثر، مثل شمال السودان.

من المعتاد أن يقول أبناء نسل الجالية اليهودية السودانية إنه في الفترة التي عاشت فيها الجالية اليهودية في السودان، كانت السودان منطقة متنوعة وليبرالية، حيث كانت المجموعات العرقية، الدينية، والثقافية المختلفة فيها قادرة على الاحتفاظ بهويتها المميّزة، وبالمقابل الاختلاط مع بعضها البعض.

ولكن بعد أن حقق السودان استقلاليّته وأصبح جزءا من الجامعة العربية أصبح يتدهور وضع الجالية اليهودية فيه. فعانى اليهود من مضايقات وتهديدات، شكلت خطرا على حياتهم. لذا ترك أبناء الجالية السودان تدريجيا، ولم يعد يسكن فيها أحد في الستينيات من القرن العشرين.

زواج عائلة يهودية في الخرطوم عام 1930
زواج عائلة يهودية في الخرطوم عام 1930

وتصادق المخرجة كبلون التي استقصت في إطار التحضير للفيلم ذي الصلة التاريخية حول العلاقة بين السودان واليهود، على أن “اليهود عاشوا في السودان وما زال يعيش جزء منهم فيها مما يشهد على أن أصل هذه الجاليات يهودية. وصل اليهود أثناء العصر العثماني إلى السودان للمتاجرة وبقي جزء منهم فيها. هذه هي الخلفية التاريخية للشائعات”.

وتجدر الإشارة إلى أنه إضافة إلى النشر في المواقع والمنتديات على الإنترنت، ليست هناك أدلة إضافية تدعم الادعاءات أن أصل نتنياهو من السودان. وفق السيرة الذاتية الخاصة بنتنياهو، فقد وُلِد عام 1949 في تل أبيب وترعرع في القدس في صغره. ولكن في سن عشر سنوات انتقلت عائلته للعيش في أمريكا وعادت إلى إسرائيل عندما كان عمره 18 عاما ليخدم في الجيش الإسرائيلي. بعد تسريحه من الجيش تعلم في معهد ماساتشوستس للتقنية الأمريكي، وبعد ذلك عاد إلى إسرائيل ثانية وانخرط في السلك الدبلوماسي والسياسي في الدولة، حتى وصل إلى منصب رئيس الحكومة الإسرائيلية إذ يشغله للمرة الرابعة.

اقرأوا المزيد: 922 كلمة
عرض أقل
عائلة ليفي في الخرطوم (يهوشع ليفي, هآرتس)
عائلة ليفي في الخرطوم (يهوشع ليفي, هآرتس)

الجالية اليهودية التي لا يذكرها أحد تقريبا

القليلون هم من يعرف أنّه حتى سنوات الخمسينيات عاش في السودان مئات اليهود، الذين اضطروا إلى التفرق عندما ازداد الوضع سوءًا. يهوشع ليفي، من آخر من تبقى من المهاجرين: "سنموت قريبا ولن يكون هناك من يذكرنا"

قبل أسبوعين ارتدى يهوشع ليفي، وهو مهندس سفن يبلغ من العمر 81 عاما، بدلة، وخرج من شقّته الجميلة في تل أبيب، متوجّها إلى جامعة بار إيلان. وقد تم إعلامه قبل يوم من ذلك فقط، عن طريق الصدفة تماما، بوجود مؤتمر في الجامعة تحت عنوان: “الخروج، الهجرة، التهجير والتشريد”، في ذكرى اللاجئين اليهود من الدول العربية.

لم يتفاجأ ليفي بأنّه لم يتلقّ دعوة رسمية للمؤتمر. وقف في الاستراحة جانبا، وتمعّن في الجمهور الكبير الذي ملأ القاعة – أعضاء منظمات يهودية من مهاجري ليبيا، العراق، دمشق وغيرها – وشعر بالوحدة. “سنموت قريبا ولن يكون هناك من يذكرنا”، كما قال.

ينتمي ليفي إلى جالية صغيرة، نادرة ومنقرضة، من اليهود الذين هاجروا إلى إسرائيل من السودان.‎ ‎لم يعلم منظّموا المؤتمر والمشاركون فيه أبدا عن وجود هذه الجالية. أيضًا الباحثون المختصّون بيهود الدول العربيّة لم يسمعوا عنها، ولا عن طريق الصدفة.

بلغ تعداد الجالية في ذروتها أقل من ألف شخص. نقطة في بحر بالمقارنة مع 260 ألفا من يهود المغرب، 135 ألفا من يهود الجزائر، 125 ألفا من يهود العراق، 90 ألفا من يهود تونس و75 ألفا عاشوا في مصر قبل قيام الدولة.

هاجر نحو 500 من أبنائها إلى إسرائيل، وتفرّق البقية في العالم

تفكّكت الجالية بعد عام 1956، عندما حصل السودان على الاستقلال وانضمّ إلى الجامعة العربية. هاجر نحو 500 من أبنائها إلى إسرائيل، وتفرّق البقية في العالم. “ليس لدينا منظمة لأننا قليلون جدا”، كما يقول يهوشع ليفي. “سافر زعماء الجالية السودانية الكاريزماتيون إلى أمريكا وإنجلترا. وأولئك الذين وصلوا إلى هنا أرادوا الاندماج، أن يكونوا مثل الجميع”.‎ ‎

ولكن بالنسبة إلى ليفي فالأرقام ليست مهمة. القصص، التراث، التقاليد وتاريخ جاليته لا تزال تشغله حتى بعد 65 عاما من هجرته إلى  إسرائيل لوحده من الخرطوم، عاصمة السودان، عندما كان عمره 16 عاما.

الحاخام سلومون مالكا
الحاخام سلومون مالكا

كان جدّه لأمه، فرج شوعا، الشخصية المهيمنة في العائلة. لقد قدِم إلى السودان من مصر عام 1900 بالقطار، “مع ماكينة خياطة زينغر في يده”، كما يحكي ليفي، وكان تاجرا للنسيج. أقام شوعا الكنيس الأول للجالية في غرفة صغيرة استأجرها بالخرطوم. قام بنفسه بتدريس الأطفال هناك التوراة والعبرية والصلاة.

أقام شوعا الكنيس الأول للجالية في غرفة صغيرة استأجرها بالخرطوم. قام بنفسه بتدريس الأطفال هناك التوراة والعبرية والصلاة

كان شوعا الجدّ يزور فلسطين  كثيرا، والتقى في إحدى زياراته لطبريا الحاخام سلومون مالكا، ودعاه ليكون الحاخام الرئيسي ليهود السودان. وقد شارك في جنازته التي جرت عام 1949 كهنة وشيوخ من جميع أنحاء السودان، وفاء لإرث التسامُح الديني الذي خلّفه وراءه.

ولدت ابنته الكبرى، رحمة ، والدة ليفي، في الخرطوم عام 1901، وهي الأولى من بين 11 أخا وأختا. عندما كانت في السادسة عشر من عمرها أخذها والدها إلى مصر ليجد لها خاطبا.

“كان في السودان القليل جدّا من الرجال اليهود، وكان من المعتاد حينذاك الذهاب إلى مصر، حيث كانت هناك جالية أكبر بكثير. اعتادت الخاطبة على تقديم عدة رجال، واختار الوالد لابنته واحدا منهم”

“كان في السودان القليل جدّا من الرجال اليهود”، كما يوضح ليفي. “وكان من المعتاد حينذاك الذهاب إلى مصر، حيث كانت هناك جالية أكبر بكثير. اعتادت الخاطبة على تقديم عدة رجال، واختار الوالد لابنته واحدا منهم”. وهكذا التقت والدته بوالده، شاشون ليفي، وأسس الإثنان منزلهما في الخرطوم. “كنّا نضحك على لغته العربية، والتي كانت مختلفة عن لغة جدّنا، وعلى كيفية نطقه لمختلف الكلمات”، تذكر المهندس ليفي الفروقات بين يهود مصر ويهود السودان.

ولد لشاشون ورحمة ثمانية أطفال. وولد يهوشع ليفي عام 1933. “لم تكن حياتي في السودان جيّدة. لا أذكره كحنين”، كما يقول. “كان هناك معاداة للسامية من قبل السودانيين وعانيت منها وأنا طفل. عندما كنت أخرج من الحيّ كان الأطفال ينقضّون عليه بالضربات. دخلت أحيانا في شجارات أيضًا ضدّ خمسة. عندما كنت أخرج إلى الشارع كانوا ينادون عليّ “يا يهودي، ستكون جمرا لجهنّم”.

كنيس الخرطوم (صورة من مجلة "بعاميم")
كنيس الخرطوم (صورة من مجلة “بعاميم”)

كان هناك شتيمة أخرى تلقاها في طفولته في الخرطوم وهي: “اليهود ملعونون، وبعد ذلك أموات المسيحيين”. بعد سنوات من ذلك فقط شرح له عربي من إسرائيل معنى هذه الشتيمة: اليهود ملعونون بكل الأحوال، حتى لو غيّروا دينهم. ولكن لدى المسيحيين فرصة للنجاة فقط إذا قاموا بتغيير دينهم في حياتهم. وإنْ لم يفعلوا ذلك، فسيُلعنون في موتهم.

بعد حرب 1948، بدأ بالتساؤل لماذا يصرخون عليه في الشارع: “يا يهود، اذهب إلى فلسطين”

بعد حرب استقلال إسرائيل عام 1948، بدأ بالتساؤل لماذا يصرخون عليه في الشارع: “يا يهود، اذهب إلى فلسطين، ماذا تفعل هنا”. “سألت أمي ماذا نفعل نحن هنا؟ ولماذا لا نذهب إلى دولتنا؟”، كان يتذكّر. “شعرت بفقدان الأمن. كنت أمشي في الشارع دون أن أعلم من سيهاجمني. وعندها قرّرت المغادرة”.

هاجر عام 1949 وحده على متن طائرة، “طائرة داكوتا، مع مراوح”، كما وصفها، على خطّ الخرطوم – اللد، والذي تضمّن توقّفا على الحدود المصرية السودانية للتزوّد بالوقود. انضمّت أسرته إليه في وقت لاحق. كان آخر من غادر السودان من أسرته هو شقيقه، الذي بقي هناك حتى عام 1960.

بعد فترة ما من وصوله للبلاد، ولدى بلوغه 16 عاما ونصف، زوّر ليفي سنّه في شهادة الهجرة الخاصة به حتى يتمكّن من الانضمام إلى الجيش الإسرائيلي. خدم في الكتيبة 7 من الفوج 9، وشارك في العمليات الانتقامية التي جرت في سنوات الخمسينيات. بعد تسريحه من الخدمة العسكرية درس في كلية الميكانيكا في التخنيون بحيفا، وعمل في شركة “هيما” في بناء سفن الصيد. حصل على اللقب الثاني في هندسة السفن من هولندا.

عمل بعد الدراسة في أحواض بناء السفن في إسرائيل، وخطّط هناك “أشياء جيّدة”، كما يقول ويقصد، من بين أمور أخرى، السفن حاملة الدبابات التي شاركت في حرب لبنان الأولى عام 1982. أخذته المهنة لاحقا إلى بريطانيا أيضًا، وقد كان هناك، من بين أمور أخرى، مستشارا لعملاق السفن سامي عوفر. لم تجعله رحلاته حول العالم وإقامته في إسرائيل ينسى السودان، وطنه الذي تركه. تعمّق في أوقات فراغه ودرس التاريخ الأسري وتاريخ الجالية المنسيّ لأجل الأجيال القادمة.

قدِم اليهود إلى السودان من مصر، تركيا ودول أخرى، في القرن التاسع عشر لأجل العمل والتجارة. كانت الدولة تُحكم حينذاك من قبل مصر، تحت رعاية بريطانيا

سيطر البريطانيّون على السودان من جديد في نهاية القرن وأقاموا فيها حكمًا مشتركا مع المصريين. سُمح لليهود عام 1898 بالعودة لممارسة حياتهم العامّة، وتوسّعت الجالية واستوعبت المزيد من اليهود من مصر، من بينهم جدّ ليفي، فرج شوعا. وعادت أيضًا سبعة – من أصل الأسر الثمانية الصغيرة التي عاشت في السودان – إلى اليهودية وإلى الجالية. بحسب كلام ليفي، “رفضت أسرة واحدة فقط. فهم ربّ الأسرة، الذي أنجب خمس فتيات سود من نساء سودانيّات، بأنّه لن يكون لديهنّ فرصة للاندماج في المجتمع اليهودي”. استوعبت الجالية في فترة الحرب العالمية الثانية مئات اليهود الآخرين.

المهدي محمد أحمد
المهدي محمد أحمد

قدِم اليهود إلى السودان من مصر، تركيا ودول أخرى، في القرن التاسع عشر لأجل العمل والتجارة. كانت الدولة تُحكم حينذاك من قبل مصر، تحت رعاية بريطانيا. عام 1882، وفي أعقاب ثورة المهدي محمد أحمد، هُزم الجيش المصري وقُتل الجنرال البريطانيّ تشارلز غوردون، “حاكم السودان”. ساءت أوضاع اليهود فورا وأجبِروا على اعتناق الإسلام، الذهاب إلى المسجد والزواج من نساء مسلمات. تحدّث ليفي عن ثمانية أسر يهودية أجبرتْ على العيش كمسلمة واعتمدت أسماء عربية. وهكذا تحوّل بن تسيون إلى بنسيون، حاخام إلى حكيم، ومندل إلى منديل. اعتاد زعيم تلك الأسر، بن تسيون كوشطي، على الصلاة متخفّيا في الصباح، قبل ذهابه إلى المسجد.

لم تكن أسرة ليفي من الأسر الثرية في الجالية، ولكنها استفادت من الرفاه والازدهار. كان لدى بعض الأسر خدم وخادمات، غاسلات ومقدّمات للرعاية. أمضى أبناؤهم أوقاتهم في أندية مرموقة، شربوا الشاي على ضفاف النيل وشاهدوا الأفلام في سينما حديثة.

عندما اعتُقل عمّه قال للسودانيين: “أنا سودانيّ أكثر منكم. ولدتُ هنا”

ساءت أحوال اليهود مجدّدا عام 1956، عندما نالت السودان استقلالها. “لقد أرادوا أن يكونوا على قدم المساواة مع العرب، حينها بدأوا بمعاداة اليهود واتهمونا بالتجسّس لصالح إسرائيل”، كما يقول ليفي. عندما اعتُقل عمّه قال للسودانيين: “أنا سودانيّ أكثر منكم. ولدتُ هنا”. ولكن خلال عدّة سنوات تركت الجالية السودان، مخلّفة وراءها ممتلكاتها الشخصية والعامّة.

عام 1974 تمكّن أحد أبناء الجالية من العودة إلى السودان واستخراج عظام أكثر من 17 من أبناء الجالية الذين دُفنوا هناك. في عملية خاصة، ومع دفع رشاوى للسكان المحلّيّين، تم تهجير العظام إلى إسرائيل ودفنتْ في جفعات شاؤول في القدس. أما القبور الأخرى التي بقيت في السودان، فقد دُمّرت وتحطّمت على مرّ السنين. عام 1980، وفي أعقاب مفاوضات بين يهود السودان والحكومة، تم إخراج تسع كتب توراة منها ونُقلت إلى الجاليات اليهودية في سويسرا، بريطانيا، الولايات المتحدة وإسرائيل.

“من الصعب أن نصدّق كم خرج أشخاص ناجحون من تلك الجالية الصغيرة”، يقول ليفي بفخر، ويتحدّث عن يهود السودان، بعضهم أثرياء جدّا، تفوّقوا في مجالات عمل مختلفة حول العالم بعد تفكّك الجالية. القائمة طويلة وتشمل أسماء مثل تمام، غؤون وسروسي بالإضافة إلى أقارب ليفي.

“كان أخي، موريس ليفي، رئيس شركة البناء الضخمة Parsons Brinckerhoff.‎ ‎ابن خالي، سلفادور شوعا، هو رئيس رابطة أطباء القلب في الولايات المتحدة. ابن خال آخر، عزرا شوعا، كان مهندسا نوويا عمل في مشاريع سرية في البنتاغون”، كما يقول. “ولا زال 95% من المواطنين في إسرائيل لا يعرفون بأنّه كان هناك يهودا في السودان”، كما يلخّص.

نُشرت هذه المقالة لأول مرة في صحيفة هآرتس

اقرأوا المزيد: 1371 كلمة
عرض أقل