يعرف المشهد السياسي التونسي حالة حراك استثنائية، وذلك بمناسبة الإعداد لتنظيم أول استحقاق انتخابي بعد ثورة يناير 2011. وينظر إلى هذا الاستحقاق الانتخابي في الداخل والخارج على أنه سيحدد مستقبل البلاد خلال السنوات القادمة؛ خاصة وأنه يترافق مع حالة ترقب وقلق مجتمعية عامة بسبب الأزمة الاقتصادية وغياب الاستقرار. ولعل أبرز ما يميز هذا الحراك التونسي، الذي يشغل المراقبين والمحلّلين الدوليين، هو العودة القوية لرموز ووزراء نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، و هذه العودة أدّت الى بروز تساؤلات حول نجاح التحول الديمقراطي في تونس.
أحدث مشهد عودة منذر الزنايدي، أحد أبرز وزراء النظام السابق، من باريس بعد ثلاثة سنوات من الإقامة بفرنسا، استفزاز وصدمة لدى قطاع واسع من التونسيين حيث أقيم له استقبال “شعبي” في بهو مطار تونس في قرطاج. وقد سبق الإعداد لهذه العودة عبر تهيئة واسعة للرأي العام، كما حضيت باهتمام إعلامي كبير، خاصة بعد أن أعلن الزنايدي عن الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة. و الزنايدي هو خامس شخصية “كبيرة” من فترة حكم بن علي تعلن عن ترشحها. هذا الأمر عمّق “التخوفات” من إمكانية حكم تونس مستقبلا من قبل أحد “رجالات” بن علي، وبالتالي عودة المنظومة القديمة.
على المستوى الشعبي، أثار ترشح وزراء “الصف الأول” في آخر حكومة قبل الثورة، أي الذين شاركوا في كل حكومات بن علي طيلة 23 سنة، العديد من ردود الأفعال بين رافض لعودتهم للحياة السياسية، باعتبارهم جزء من نظام قامت عليه ثورة شعبية، وطرف أخر مؤيد لهذه العودة بل يرى أنها أصبحت ضرورية لإنقاذ البلاد من حالة التردي التي انتهت إليها بعد ثلاثة سنوات ونصف من ثورة 2011. وفي ذلك احتجاج على عجز حكومات ما بعد الثورة عن تأمين حاجيات الناس، وعن إدارة شؤون البلاد والحكم، نظرا لافتقارها للتجربة والكفاءة الضرورية لمثل هذه المهمة، وهو ما برز بالخصوص أثناء فترة حكم الترويكا بزعامة حزب حركة النهضة الإسلامية.
أما على المستوى السياسي، فان عودة رموز نظام ما قبل الثورة كانت في الواقع سابقة لمرحلة الاعداد للانتخابات. فبعد عامين وسبعة أشهر من سقوط النظام، عاد قيادات حزب التجمع الدستوري الحاكم سابقاً إلى الساحة السياسية. فقدّم الوزير الأول السابق لبن علي حامد القروي طلباً رسمياً للحصول على ترخيص لحزب جديد باسم “الحركة الدستورية،” ويشارك الآن في الانتخابات البرلمانية والرئاسية. كما تنشط أحزاب “دستورية” أخرى يتزعمها رموز ووزراء اشتغلوا مع النظام السابق بل كانوا من أعمدته، على غرار حزب “نداء تونس” بزعامة الباجي قائد السبسي، الذي يعدّ المرشح القوي للرئاسة. إضافة إلى حزب “المبادرة الدستورية” برئاسة وزير الخارجية في عهد بن علي كمال مرجان، الذي له 5 مقاعد في المجلس الوطني التأسيسي.
كما تجدر الإشارة إلى أن هذه العودة تفسر بتمطيط مسار الانتقال الديمقراطي خلال الفترة الانتقالية، وعجز حكومات ما بعد الثورة عن تأمين احتياجات الناس، ويضاف إليها تفجر مظاهر العنف السياسي الذي تطور إلى إرهاب مسلح مارسته جماعات متشددة في “غفلة” أو “تواطؤ” من “حكم الترويكا” بزعامة “النهضة” الإسلامية. أدى هذا الأمر الى التعجيل بإسقاط حكم الاسلاميين بطريقة سلمية عبر رحيل حكومة الترويكا التي جاءت بها “الحالة الثورية”. ومن أبرز سيمات هذا الواقع الجديد بروز دعوات علنية لعودة رموز النظام القديم.
لكن الاحساس الغالب واللافت للانتباه لدى الجميع، بما فيهم رموز ووزراء النظام السابق، هو أن عودتهم لتصدر المشهد السياسي لا تعني “المصالحة” التي تبقى رهينة “الاعتذار” ثم “المحاسبة” ضمن عدالة انتقالية بعيدة عن التشفي. كما أنها لا تعني عودة النظام السابق بسياساته وشخوصه، فـ”التاريخ يمضي ولا يعود،” كما صرح منذر الزنايدي أحد رموز عهد بن علي، وهو من بين العائدين للمشهد.
هنا، يتوجب على رموز النظام القديم، أن يدركوا جيدا بأن عالم ما بعد “الربيع العربي” تغير والى حد كبير عن شكله القديم، حيث وجدت أشكال جديدة وفاعلة وخارج حيز المؤسسات التقليدية. ولا يمكن الاتكاء على الأساليب القديمة وحدها لإنجاز الشرعية السياسية، أو قياس حجم الرضا الشعبي العام.
نشر هذا المقال لأول مرة على موقع منتدى فكرة