لقد أخذت الموجة الاحتجاجية التي بدأت ضد تدمير “المتنزه الجماهيري غازي” في إسطنبول تتسارع بسبب رد الفعل العنيف من قبل الشرطة في مختلفة أنحاء تركيا وكذلك بسبب الغضب المتراكم تجاه الأسلوب العنيف الذي تنتهجه الحكومة عامة وتجاه الأسلمة الزاحفة للحيّز الجماهيري (كُتب في رسم جداري هادف بجوار حي تقسيم: “لقد منعتم بيع الكحول باستفاق الناس من غيبوبتهم!”). في الوقت الذي ركزت فيه وسائل الإعلام الإسرائيلية على صفقة التعويضات لعائلات متضرري أسطول المرمرة، بدأ الأتراك احتجاجًا اجتماعيًا خاصًا بهم بهدف تغيير سياسة الحكومة، وإن أمكن، تغيير أولئك الذين يترأسونها.

تركيا، الدولة الديموقراطية المسلمة، ذات المظهر الأوروبي الذي يكاد ينعكس من شوارع إسطنبول، بعيدة كل البعد عن أن تُدار وفق معايير الاتحاد الأوروبي الذي تحاول الانضمام إليه. منذ بضع سنوات تتصدر المرتبة الثانية في قائمة الدول الأولى في اعتقال الصحافيين. فحسب منظمة التعاون الإقليمية في أوروبا، الـ OSCE، فإن سبعة وستين صحافيًا تركيًا يقبعون في السجون، وهو أكبر عدد بين الدول السبع والخمسين الأعضاء في المنظمة. وقد وصل عدد الصحافيين المعتقلين في العام المنصرم إلى أربعة وتسعين، وهو عدد فاق عدد الصحافيين الذي تم التبليغ عن اعتقالهم في الدولتين المنافستين لها، إيران والصين.

د. نير بومس
د. نير بومس

وقد وجدت منظمة الـ OSCE أن تركيا تقوم بتفعيل الرقابة الأكثر تطورا بين أعضاء المنظمة. ما زال في الدولة مواضيع يُمنع التحدث عنها وعدد غير قليل من مواقع الإنترنت التي يُحظر الدخول إليها. وقد أدخل القانون رقم 5651 الذي تم سنه عام 2007 بهدف “إدارة منشورات الإنترنت واستغلال الإنترنت لأهداف الإجرام” ستة عشر ألف موقع آخر إلى القائمة السوداء الطويلة لمواقع الإنترنت المحظورة في تركيا. وقد تم حظر مشاهدة الموقع الشهير Youtube وعدد من تطبيقات غوغل قد تم حظرها في العام 2008 بأمر من محكمة محلية. بعد ثلاث سنوات، ذهبت وزارة الاتصال والتكنولوجيا إلى أبعد من ذلك حيث أقرت قائمة من 138 كلمة يُمنع استخدامها في الإنترنت. على هذه الخلفية، فرض صحافيون كثيرون على أنفسهم رقابة ذاتية، وحين كانوا يخرقونها كانت تتم معاقبتهم. في شهر نيسان الأخير، على سبيل المثال، رفضت الصحيفة اليومية الهامة “ميلييت” نشر مقال كتبه الخبير في الشؤون العامة حسن جمال لمدة أسبوعين، بعد أن أثار جمال حفيظة أردوغان في أعقاب مقالة نشرها حول العلاقة المنحرفة بين المال، السلطة والصحيفة.‬‬‬

متظاهر تركي في متنزه غازي (AFP)
متظاهر تركي في متنزه غازي (AFP)

لا غرابة إذن في أن شبكة التلفاز الرسمية وإلى جانبها شبكات الكوابل التركية قد “اختارت” عدم التبليغ عن المظاهرات وفضلت، على الرغم من غضب المتظاهرين، بث برامج ترفيهية، برامج طهي وأفلام عن البطاريق (التي تحولت في هذه الأثناء إلى رمز للاحتجاج). حاولت الحكومة معالجة شبكة الفيس بوك وتويتر أيضا بهدف منعهما من التحول إلى أدوات مركزية في نشر الاحتجاج كما حدث في ميدان التحرير.

يواجه الأتراك الرقابة على “احتجاج الاحتفالات” بروح الفكاهة. حين اتهم أردوغان المتظاهرين بالنهب (“تشابول” بالتركية) قام المحتجون بإنتاج الفيلم القصير تشابولينغ كل اليوم حيث يبدو فيه المتظاهرون يرقصون Everyday I’m Hustlin (على وزن الأغنية الشهيرة) . وقد اختار علي إحسان ورول، نجم البرنامج الترفيهي “كاليما أوينو” (لعبة الكلمات) الذي يُطلب فيه من المشاركين معرفة كلمات للفوز بجوائز، أسئلة وكلمات مثل متنزه، غازي، أقنعة غاز ومظاهرة. وكان السؤالان الأخيران: كلمة التخلي عن وظيفة ليس بالإكراه (استقل، أحد شعارات المظاهرة) وكلمة تعبر عن أسف على عمل غير لائق تم ارتكابه (اعتذار، وهو أيضا أحد مطالب المتظاهرين).

زينب غمبيطي، وهي حاملة لقب بروفيسور في مساق العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة باوزيتشي في إسطنبول، قررت هي أيضا الانضمام إلى الاحتجاج في رسالة إلكترونية أرسلتها إلى طلابها، وقد سألت عن صحتهم (وقد وجهت كلامها بشكل خاص لأولئك الذين شاركوا في المظاهرات) وأبلغتهم ألا يقلقوا بشأن إكمال الدروس أو الامتحان النهائي في الدورة. لقد وعدتهم، عوضا عن ذلك، بإرسال ثلاثة أسئلة متعلقة بالوضع الراهن في تركيا، وطلبت إجابة مختصرة عن كل واحد منها ووعدت بإعطاء علامة 100 لكل من يرسل الإجابة. “مستقبل البلاد أهم بكثير من الامتحانات النهائية والعلامات – وأنتم هذا المستقبل!” كتبت ذلك وأرسلت الطلاب ليتظاهروا.

إحتجاجات المتنزه الجماهيري غازي في تركيا (ويكيبيديا)
إحتجاجات المتنزه الجماهيري غازي في تركيا (ويكيبيديا)

“الصيف التركي” الذي ما زال يبدو بعيدًا عن الانتهاء، ليس نسخة عن موجة الاحتجاجات التي غمرت الشرق الأوسط وتغلغلت بعد ذلك في أوروبا. تركيا لا تعاني من الجوع. ففي العقد الذي حكم فيه حزب العدل والتطوير التابع لأردوغان، نما اقتصادها بوتيرة سنوية بلغت 5%. وقد زاد الناتج القومي الخام للفرد بثلاثة أضعاف وكذلك ازدهرت السياحة، وقد أمّ تركيا 36 مليون سائح في العام 2013. كما أن الجيش الذي يحافظ على العلمانية في تركيا، لا يبدي موقفًا حتى الآن، ولكن يبدو أن قادة الجيش يرون المظاهرات بعين الرضا. من الصعب أيضا تسمية المظاهرات التي جرت حتى الآن باسم “شعبية” لأن معظم المحتجين هم شباب علمانيون يناضلون من أجل ما يعتبرونه نهب الدولة (وقد انضم إليهم هذا الأسبوع بعض التنظيمات المهنية وأحزاب المعارضة). بكلمات أخرى، أردوغان ما زال يتمتع بقاعدة دعم واسعة في مختلف أرجاء الدولة.

ولكن على الرغم من هذه التحفظات، إلا أن هناك مكان للمقارنة بين “الصيف التركي” والفصول التي سبقته في الشرق الأوسط.

لقد مل الشباب العلمانيون، جيل الإنترنت، من الرقابة، من كم الأفواه ومن الربط بين الدين والدولة، وهم هؤلاء الذين قادوا الاحتجاجات في تونس، في مصر وفي تركيا. يمكن أن نضيف إليهم موجة الاحتجاجات في إيران في العام 2009. وكما في تركيا، فقد احتج المتظاهرون في تونس على “خطف الدولة” قبل أن تم خطف احتجاجهم ذاته من قبل الإسلاميين الذين انتهجوا “سياسة جديدة”. ما زال من المبكر فهم المعنى الحقيقي لموجة الاحتجاجات التركية ولكن يبدو أنها تنضم هي أيضا إلى الحوار الجديد في المنطقة، الذي يركز على الصراع بين الماضي والمستقبل وبين الدين والدولة، وهذا حوار يصرّ على المشاركة فيه الشباب، جيل الغد في الشرق الأوسط. على الرغم من أن الأصوات الليبرالية والعلمانية هي أقلية حتى الآن وقد تم تهميشها، إلا أنه يجدر بنا أن ننتبه إليها وإلى الخبر السار الذي يحاولون تحقيقه. هم أيضا لديهم مفتاح “الشرق الأوسط الجديد”.

هذا التحليل المثير هو لأحد الكتاب الأكاديميين العاملين في موقع “Can Think”، والمختص في شؤون الشرق الأوسط. ونضيف أن الموقع “Can Think” هو مشروع مستقل، لا يمت بصلة إلى أي جهة سياسية أو اقتصادية، ويعمل بموجب نموذج اشتراكي. الكُتاب والعاملون في الصحيفة هم أكاديميون، يقدمون تحليلات موضوعية من منظور بحثي.

د. نير بومس هو عضو أبحاث في “مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا” ومؤسس منظمة ‪CyberDissidents.org. ‬‬‬‬‬

اقرأوا المزيد: 950 كلمة
عرض أقل