منذ سنوات، أتنقل بين إسرائيل والمغرب. لقد بدأت رحلتي إلى المغرب كرحلة شخصية متواضعة للتعرّف إلى أصولي المغربية، ولكن مع مرور الوقت أصبحت هذه الرحلة أوسع وذلك في أعقاب القصة الكبيرة حول هجرة يهود المغرب إلى إسرائيل، وقصة اليهود الذين ما زالوا يعيشون في المغرب حاليا. لا يمكن عدم التطرق إلى الماضي، ولكن ككل المواضيع التاريخية، فهو يطرح أسئلة حول الهوية في الحاضر التي تؤثر في المستقبل.
تتيح كل زيارة كشف المزيد من أجزاء البازل هذا. في زيارتي الأخيرة إلى المغرب، قضيت نحو شهرين في الدار البيضاء، التي تعتبر العاصمة الاقتصادية، وهي مدينة مليئة ومكتظة، وتثير إحباطا في ساعات معينة، لا سيّما إذا حاولتم العثور على سيارة أجرة في ذروة ساعات الازدحام في المساء. مع مرور الوقت، بعد أن عثرت على المقهى المحبوب لديّ وبدأت أتمتع بمشاهدة عروض ناجحة مع أصدقائي في ساعات المساء، تعرفت إلى تشكيلة ثقافية غنية في المدينة وتعلمت كيف أحترمها.
يعيش في وقتنا هذا في الدار البيضاء أكثر من سبعة مليون مواطن، معظمهم مسلمون. بقي فيها نحو 2.500 يهودي فقط – وهم يشكلون مجموعة قليلة من الجالية اليهودية التي عاشت فيها في الماضي. أصبحت الجالية اليهودية في يومنا هذا مستقلة تماما ولديها حاخمون، جزارون، مطهّرون، بعض المدارس، وكذلك 11 حتى 30 كنيسا قيد الاستخدام – تعمل الكنس في أيام معينة. المقابر والمؤسسات التابعة للجالية مُعتنى بها وتحكي قصة الجالية اليهودية التي لم تعد موجودة تقريبًا.
يجدر بنا أن نترك المعطيات الإحصائية، لأنه يمكننا أن نتعلم عن المدينة أكثر من السكان الذين يعيشون فيها. فاني مرجي، هي مغربية وصاحبة مصلحة تجارية لأزياء نسائية، انتقلت من المغرب إلى فرنسا، ثم وصلت إلى إسرائيل وزارت بعض الدول الأخرى، وفي النهاية عادت إلى المغرب مفعمة بالطموح ومليئة بالمعرفة. رأيت عبر نظراتها قصة الجالية اليهودية التي لم يبقَ منها تقريبًا سوى البنى، المؤسسات، والمنظمات. فهمت عبر وصفها تضاؤل الجالية اليهودية في المغرب وهجرتها، وشعرت باحترام كبير نحو من يعيش فيها الآن ونحو ماضي الجالية اليهودية العريق في المغرب. للحظات، ظهر حزن في نظراتها لم يكن في وسعها التغلّب عليه، وظهرت صعوبة لديها في التحرر من الماضي.
فاني هي أشبه بمرآة تعكس نقاط الاختلاف بيني وبينها، إذ أنني مقارنة بها وصلت إلى المغرب ولديّ القليل من المعلومات حول التراث اليهودي – المغربي. حتى زيارتي الأولى إلى المغرب، كنت أنظر إلى القصة المغربية في إسرائيل كعديمة الأهمية. لم أعرف ماذا يعني أن أكون مغربية ورفضت الاكتفاء بالإطراء على الأطعمة المميّزة والكثير من النكات الشعبية حول المغاربة، العراقيين، والأكراد. أردت أن أفهم بشكل واسع التراث المغربي وأن أتعرف إلى عادات الجالية وأن أسمع الأصوات المختلفة فيها. يمكن القول إنني قمت بهذه الرحلة تلبية لإشباع رغبتي لمعرفة الحقائق.
رغم أن معظم اليهود قد هاجروا المغرب منذ زمن، وبدأ يكتنف الغموض حول التعبير “جالية”، بقي في المغرب مصدران هامان حول تاريخ يهود المغرب: “البنية التحتيّة المنظماتية للجالية اليهودية ومؤسساتها، التي ما زالت قائمة بأشكال مختلفة، وكذلك سكان المغرب المسلمين.
“لم تعد الجالية اليهودية تعيش في المغرب بعد. ظلت فيها منظمات ومؤسسات فقط”، قالت فاني ردا على أسئلتي المتواصلة ومحاولاتي لمعرفة المعلومات حول ما تبقى. في الواقع، يدير الجيل المُتقدّم في العمر المؤسَّسات اليهودية، ويبرز هذا بشكل خاص عند زيارة المراكز اليهودية في فاس، مراكش، مكناس، وسائر الجاليات التي ما زالت تعيش فيها أقلية يهودية فقط. لا يمكن تجاهل الاضمحلال المتواصل وعدم التساؤل إلى أين اختفى الشبان من أبناء الجالية، ولماذا لا يشغلون مناصب في القيادة المحلية. لا شك أن هذا السؤال مؤلم بالنسبة للجيل الذي أرسل أولاده بعيدا عن المغرب، لذلك لم أطرحه. ربما ارتكبت خطأ عندم لم أسأل، ولكن في نظرة إلى الماضي يبدو أنني اخترت تأجيل مواجهة اعتراف الجالية الذي لا يمكن تجنبه حول تضاؤلها.
حاولت التوصل إلى إجابات من مصدر معرفة آخر تحديدًا – سكان المغرب المسلمين، الذين يتذكرون الجالية اليهودية الكبيرة التي عاشت في المغرب في الماضي. يمكن أن نلاحظ في كل مكان يزوره يهودي تأثر المسلمين المحليين ورغبتهم في مشاركة قصص يهود المغرب، التي تناولها الأشخاص. هناك شعور في أحيان كثيرة أن سكان المغرب يعتقدون أن هذا حقهم وحتى واجبهم، حيث إنه من وجهة نظرهم، ما زال هؤلاء اليهود مغاربة مثلهم تماما والهوية المغربية أبدية وفق أقوال يذكرونها في كل فرصة.
في السنوات الماضية، باتت تحكي وسائل الإعلام المختلفة في المغرب قصة اليهود. لقد اشتريت في إحدى نهايات الأسبوع في الدار البيضاء صحيفة ودُهشت عندما اكتشفت فيها تحقيقا تاريخيا واسعا حول اليهودية في المغرب ونشاطات الرفاه الخاصة بها. كان الحديث يدور عن جالية تحملت مسؤولية رفاه أبنائها واحترمت الجالية اليهودية جدا.
في السنوات الأخيرة، بدأت تُعرض أفلام حول اليهودية في المغرب في قنوات رسمية، وبدأت تثير حوارا مجتمعيا نشطا حول يهود المغرب في وقتنا هذا وحتى حول يهود المغرب في إسرائيل. أبرز هذه الأفلام هو فيلم للمخرج كمال هشكار، بعنوان “تنغير القدس: أصداء الملاح”، الذي بدأ يُعرض في قناة المغرب الثانية الرسمية 2M Maroc)). عُرض الفيلم الذي حظي بحملة تسويقية كبيرة في أنحاء المغرب والعالم العربي وأثار صدى ونقاشا كبيرا في وسائل الإعلام. إن الربط الذي أجراه المُخرج بين المغاربة المسلمين وبين المغاربة اليهود الذين يعيشون في إسرائيل، شكل تحديا حول وجهات نظر عربية وإسلامية، تعتقد أن إسرائيل كيان غريب في الشرق الأوسط.
أكثر من أي شيء، تأثرت بمجموعة من الشبان المسلمين، التي أقامت عام 2007 “جمعية ميمونة”، بهدف أن يتعرّف الجيل الشاب في المغرب إلى قصة يهود المغرب. عندما سمعت للمرة الأولى عن “ميمونة” ضحكت من اسم المجموعة؛ كان يبدو لي اسما سطحيا، لأنني كنت أعرف في ذلك الحين “عيد الميمونة” في إسرائيل فقط، الذي حظي بانتشار واسع في إسرائيل.
ولكن كان معنى الـ “ميمونة” مختلفا، هاما أكثر بكثير في المغرب. كما في كل عام، في عيد الفصح اليهودي، كان هناك فرق بين اليهود والمسلمين لأنه كان يُحظر على اليهود تناول الأطعمة التي تحتوي على خميرة. فلم يزر اليهود جيرانهم المسلمين أو لم يشتروا من متاجرهم أثناء العيد. بعد انتهاء عيد الفصح، كان اليهود يدعون أصدقاءهم المسلمين للاحتفال معهم بعيد الميمونة لنقل رسالة أن العلاقات بين الجاليات يمكن أن تعود إلى مسارها العادي. كان يشكل عيد الميمونة بالنسبة للأقلية اليهودية التي تعيش في أوساط أكثرية من المسلمين، وسيلة للتواصل بين الجاليات ونقل رسالة من الصداقة وحسن الجوار بينها.
في العقد الماضي، بدأت تعمل منظمة “ميمونة” في أنحاء المغرب بهدف مقاومة ظاهرة النسيان. يعتقد أعضاءؤها أن اليهودية تشكل جزءا لا يتجزء من التراث المغربي ويعترف بذلك دستور الدولة منذ عام 2011. الوطنية المغربية متعددة وكثيرة الثقافات، وتُعتبر التشكيلة الثقافية التي تميّز الهوية المغربية أفضلية وإحدى القيم المغربية الهامة. تظهر الصعوبة في أوساط الجيل الشاب في المغرب، الذي لا يعرف التراث اليهودي الخاص ببلاده ولم يتعرّف إليه، سواء بسبب أن القليل من اليهود يعيشون في المغرب في وقتنا هذا أو بسبب اختفاء التراث اليهودي من كتب التاريخ المغربية. يمتلأ الفراغ الناتج بمحتويات مثيرة للغضب من “الأراضي المقدسة” التي تنقلها وسائل إعلام إسلامية وعربية وتصف اليهود والمسلمين كأعداء لدودين. وهكذا مع مرور الوقت، بدأت العلاقات المميّزة التي كانت بين اليهود والمسلمين في المغرب طيلة سنوات تتلاشى.
يُطرح السؤال ما الذي يجعل شبان مسلمون يقيمون منظمة هدفها الثقافي والسياسي عكسي. أثناء حديثي مع أعضاء المنظمة حول الظروف التي أدت إلى أن يعملوا على تخليد التراث اليهودي المغربي في ذاكرة الجيل الشاب، تفاجأت من أنهم شعروا بتضامن مع الماضي التاريخي المجهول الخاص بيهود المغرب. كانت القصص التي سمعوها من أجدادهم عن يهود المغرب بداية رحلة حول يهود المغرب. تتضمن الحركة في يومنا هذا عشرات الأعضاء، يعملون في عدة مدن وجامعات ويجرون مؤتمرات حول يهود المغرب، يمررون دروسا بالعبرية، ينظمون رحلات في مواقع يهودية، يعقدون أمسيات تتضمن أكل الحلال وفق الشريعة اليهودية، ولديها منزل متنقل تعرض من خلاله التراث اليهودي أمام الجميع. هناك أهمية كبيرة للمنظمة، لأنها تحافظ على ذاكرة مهددة بالاختفاء، تحييها، ويثير حقيقة وجودها أملا في قلوب اليأسين.
في محادثة في مراكش مع المهدي بودرى من مؤسسي جمعية “ميمونة” تحدثنا عن الصعوبات التي تتعرض لها الجالية اليهودية في المغرب، تكيّفها مع الثقافة الفرنسيّة وانفصالها عن المجتمَع المغربي المسلم. كما وتحدثنا عن كتب التاريخ المستخدمة في المدارس في المغرب التي تدعم هذا الانفصال، وتحدثنا عن نقص القيادة اليهودية الشابة القادرة على إحداث تغيير في العلاقات بين الجاليات.
سألت المهدي السؤال الذي لا يمكن عدم طرحه، حيث يشغل بالي منذ زمن: “هل الانفصال الخاص بيهود المغرب ما هو إلا توجها واضحا يسير كجزء من التاريخ؟”. نظر المهدي وقال بثقة: “لا، ما زال إنقاذ الجاليات المتبقية في المدن الكبرى مثل، فاس، مراكش، والدار البيضاء ممكنا”. كان لدى المهدي أيضا برنامج عمل: “أهم ما يجب القيام به لتحقيق الهدف هو توفير مكافآت للشبان اليهود وضمان أن يظلوا في المغرب. يمكن القيام بهذه الخطوة من خلال منح مكافآت للجامعات الجيدة هنا، وهكذا نطور قيادة شابة ونشطة تكون مطلعة عما يحدث في المغرب، ولا تتوجه إلى فرنسا”. نظرت إليه مندهشة تماما من رؤيته وثقته التامة حول النجاح في تطبيق البرنامج، وتساءلت للحظة إذا كنت متشائمة أو أنه مجنون.
كانت تغمر أشجار النخيل كل قطعة أرض في المغرب تقريبا. هناك سبب منطقي وراء نمو هذه الأشجار، إذ أن القانون في المغرب يحظر قطعها. يدور الحديث عن قانون يطبقه المغاربة بشكل قهري – إذا بنيتم منزلكم وتوسطته شجرة نخيل فعليكم قبول الواقع، وإبقاء الشجرة حتى وإن كانت في وسط الصالون. هكذا أصحبت أشجار النخيل شائعة في المغرب، ويحافظ عليها القانون إلى الأبد أو حتى تموت تلقائيا.
كما هي الحال مع شجر النخيل، يحافظ القانون المغربي على اليهود وتراثهم كجزء من التراث المحلي، ويحظر إلحاق ضرر به. ربما يكون خيار البقاء أو عدمه متعلقا بأيدي اليهود كما هي الحال مع أشجار النخيل.
نُشرت هذه المقالة للمرة الأولى في موقع منتدى التفكير الإقليمي