في مطلع الأسبوع، نشرت وكالة “رويترز” للأنباء تحقيقًا جاء فيه أنّ الزعيم الروحي لإيران، علي خامنئي، يسيطر على منظمة تحتفظ سرًّا بعشرات الممتلكات والشركات في السوق الإيرانية، والتي تُقدَّر قيمتها بأكثر من 95 مليار دولار. وشدّد معدّو التحقيق على أن لا دليل أبدًا على استخدام خامنئي أموال المنظمة لأغراضه الشخصية، لكنهم ذكروا أنّ المنظمة تمثّل بالنسبة له مصدر قوة، وتمنحه أدوات اقتصاديّة هامة غير قابلة للمراقبة. وأثار نشر التحقيق مجدّدًا مسألة السلطة العليا لخامنئي في إدارة السياسة الإيرانية، وكذلك قضية مكانته الشعبية.
في السنوات الماضية، عمل المقرَّبون من المرشِد على تحصين صورته ومكانته. وبين الطرق التي اعتُمدت كان التشديد على تواضعه ونمط حياته البسيط. بالتوازي، جرت محاولة لتعظيم شخصيته، وحتّى نسب صفات تفوق الطبيعة له. في نيسان 2011، انتشر في إيران فيلم على يوتيوب يوثّق خطبة دينية ألقاها خطيب الجمعة في مدينة قُم، حجة الإسلام محمّد سعيدي. في الخطبة، نقل رجل الدين عن مقرَّبين من المرشِد الأعلى أنه في الساعة التي وُلد فيها خامنئي صرخت القابلة وادّعت أنه صرخ: “يا عليّ”، نداء متعارَف عليه بين الشيعة، يشير إلى الإمام الشيعيّ الأول، عليّ بن أبي طالب. يمكن رؤية مساعي تحصين مكانة خامنئي السياسية والدينية ردًّا مباشرًا على تآكُل قيادته السياسية وسلطته الدينية، لا سيّما منذ الأزمة السياسية التي اندلعت عقب الانتخابات الرئاسية صيف 2009. ولا يقتصر انتقاد قيادته كما في الماضي على دوائر صغيرة نسبيًّا من المثقفين اليساريين، رجال الدين الإصلاحيين، والمعارِضين للنظام، بل أضحى يُسمَع وسط المعارضة الإصلاحيّة، وحتى من قِبل عناصر في المعسكر المحافظ نفسه.
من طالِب دينيّ إلى مُرشِد أعلى
وُلد علي خامنئي عام 1939 في مشهد، وكان الثاني بين ثمانية أبناء. بعمر 19 عامًا، انتقل إلى مدينة قُم، المركز الديني الشيعي الأكبر في إيران، ليصبح أحد تلامذة الخُميني. في الستينات والسبعينات، لعب دورًا فاعلًا في حركة مقاومة حُكم الشاه، حتّى إنّ قوّات أمن الشاه اعتقلته وعذّبته مرارًا. في وقت الثورة الإسلامية، اعتُبر خامنئي أحد المقربين من الخُمينيّ. في حزيران 1981، نجا من محاولة اغتيال، أدّت إلى شلل يده اليُمنى. بعد أربعة أشهُر، عُيّن رئيسًا بعد حادثة اغتيال أخرى، أودت بحياة الرئيس محمد علي رجائي. وبقي رئيسًا حتّى موت الخميني، حيث عيّنه “مجلس الخبراء” مرشدًا للثورة.
جرى النظر إلى تعيينه خليفةً لخامنئي كخُروج صاخب عن مبدأ “حُكم الفقيه”. فوفقًا لنظرة خامنئي وانسجامًا مع دُستور الجمهورية الإسلامية من عام 1979، على المُرشِد الأعلى أن يكون عالِم الدين الأعلى رُتبة. أدّى اختيار خامنئي، الذي كان في رُتبة “حجة الإسلام” (رتبة أقلّ من تلك التي لآية الله) إلى إنتاج وضع ما عادت فيه الزعامة السياسية بين يدَي مصادر السُّلطة الدينية. في بداية قيادته، بدا أنّ خامنئي قانع بالمكانة التي اكتسبها وأنّ القوة السياسية المركزية هي بين يدَي الرئيس رفسنجاني. لكنّ خامنئي عمل تدريجيًّا على تثبيت سُلطته باستخدام سلطته على أجهزة الدولة، وعلى رأسها الحرس الثوريّ، لزيادة قوّته. وهكذا قوّى تدريجيًّا صلاحياته، حادًّا من قدرة الرؤساء رفسنجاني، خاتمي، ونجاد على المبادَرة.
خامنئي كمٌفتٍ حاسم في إدارة السياسات
أتاح تثبيت مكانة خامنئي له أن يركّز بين يدَيه معظم صلاحيات إدارة الدولة، وحتّى توسيعَها. يعمل القائد مصمِّمًا للخطوط العامّة للسياسة الإيرانية، يشرف على الأداء السليم للنظام، ويعمل قائدًا أعلى للقوات المسلحة. تمنحه صلاحياته في الواقع تحكُّمًا مطلَقًا بالسلطات الثلاث وتضعه فوق القانون عمليًّا، رغم أنّ الدستور ينصّ نظريًّا على أنه مساوٍ لباقي أفراد الشعب أمام القانون.
رغم صلاحياته الواسعة، يعمل خامنئي إلى حدٍّ كبير خلفَ الكواليس، مستغلًّا المؤسسات ومراكز القوى الخاضعة له ليفرض استراتيجيته. لا يتجلّى تأثيرُه غالبًا في التدخُّل المباشر في إدارة شؤون الدولة اليومية، وهو يمتنع عامّةً عن التدخُّل بشكل واضح في عمل المؤسسات السياسيّة المُنتَخَبة. أمّا في الحالات التي رأى فيها خامنئي أنّ تدخّله مطلوب لمنع الانحراف عن قِيَم الثورة، فلم يتردّد في فِعل ذلك. هكذا، مثلًا، منع المُرشد عام 2000 نقاشًا في مجلس الشورى كان يهدف إلى زيادة حرية التعبير في البلاد. كذلك، توقّف الدعم الذي قدّمه خامنئي للرئيس محمود أحمدي نجاد في ولايته الأولى حين تبيّن للمرشِد أنّ الرئيس يشكّك في قيادته. أضحت الخلافات في وجهات النظر بين الرئيس والمرشِد أزمة سياسية حادّة في آخر عامَين من عهد أحمدي نجاد. وأتاح وقوف المؤسسة الدينية والحرس الثوريّ إلى جانب المرشِد لخامنئي تحييدَ قوة أنصار الرئيس، الذين دعاهُم خصوم أحمدي نجاد “التيار المنحرِف”، وتوطيد مكانته أكثر.
خامنئي، الغرب، والنووي: بين العدوانيّة والبراغماتية
تظهر صلاحيات المرشِد الواسعة خصوصًا في الشُّؤون الخارجية. ففي مقاربته للغرب، ولا سيمّا الولايات المتحدة، يحافظ خامنئي على الخطّ المضادّ لأمريكا الذي وضعه الخُميني. وتبرز عدوانيته الأساسية وشكُّه العميق بالولايات المتحدة حتّى في ذروة المفاوضات النووية بين إيران وممثّلي الولايات المتّحدة.
في الشأن النووي أيضًا، تبنّى خامنئي في السنوات الأخيرة موقفًا هجوميًّا. فالمسألة النووية تُشكّل، في نظره، ذريعة يستخدمها الغرب لإضعاف إيران وعزلِها. وهو يعتقد أنه حتى لو وافقت إيران على تفكيك برنامجها النوويّ، فلن يتنازل الغرب عن صراعه ضدّها. ويرى خامنئي أيضًا في البرنامج النووي بوليصة تأمين هدفها إحباط المؤامَرات الغربيّة. فقد فهم جيّدًا الدرس من تعامُل الولايات المتحدة مع كوريا الشمالية، دولة ذات إمكانيات نووية عسكرية، مقابل تعامُلها مع العراق، الذي لم يمتلك إمكانيات كهذه، لذا يرى لزامًا على إيران أن تحافظ على ثرواتها النووية لوضعٍ قد تحتاجها فيه مُستقبَلًا.
في السنوات الماضية، ادّعى متحدّثون إيرانيّون أنّ خامنئي أصدر فتوى تحظُر تطوير، إنتاج، واستخدام سلاح دمار شامل، بما فيه السلاح النووي، لأنّه حرامٌ في الإسلام. لم تُنشَر هذه الفتوى مُطلَقًا، رغم أنّ خامنئي تطرّق في عدد من المناسبات للحظر الفقهيّ للسّلاح النوويّ. مع ذلك، تمنح الجمهورية الإسلامية في الكثير من الأحيان حاجات الدولة أولوية على الاعتبارات الفقهيّة. فقد قرّر الخميني نفسُه، في أواخر فترته كمُرشِد، أنّ الدولة مخوّلة أن تهدم مسجدًا أو تجمّد تنفيذ الوصايا الأساسية في الإسلام إن تطلّبت مصلحة الدولة ذلك. بناءً على ذلك، حتّى لو كانت ثمّة فتوى تحظر تطوير سلاحٍ نوويّ واستخدامه، يمكن أن يجري إلغاؤها مستقبلًا في حال تطلبت مصلحة الدولة ذلك.
رغم عدائه الجوهريّ للولايات المتحدة ونظرته المبدئية المناهضة لتسويات هامّة في الشأن النووي، يوفّر خامنئي دعمًا للرئيس روحاني في عملياته السياسية. حتى إنه صرّح في مؤتمر لقادة الحرس الثوري في أيلول أنّه لا يمانع تسويات تكتيكية في إطار أسلوب دعاه “مرونة بطوليّة”. يبدو أنّ تفاقُم الأزمة الاقتصاديّة نتيجةً للعقوبات الدولية وآثارها على استقرار النظام جعلت خامنئي يعي أنّ إيران تقف في مواجهة لحظة حاسمة، وأنّ قراراتٍ مؤلمة قد يُضطرّ إلى اتّخاذها. حتّى إن وافق خامنئي على اتّفاق نوويّ مع الغرب، يُتوقَّع أن يُصرّ على أن يتضمّن أيُّ اتّفاق رفعَ العقوبات وأن يُتيح لإيران أن تبقى على مسافة وثبة صغيرة قدر الإمكان نحو إمكانيات نووية عسكرية.