أستهل هذا المقال بالتطرق إلى قصتين شخصيتين سمعتهما في صغري. كان يروي لي والدي غالبا أنه كان يسافر في صغره مع كل أفراد العائلة بمحاذاة الشاطئ بعض الكيلومترات من بيارة العائلة في يافا باتجاه الجنوب. “كنا نجتمع مع عشرات العائلات في كل صيف في شهر آب تقريبا، بالقرب من مسجد النبي روبين ونقضي ليال بأكملها على الكثبان الرملية، نتناول الأسماك الطازجة التي كنا نصطادها، ونتمتع بزيارة الكروم وتناول التين الطازج، الذي نما على الكثبان الرملية بشكل عجيب. مضت هذه الأيام ولن تعود بعد”.
وسمعت القصة الثانية ذات مرة من مرشد سياحي عندما توجهنا إلى الموقع المقدس احتفالا بمولود جديد في العائلة. لا أعلم إذا كانت القصة حقيقية، ولكن يبدو لي أنها تمثل أكثر من أي شيء العادات والتقاليد الخاصة بهذا الموقع المقدس.
“سكن بالقرب من قرية أرسوف (شمال يافا المدينة التي وُلدت فيها) رجل كان يدعى علي. فهو اعتاش على التجارة وصنع العجائب. كانت تزوره في منزله نساء حوامل، أزواج قبل الزواج، ومسافرون قبل سفرهم. وكان يهمس علي في آذانهم أقواله، ويصلي صلاوات من أجلهم ويباركهم. هناك أشخاص وُلِدوا محظوظين، لهذا عندما كبُر علي في السن، أصبح قاض عدل قادرا على النظر في عيون البشر واكتشاف إذا كانوا صادقين أم كذابين. بدأ يزوره في منزله تجار دارت صراعات بينهم، جيران انقطعت العلاقات بينهم، وأولاد تعرضوا لنزاعات فيما بينهم حول الورثة، وكان في جدران منزله في الجهة الجنوبية حجر أسود. حتى يومنا هذا، ما زال هذا الحجر موجودا في المسجد الذي أقيم على قبر هذا القديس المحلي.
موسم النبي روبين
مسجد سيدنا علي شمال مدينة يافا (Wikipedia)
لا يزور المؤمنون المسلمون في يومنا هذا، المواقع المقدسة هذه ولا يحتفلون بالقرب من القبور فيها ولا بولادة الأطفال أو باحتفالات أخرى. كذلك فإن قصص الفولكلور المحلية هذه لا يعرفها الكثيرون من أبناء جيلي.
كانت الأمور تسير على نحو مختلف في الماضي، فكان من المتبع أن يقوم المحليون بهذه النشاطات في فلسطين في الماضي، قبل قيام دولة إسرائيل، وربما بعد سنوات منذ قيامها. كانت هذه المواقع مصدر ترفيه عائلي متبع. كان يتحدث كبار السن في يافا عن إجراء احتفال استثنائي في ساعات الصباح الباكرة من أيام الصيف الحارة، في شهر آب تقريبا: كان يجتمع كل من النساء، الرجال، والأطفال من كل الأعمار وكل الطبقات الاجتماعية بالقرب من مسجد المحمودية في المدينة، بالقرب من الشاطئ ويبدأون بالسفر جنوبا نحو مقام النبي روبين. كانت تتجه أيضا قوافل الجمال، الحَمّارة، والحصن، وهي تحمل بضاعة ثقيلة وكثيرة: خيما، أدوات طبخ، وأغطية للأسرّة. كان يصل الكثير من المواطنين عبر ميناء يافا والمدينة القديمة، عبر طريق الشاطئ المؤدية إلى غزة، للاحتفال وزيارة قبر النبي روبين السنوية.
هناك تقاليد إسلامية قديمة، حددت أن موقع قبر النبي روبين، ابن يعقوب المذكور في التوراة، يقع في منطقة وادي سوريك، على بعد نحو 15 كيلومترًا جنوب مدينة يافا. وفق التقاليد اليهودية فإن قبر روبين يقع في شرق الأردن.
مقام النبي موسى قرب مدينةأريحا الفلسطينية (Flash90\Abi Sultan)
ينسب الباحثون عادة زيارة القبر المقدس السنوية، إلى القرن الثاني عشر حتى الثالث عشر وإلى الفترة التي سعى فيها المماليك إلى إظهار الحضور الإسلامي في الموقع في ظل العادات المسيحية في تلك الفترة. أصبح قبر النبي روبين، مثل قبر النبي موسى بالقرب من أريحا، مركزا احتفاليا دينيا سنويا. ولكن خلافا لزيارات الحج إلى المواقع الأخرى، فإن زيارة قبر النبي روبين استمرت أربعة أسابيع كاملة في الصيف.
إضافة إلى الخيم والسقيفات التي أقامتها العائلات التي زارت الموقع من مدينة يافا، غزة، الرملة، واللد افتُتِحت أيضا أسواق، مقاه، مطاعم، ومخابز، وجرت عروض موسيقية، مسرحيات، وعروض سينمائية تحت قبة السماء.
فيديو منذ عام 1930 يوثق الزيارة السنوية
https://vimeo.com/210638223
في البداية كان طابع المهرجان السنوي دينيا واضحا، ولكن مع مرور السنين، لا سيّما في القرن التاسع عشر، بعد أن أصبحت يافا المدينة المركزية في الجنوب، أصبح يشبه المخيم الصيفي المؤقت الخاص بسكانها موقع استجمام نابض بالحياة أكثر.
ذُكرت الزيارة السنوية في كتب عالم الجغرافيا، أبو الفداء إسماعيل (1273-1331). فهو يصف الاحتفالات السنوية الكبيرة التي كانت تقام بالقرب من القبر والمسجد المقدس والتي كانت تستقطب الرحل والتجار من خارج البلاد. في عام 1816، زار سائح إنجليزي يُدعى Irby الموقع وقال إنه في الاحتفالات يشارك نحو 30.000 عربي من كل القرى المجاورة. في الاحتفالات التي أقيمت عام 3519، بُنيت دار السينما الفلسطينية الأولى بالقرب من المسجد وعرضت للمرة الأولى فيلما وثائقيا محليا. بات المسجد مهجورا في يومنا هذا وحتى أن منارته انهارت.
عجائب سيدنا علي
مقام النبي روبين، جنوبي مدينة يافا (Wikipedia)
إن نهاية القرن الثاني عشر معروفة بالحروب المتكررة بين صلاح الدين الأيوبي، حاكم المملكة الإسلامية أثناء الحملات الصليبية، وبين حكام المملكة الصليبية الأولى التي سيطرت على المنطقة بين عامي 1099-1187.
ولكن لن نركز هنا على صلاح الدين بل على أحد مقاتليه، علي بن عليل المعروف أيضا باسم ابن عليم الذي كان من نسل عمر بن الخطاب، مؤسس الدولة الإسلامية في بداية عهدها.
في عام 1081، سقط علي ابن عليم في إحدى المعارك ضد الصليبيين وأصبح مقدسا بسبب قرابته من الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ومقاتلا في جيش صلاح الدين. وفق الديانة الإسلامية فإن قبر علي يقع شمال يافا على شواطئ مدينة هرتسليا الإسرائيلية في يومنا هذا. أقيم المسجد المعروف باسم سيدنا علي، بعد مرور مئات السنوات منذ موت ابن عليم في القرن الرابع عشر.
استُخدم الموقع طيلة سنوات كمحكمة خاصة. هناك خارج مبنى القبر حجر أسود وعندما كانت هناك حاجة لمعرفة مَن هو الصادق من بين متنازعين، كان على كل منهما وفق دوره أن يغمض عينيه ويتقدم نحو الحجر ويده ممدودة إلى الأمام. في حال كان يلمس الحجر، كان يعد صادقا ولكن إذا لمس الحائط كان يعد كاذبا. استخدمت كل الأديان هذا الموقع على مر التاريخ: استخدمه الحجاج أثناء الفترة الصليبية للاستراحة وأجروا طقوس الزواج والطهور.
خلافا لمقام النبي روبين، ما زال مسجد سيدنا علي، قائما وتزوره عائلات كثيرة أحيانا للحصول على بركة الصديق.
لقد انتهى عصر التكتل الاجتماعي حول المواقع المقدسة، الغامضة، وهذه والقصص الشعبية. لن تؤثر كثيرا القصص التي سأرويها عن العجوز علي وعن عجائبه وعن التمتع بزيارة قبر النبي روبين في آذان من يسمعها كثيرا، لأنها تاريخ مضى لا يعرفه الكثيرون الذين يخسرون معرفة عظمتها.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني