يهود الأندلس

أوفير توبول (Al-Masdar / Guy Arama)
أوفير توبول (Al-Masdar / Guy Arama)

من جبل طارق إلى تل أبيب.. الإسرائيلي الذي يسبر أغوار الموسيقى الشرقية

في غضون سنوات، نجح أوفير توبول في دفع الموسيقى العربية والشرقية في إسرائيل قدما: "هناك أهمية لمعرفة اللغة والثقافة العربية".. برنامجه الأسبوعي على الراديو يبعث الحياة في الموسيقى القديمة وينشر الإيقاعات الشرقية الحديثة في إسرائيل

قبل شهر، بدأ يُبث في محطة الإذاعة الإسرائيلية برنامج “شاحور زهاف” (الذهب الأسود) وهو برنامج جديد استثنائي يهتم بشكل أساسي بموسيقى الشرق الأوسط وتأثيرها على الموسيقى الإسرائيلية. في إطار البرنامج الجديد، يخرج مقدم البرنامج، أوفير توبول، إلى رحلة مؤثرة في أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ويعرض على المستمعين الموسيقى العربية المثيرة للفضول والمعروفة أقل.

إن اهتمام توبول بالموسيقى العربية والشرقية ليس جديدا، وهو يعتبر أحد خبراء الموسيقى العربية في إسرائيل، وحتى أنه كرس كل السنوات الماضية للبحث عن الأنغام التي تعرف إليها في صغره. أقام توبول، ابن 33 عاما لوالدين من أصل مغربي، قبل نحو ثماني سنوات “مقهى جبرلتر” وهو منتدى-مجلة يهدف إلى تسليط الضوء على الأجزاء غير المعروفة من الثقافة الإسرائيلية، التي تحظى بأهمية قليلة بشكل تقليدي. أصبح الموقع سريعا منصة هامة للنقاش النقدي حول العلاقة بين الثقافة والهوية، مشددا على الهوية اليهودية الشرقية. في السنة الماضية، أصبح موقع توبول المميز، الذي يتابعه الكثيرون، برنامجا تلفزيونيا يبث في سلطة البث الإسرائيلية، ويتناول الإبداع الشرق أوسطي متعدد الثقافات، يمزج بين القديم والجديد، الشرق والغرب والتقليدي والعصري.

أوفير توبول في استوديو الراديو (Facebook)

لم يكن حب الموسيقى الشرقية والتضامن مع بلد المنشأ والتاريخ العائلي أمرا مفهوما ضمنا بالنسبة لتوبول، فقد بدأ كل هذا في العشرينات من عمره. “ترعرعت على سماع الموسيقى”، قال توبول. “بيت مغربي، أغان يهودية دينية، أنغام شرقية في الكنيس، ولكني سخرت منها في صغري. حاولت الابتعاد عنها ولكن لم أجرأ على سماع الموسيقى الشرقية في شبابي”، قال توبول. عندما أصبح توبول بالغا، إلى جانب محبته للموسيقى والتغييرات التي طرأت على نظرة المجتمَع الإسرائيلي إلى الموسيقى الشرقية، ساهم جميعها في حب الفضول لديه فيما يتعلق بماضي عائلته والموسيقى التي سمعها في صغره.

“في مرحلة معينة، عندما أصبحت بالغا، أدركت أني لا أعرف شيئا عن ماضي عائلتي”، قال توبول. “بدأت أقرأ كتبا، وعندها تساءلت لماذا تحفظت من الموسيقى الشرقية طيلة حياتي؟ هل يمكن أن تكون هذه الموسيقى سيئة جدا؟” هكذا وفق أقواله، كسر الحاجز وبدأ يهتم بإجراء بحث ودراسة شخصية وسياسية على حد سواء. “قررت الخروج والبحث. جلست مع جدتي وطلبت منها أن تحدثني عن حياتها”، قال توبول.

توبول وضيوفه في البرنامج “مقهى جبرلتر” (لقطة شاشة)

في تلك الفترة، تعرف توبول إلى عازف بيانو يهودي جزائري، يدعى موريس ألمديوني، وأصبح يحب تلك الموسيقى التي عزفها جدا وسريعا. “لم أصدق أن هناك هذا النوع من الموسيقى”، قال توبول. “تدمرت كل مفاهيمي الموسيقية. شعرت وكأن العازف الجزائري يعزف الموسيقى التي ترعرعت عليها، وقد عزفها وهو يتفاخر وكأنها موسيقى عالمية”. قرر توبول، الذي كان منبهرا من عزف ألمديوني، أن يبحث عن أصوله ويصبح عضوا منتسبا لعروض الفرقة الموسيقية الأندلوسية الإسرائيلية. شعر توبول بدهشة كبيرة عندما زار ألمديوني إسرائيل وعرض عرضا موسيقيا مع الفرقة الأندلوسية.

“في نهاية الحفل الموسيقي ذهبت مع والدتي للتحدث مع ألمديوني”، قال توبول. “اتضح أنه يعرف كل أبناء عائلتي من جهة والدي ووالدتي من فرنسا”. بعد مرور نصف سنة، بعد أن زار ألمديوني إسرائيل لتقديم عرض موسيقي آخر، أجرى توبول لقاء بين ألمديوني وبين جدته، التي وصلت إلى إسرائيل من مدينة وهران التي وصل منها ألمديوني أيضا. “كان ذلك اللقاء محفزا لإقامة ‘مقهى جبرلتر’. كان هذا اللقاء محفزا”، قال توبول. بالمناسبة، قرر ألمديوني بعد مرور نحو سنة الهجرة إلى إسرائيل وذلك في سن 83 عاما، ومنذ ذلك الحين ينظم له توبول حفلات موسيقية في أرجاء إسرائيل.

يعرب توبول عن ندمه لأن جزءا كبيرا من الإسرائيليين، حتى هؤلاء الذين يفهمون الموسيقي ويهتمون بها، لا يعرفون أغاني المطربة المشهورة فيروز وليسوا قادرين على التفرقة بين أغان تركية ومصرية. “بدأت أعرف ثقافات عربية عريقة، تتضمن تقاليد وتراثا عريقا، لا نعرفها. لاحظت فجأة أن هناك إسرائيليين كثيرين يهتمون بهذه الثقافة، وهكذا نشأت في الواقع حركة ثقافية”، وفق أقواله.

الأوركسترا الأندلسية “David Cohen / Flash90) “Moreshet Avot)

بعد خمس سنوات من إقامة “مقهى جبرلتر” قرر توبول العمل وإقامة حركة اجتماعيّة – سياسية تعرض هذه الأفكار وتتضمن المجتمع، السياسة والهوية اليهودية. هكذا أقيم “العصر الذهبي” – اتحاد يتضمن أشخاص من الضواحي أصحاب رؤيا ثقافية واسعة للمجتمع الإسرائيلي. “مجتمَع يتعامل بشكل سليم وصحيح مع تراث حضارته الشرقية، لا يفرق بين مناطق الضواحي ومناطق المركز”، أوضح توبول.

“لا داعي لأن يكون الإنسان يساريا ليحترم الثقافة العربية”، وفق أقوال توبول. “أعتقد انطلاقا من حبي للوطن، علينا تعزيز علاقاتنا مع الدول العربية، مثل المغرب والسعودية. يجب أن تتصدر هذه الخطوة سلم أفضليات الدولة”. يؤكد توبول على أهمية تعلم اللغة العربية في إسرائيل، والتعرف إلى الثقافة العربية، ويعرب عن ندمه لأنه لم يتعلمها. “طيلة سنوات، سادت في إسرائيل فكرة ‘فيلا في الأدغال’، الجميع حولنا اعدائنا. تغمرني السعادة في ظل التغييرات التي تحدث الآن”، قال توبول. “بدأت علاقات تحالف بين إسرائيل والسعودية في ظل محور الشر، ويمكن التوحد والعمل معا حول موضوع واحد”.

توبول مع نشطاء حركة “العصر الذهبي” (Facebook)

يؤكد توبول أن ليست هناك علاقة بين التوجه السياسي والحاجة إلى التعرف إلى الثقافة القريبة. “يمكن أن يكون الفرد مغرما بوطنه، وأن يفهم في الوقت ذاته أنه يعيش في الشرق الأوسط ويجدر به التعرف إلى ثقافته ولغته”، وفق أقوال توبول. “لا أعتقد أن صنع السلام أصبح قريبا، ولكن لم َلا نستغل الفرصة ونربي هنا جيلا من الأطفال اليهود الناطقين بالعربية؟ عندما ينشأ هنا جيل يتحدث العربية ويكون قادرا على التواصل مع غزة بشكل مباشر، على سبيل المثال، يتغير الوضع. ربما يطرأ تغيير على المفهوم العربي أيضا وعندها ينظر العرب إلينا نظرة مختلفة”.

يؤكد توبول على أن معرفة اللغة العربية لا يشكل بالضرورة تقاربا، ولكنه يعتقد أن على الإسرائيليين أن يكونوا مطلعين على الثقافات المجاورة، وهذا ما يسعى إلى تحقيقه من خلال برنامجه الإذاعي الجديد “شاحور زهاف” (الذهب الأسود). يوضح توبول أنه طرأ تغيير هام في السنوات الأخيرة وهناك حركة نهضة نشطة في مجال الموسيقى العربية والشرقية في إسرائيل. وفق أقواله، “هناك عدد كبير من الفرق الموسيقية التي تعزف الموسيقى العربيّة والأندلوسية، وافتُتحت في القدس معاهد موسيقى شرقية، ويقدم المطربون الإسرائيليون أغاني مقلدة بالعربية وليس بالعبرية. تغيّر الوضع مقارنة بالسنوات العشر الماضية”.

يعتقد توبول أن الوضع المثالي هو عندما يكون المجتمع الإسرائيلي مطلعا على ما يحدث في الشرق الأوسط، يعمل وفق التراث اليهودي، ويستخدمه كعامل ربط وتقارب. “آمل أن نعيش في مجتمع يربط بين التراث اليهودي والشرقي الخاص به بشكل متواصل”، قال توبول.

https://www.youtube.com/watch?v=m0PndhvZgLs

اقرأوا المزيد: 920 كلمة
عرض أقل
يهود المغرب
يهود المغرب

يهود المغرب.. من أقصى الغرب إلى القُدس

من حروب القبائل البربريّة، عبر الأيّام العظيمة لجالية فاس، وحتّى الهجرة الجماعيّة إلى إسرائيل - إنها قصة الجالية اليهودية الأكبر والأهمّ في جميع الدول العربية

إنها قصة جالية ضاربة في القِدم، تصل جذورها إلى أيّام التاريخ الأولى، وهي قصة حفاظ على التقاليد في ظروف مستحيلة لمشاكل لا تتوقّف، وهي أيضًا قصّة تبلوُر هويّة مجدَّدة على خلفيّة ظروف متغيّرة – قصّة الجالية اليهودية الأكبر في البلدان الإسلامية، يهود المغرب.

أيّام الحرب وانعدام الاستقرار

يُدرك المؤرِّخون أنّ اليهود الأوائل وصلوا الساحل الجنوبي الغربي للبحر المتوسّط منذ عهد الإمبراطورية الرومانية. لكنّ التقاليد اليهوديّة تدّعي أنّ استقرار اليهود في المغرب يعود إلى ما قبل ذلك، إلى أزمنة الكتاب المقدّس. فذريّة سكّان قرية “إفران الأطلس الصغير” اليهود يروون أنّ آباءهم، رجال الملك سليمان، وصلوا إلى المغرب على سُفن الفينيقيين.

في أيّام الإمبراطوريتَين الرومانية والبيزنطية، واجهت الجالية هزّات قويّة، لكنّها استمرّت في النموّ. وتُظهر شهادات تاريخية أخرى أنّ الرومان طردوا 30 ألف يهودي إلى المغرب بعد تدميرهم الهيكل اليهوديّ. كان هؤلاء أوائل اليهود في المغرب.

حين كانت الأندلس ساحة صراعات تاريخية بين العالَم المسيحيّ والإسلام، حافظ يهود المغرب على هويّتهم الدينية رغم الضغط “المسيحي” الشديد، الذي أكرههم على تغيير دينهم. أمّا مع صعود الإسلام، فقد تحسّن وضع اليهود، بعد أن حظوا بمكانة “أهل الذمة” كما في سائر أنحاء العالم الإسلامي.‎ لكن لم يطبّق جميع الحكّام قوانين الذمة بالطريقة عينِها، ما جعل وضعهم بين مدّ وجَزر.

منطقة جبال الأطلس في المغرب (Nati Shohat /Flash90)
منطقة جبال الأطلس في المغرب (Nati Shohat /Flash90)

في ذلك الوقت، كان هناك فارق هام بين يهود “بلاد المخزن”، الذين عاشوا في ظلّ السلطة المغربية المركزيّة، وبين يهود “بلاد السيبة”، الذين كانوا تحت رحمة سلطات القبائل الأمازيغية المتمردة. في بعض الأحيان، كان وضع يهودٍ معيّنين جيّدًا جدًّا، فيما كانت جاليات أخرى تصارع من أجل الحياة.

تحت سلطة الأدارسة في القرن التاسع، كانت حالة اليهود متقلِّبة. فمؤسس السلالة، إدريس بن عبد الله، الذي كان من نسل عليّ بن أبي طالب، كان قاسيًا تجاه اليهود. لكنّ ابنه استقبلهم بالترحاب، ودعاهم إلى الاستقرار في مدينة فاس، التي كانت قد أنشئت قبل سنواتٍ معدودة. فأضحت المدينة مركزًا للحضارتَين الإسلاميّة واليهوديّة على حدٍّ سواء.

وفق تقاليد مختلفة، سادت في تلك الحقبة ظاهرة تهوّد كثيرين من أبناء القبائل الأمازيغية، الذين اعتنقوا الدين اليهوديّ. ولكنّ صحّة تلك التقاليد ليست أكيدة.

في القرن الحادي عشر وبداية الثاني عشر، أيام سلطة المرابطين، كانت حالة اليهود أفضل نسبيًّا. تولّى العديد من اليهود الوزارة، ووصل عدد من الأطباء اليهود إلى بلاط يوسف بن تاشفين، الذي طلب مساعدتهم في إنشاء مدرسة للطب في مدينة مراكش.

عرس يهودي مغربي عام 1839، صورة من متحف اللوفر (Wikipedia)
عرس يهودي مغربي عام 1839، صورة من متحف اللوفر (Wikipedia)

انتهى ذلك العصر الذهبي في أيّام الموحِّدين، الذين ارتقوا العرش في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، ليفرضوا على جميع اليهود في المغرب والأندلس اعتناق الإسلام. تظاهر يهود كثيرون باعتناق الإسلام، لكنهم حافظوا على يهوديتهم خفيةً. مرّ قرنان قبل أن تعود الجالية اليهودية في المغرب إلى وضعها السابق، لكنها بدأت تنعزل في أحياء “الملاح”، التي تميّز بها اليهود في كلّ مدينة.

مدّ وجَزر

لكنّ ما غيّر طابع يهودية المغرب أكثر من أيّ شيء آخَر هو طرد اليهود من إسبانيا عام 1492. فقد وصل عشرات الآلاف من اليهود الجُدد إلى مدن المغرب واستقرّوا فيها. خلال قُرون، شكّل يهود المغرب الأصليون والوافدون الجدد جاليتَين منفصلتَين، لكلٍّ منهما عاداتها وأحكامها، ولم تبدأ الفوارق بالتقلُّص إلّا بعد مرور قرنَين. من جهة، أدّى احتلال “الممالك المسيحية” في ساحل البحر المتوسِّط إلى معاناة يهود إسبانيا والبرتغال من قسوة “الطوائف المسيحية” حتّى بعد الهجرة إلى المغرب. ولكن من جهة أخرى، حظي هؤلاء بمكانة أرفع من اليهود الأصليين، وعُرفوا كتجّار ودبلوماسيّين خبيرين، كانوا مقبولين على جيرانهم المسلمين أيضًا.

مقهى يهودي في مدينة فاس (Wikipedia)
مقهى يهودي في مدينة فاس (Wikipedia)

في نهاية المطاف، كانت هجرة يهود الأندلس بركةً كبيرة بالنسبة ليهود المغرب، وبدأت منذ مطلع القرن السادس عشر حقبة ازدهار اقتصادي ملحوظ. في القرون التي تلت، عرفت الجالية فترات ازدهار ونموّ إلى جانب فترات عدائية، سرقة، ونَهب.

استمِعوا إلى الأغنية اليهوديّة – المغربيّة التقليديّة “قِف كرجُل وتغلَّب على الاعتراف بالأخطاء”:

اعتُبر السلطان يزيد، الذي حكم في أواخر القرن الثامن عشر، من أعداء اليهود، إذ أذلّ أثرياء الجالية، وأمر بنهب الملاح اليهوديّ واغتصاب نسائه. ويتحدّث تقليد آخَر من بلدة إفران عن خمسين من يهود المدينة، قفزوا داخل النار المشتعلة حين خُيّروا بين اعتناق الإسلام والموت. كلّما ازدادت نيران الحروب الدوليّة التي أثّرت في المغرب، عانى اليهود أكثر، لأنّ جيرانهم صبّوا عليهم جام غضبهم من العدوّ.

أيّام الوفرة تحت سُلطة فرنسا

في مطلع القرن العشرين، حلّت ذروة جديدة في سوء وضع يهود المغرب. ففي الاضطرابات التي حدثت في مدينة تازة عام 1903، قُتل 30 شخصًا، فيما قُتل 50 في مدينة سطات عام 1907، و30 شخصًا في مدينة الدار البيضاء في السنة عينها. في الدار البيضاء، وقعت الاضطرابات الأسوأ. فقد اقتحم خمسة آلاف مسلّح مغربي الملاح اليهوديّ، نهبوا وهدموا كلّ شيء، حتّى إنهم خطفوا النساء، وأجبروا الناس على اعتناق الإسلام.

لكنّ معاهدة فاس عام 1912 أدّت إلى انتهاء تلك الفترة المظلمة. فرغم أنّ مجزرة نُفّذت في خمسين من يهود فاس فور دخول المعاهدة حيّز التنفيذ، أدّى تعزيز السيطرة الفرنسيّة على المغرب إلى منح اليهود الحماية والرعاية. بشكلٍ عامّ، حمى الفرنسيون يهود المغرب، وسُرّوا بأن يقدِّموا لهم لغتهم وحضارتهم.

يهود المغرب
يهود المغرب

تحت رعاية فرنسا، ازدادت الثقافة بين اليهود، وتأسست نخبة جديدة، لم تعتمد على القيادة الدينية التقليديّة. رُويدًا رُويدًا، بدأ اليهود الموسرون والشبّان يهاجرون من الأحياء اليهوديّة إلى الأحياء الأوروبيّة. وفي تلك الفترة، أصبح جميع يهود المغرب تقريبًا مدنيّين، وتبنّوا نمط حياة عصريًّا.

حتّى إنّ كثيرين من اليهود هاجروا من المغرب إلى فرنسا وأمريكا الجنوبية. وحتّى اليوم، يعيش في فرنسا نحو 150 ألف يهودي مغربيّ. بالمقابل، آثر قلّة من اليهود – بضعة آلاف فقط – الهجرة إلى فلسطين. لكن مع احتلال ألمانيا النازية لفرنسا عام 1940 وإقامة حكومة فيشي اللاساميّة، عاد وضعهم يسوء.

استمِعوا إلى المزيد من الغناء اليهوديّ المغربيّ:

http://youtu.be/xvZ7KZNAK6Y

بعد إقامة دولة إسرائيل

قلب إنشاء دولة إسرائيل عام 1948 الكائنات. فقد أصبحت نظرة السكّان المسلمين عدائيّة أكثر من أيّ وقت مضى. ورغم أنّ الأسرة المالكة، لا سيّما في عهد الملك محمد الخامس، منحت اليهود حقوقًا متساوية، سادت الخشية على مصير الجالية.

لكنّ الإسرائيليين لم يرحّبوا بكلّ يهودي مغربيّ بمحبة. فقد وضعت القيادة اليهوديّة في إسرائيل شروطًا للهجرة إلى إسرائيل، وفضّلت قبول المغاربة الشبّان والمعافين، الذين يمكنهم المساهمة في تطوّر الدولة الفتيّة، فيما اضطُرّ المسنّون والمرضى إلى البقاء في المؤخرة، ومات كثيرون منهم قبل الحصول على فرصة الهجرة.

حين استقلّ المغرب عام 1956، أصبحت هجرة اليهود غير شرعيّة، وبدأت إسرائيل تهرّبهم خفيةً. حاول الملك محمّد الخامس إقناع اليهود بأنهم سيواصلون التمتّع بالأمن والوفرة، وعيّن لهذا الهدف وزيرًا يهوديًّا في حكومته – ليون بن زاكين، الذي عُيّن وزيرًا للبريد. مع ذلك، هُرّب نحو 30 ألف يهودي إلى إسرائيل في أواخر الخمسينات بشكل غير شرعيّ، وخلافًا لرغبة الحكومة المغربيّة.

عائلة يهودية مغربية لدى وصولها الى إسرائيل (Wikipedia)
عائلة يهودية مغربية لدى وصولها الى إسرائيل (Wikipedia)

عام 1961، حدثت كارثة، حين غرقت في البحر سفينة تُدعى “أجوز”، كان على متنها 44 يهوديًّا في طريقهم إلى جبل طارق باتّجاه إسرائيل، ومات جميع ركّابها عدا ثلاثة من أفراد الطاقم. في العام نفسه، وُقّعت معاهدة جعلت الهجرة سريّة، وفي أوائل الستينات، وصل إلى إسرائيل نحو 80 ألف مغربيّ يهودي بطُرق شرعيّة. بالإجمال، هاجر إلى إسرائيل على مرّ السنين 250 ألف يهودي مغربي.

الصعوبات في إسرائيل

مثل أية هجرة من الدول العربية إلى إسرائيل، واجه يهود المغرب أيضًا صعوبات عديدة مع وصولهم إلى البلاد. فقد عانوا من النظرة الدونية إليهم كأشخاصٍ دون حضارة، عنفاء، وبدائيين، وذلك رغم تقاليدهم وحضارتهم المتنوّعة والثريّة التي جرى الحفاظ عليها على مرّ السنين. ومن المهين بشكل خاصّ اللقب “مغربيّ سكّين” الهادف إلى التلميح أنّ طبيعة يهود المغرب حارّة وعنيفة.

في حادثتَين مركزيّتَين على مرّ السنين، احتجّ يهود المغرب على التمييز ضدّهم. أوّلًا: عام 1959، جرفت موجة من التظاهُرات مدينة حيفا بعد أن أطلق شرطيّ إسرائيلي النار على شخصٍ من أصل مغربيّ في حيّ وادي الصليب في المدينة. ردًّا على ذلك، تظاهر اليهود المغاربة مقابل مقرّ الشرطة في حيفا. كان ردّ فعل المؤسسة عنصريًّا بحدّ ذاته، إذ اتّهم المتظاهرين بأنهم سكارى وعاطلون عن العمل.

أمّا الحدث الثاني فقد جرى أوائل السبعينات، مع إقامة حركة “الفهود السود” الإسرائيلية، التي مثّلت المتحدّرين من الدول الإسلامية في إسرائيل، وطالبت بالتوقُّف عن التمييز ضدّهم. نظّمت تلك الحركة، التي قادها مهاجرون مغربيّون، تظاهرة من آلاف الأشخاص في قلب القُدس، دعت إلى معالجة ضائقتهم.

إثر ذلك الاحتجاج العنيف، استجابت الحكومة لمطلب مناقشة ادّعاءات “الفهود” بجدّية، حتّى إنها أقامت لجنة عامّة لإيجاد حلّ لمشكلتهم. وأظهرت نتائج لجنة الفحص أنّ طبقات عديدة في إسرائيل جرى التمييز ضدّها. في أعقاب ذلك، ازدادت بشكل ملحوظ موازنات الوزارات التي تُعنى بالشؤون الاجتماعيّة. ووُجّهت أموال عديدة للاهتمام بالطبقات المستضعَفة.

مظاهرة "الفهود السود" في القدس عام 1971
مظاهرة “الفهود السود” في القدس عام 1971

أدّت مشاعر السخط والاضطهاد بكثيرين من أصول مغربية إلى الإطاحة بسلطة حزب مباي (حزب عمّال أرض إسرائيل) عام 1977، وإيصال حزب الليكود برئاسة مناحيم بيجن إلى السلطة للمرة الأولى. حتّى اليوم، بعد عُقودٍ من تلك الأحداث، ثمّة بين أبناء الجالية المغربية في إسرائيل مَن يدّعي أنّه يجري التمييز ضدّ أفرادها بالمقارنة مع الإسرائيليين ذوي الأصول الأوروبيّة. بالتباين، ثمّة مَن يدّعي أنّ تلك الفجوات امّحت منذ عهدٍ بعيد.

الثروة الحضارية

تُعرَف لغة يهود المغرب، أدبهم، وموسيقاهم بثرائها وعمقها الشديد. تختلف لغة يهود المغرب بين منطقةٍ وأخرى. اللغة اليهوديّة – المغربية هي لهجة مختلفة عن تلك التي للمغاربة العرب، وهي لا تزال محفوظة في ألسنة المتحدّرين من المغرب. ينطق اليهود من ذريّة المطرودين من إسبانيا بلغة “حاكيتيا”، وهي لهجة للُغة اللادينو، فيما ينطق يهود الجبال المغربية بلهجات متفرّعة عن اللهجة الأمازيغية الأطلسية. فضلًا عن ذلك، ينطق معظم اليهود المغاربة بالفرنسيّة على مستوى عالٍ.

يحافظ الشعر اليهوديّ المغربيّ على مواضيع من حضاراتٍ شتّى، ويدمج بين مواضيع يهودية كلاسيكيّة وموتيفات أندلسيّة تسلّلت إثر التأثير الأندلسيّ. على مرّ العصور، كانت المغرب مركزًا للشعر الديني اليهوديّ، الذي منح الشعب اليهوديّ فصائد يُنشِدوه في المجامع في السبوت في الشتاء. تمزج هذه العادة، التي تعود أصولها إلى يهود الأندلس، بين تسبيح الله والثناء على يوم السبت مع الحنين إلى أرض إسرائيل.

استمِعوا إلى الصيغة الخاصّة لـ “شعر الطلبات” المغربي:

اقرأوا المزيد: 1454 كلمة
عرض أقل