كانت تلك إحدى أجمل الحفلات التي شاهدتها في حياتي. سافرت مع عدد من الأصدقاء إلى حفلة المطربة اللبنانية الأسطورية فيروز في عمان بالأردن، ونسينا أنفسنا من شدة التأثر. كان ذلك في نهاية كانون الثاني عام 1999، عندما كان الملك حسين مريضا جدّا. ورغم الاحتفاظ بكرسي له في القاعة، كان الجميع يعلم أنّه لن يأتي.
افتُتح الحفل بالنشيدين الوطنيين، الأردني المضيف واللبناني للضيفة، كان ذلك غريبا على مسمعي، ولكنني علمت أنّني لحفل من هذا النوع جئت. علاوة على ذلك، فإنّ أغنيات فيروز وأداءها، مع ردود الفعل القوية من قبل جمهور المعجبين، والرقصات العفوية والحوار الذي ليس بالكلمات بين المطربة وجمهورها؛ كل ذلك تجاوز أي نشيد وطني وأنسى تماما الافتتاحية الرسمية للحفل. استمتعنا كثيرا، حيث قمنا في مساء اليوم التالي بشراء بطاقات للحفلة الثانية. كنّا محظوظين. كانت تلك ناجحة ومؤثرة أكثر من سابقتها.
وقد قضينا في شراكة بقية العرب في العاصمة الأردنية الذين قدمنا معهم في زيارة منظمة من يافا. جاء هؤلاء من مدن وقرى مختلفة في أنحاء إسرائيل/ فلسطين، بينما فوجئ بعضهم من وجود يهود يسافرون إلى حفلة فيروز، بدا الأمر للآخرين واضحا وفقط اختلط عليهم مظهري الأشكنازي.
أذكر أن إحدى الصحف الشهيرة أرسلت مراسلا للحفل وأساءت إليه. لحسن الحظ، فالمجتمع الإسرائيلي اليوم منفتح أكثر بقليل من الماضي على الموسيقى العربيّة. على سبيل المثال، فاز عرض لينا مخول في الموسم الثاني من برنامج الواقع “The Voice”، مع أغنية بالعربية لفيروز ألهبت ليس الحكّام فحسب بل أيضًا معظم الجمهور. صحيح أن هذه معالجة قام بها الملحن زياد الرحباني، نجل فيروز، لأغنية إيف مونتان “Les Feuilles Mortes” وبدا أنّ النغمة كانت سهلة على الأذن الإسرائيلية. ولكن يمكننا أن نرى تجديدا في واقع حضور اللغة العربية في برنامج شعبي يتوجه إلى الجمهور العريض.
ستقدّم مخول في نهاية الأسبوع القادم (5 كانون الأول) في قاعة سانت جوزيف في الناصرة حفلة تكريم لأغنيات فيروز التي احتفلت مؤخرا بعيد ميلادها الثمانين ومن بينها أغنيات كتبها زياد الرحباني.
https://www.youtube.com/watch?v=LkGn0PmNDoc
عملت فيروز منذ بداية احترافها في سنوات الخمسينيات مع الإخوة عاصي ومنصور الرحباني، كما وتزوّجت من الأول أيضًا. عُرف الإخوان رحباني، اللذان كانا ملحّنين، موسيقيين، كاتبي أغان ومسرحيات، في العالم العربي بفضل إبداعهما، وأسلوبهما الموسيقي المميز، وتأثيرات الأنماط الموسيقية المختلفة التي دمجاها مع إبداعهما في الموسيقيّ المحلية، وخصوصا بفضل الأغنيات التي ألّفاها ولحّناها للعروض المسرحية. في بداية سنوات السبعينيات اشتهرا في العالم الغربي أيضًا، وخرج الثلاثة إلى رحلة حفلات في الولايات المتحدة ودول أخرى في أوروبا. كانت أغنيتهم الأكثر شهرة هي “حبيتك بالصيف”، والتي تم تحويلها تحت اسم “Coupabl” (مذنب) لجان فرانسوا ميشيل. أدى أداء الأغنية الفرنسي إلى اشتهار الأغنية في جميع أنحاء العالم. ولا يعلم الكثيرون اليوم أنّها في الأصل أغنية لفيروز والأخوين رحباني.
وقد أصبح زياد الرحباني أيضًا، وهو نجل فيروز وعاصي، موسيقيّا مبدعا، ومؤلفا للمسرحيات الساخرة، وملحّنا موهوبا غزير الإنتاج، ومغنيا وممثّلا. في سنّ السابعة عشرة، عندما كان والده يُعالج في المستشفى واضطرت والدته للغناء دونه، لحّن لها أغنية “سألوني الناس”، التي أصبحت إحدى أشهر أغنيات فيروز. وتمّ مؤخرا تسجيل الأغنية بنسخة عبرية أيضًا، “سألوني”، لفرقة “توركيز”. وقد أثارت الفرقة، التي تقيم الحفلات في هذه الأيام مع أغنيات فيروز، بعضها مترجمة للعبرية وبعضها بالعربية، ضجة خفيفة في العالم العربي. من جهة، كان من اعتبر ذلك بادرة جميلة للمغنية وخطوة مهمة للتقريب بين الشعوب. ولكن إذا أردنا أن نحكم وفقا للتعليقات في الشبكات الاجتماعية، فإنّها في معظمها تعليقات غاضبة تنظر إلى هذا العمل كـ “سرقة ثقافية”، تهين المغنية ومبدعي الأغاني. “لا يبدو لي”، كتب أحد المعلّقين، “أنّ فيروز ستكون فخورة إذا علمت أنّه يتم أداء أغنياتها بالعبرية في إسرائيل”. وتطرّقت تعليقات أخرى أكثر شدّة إلى أنّه بعد أنّ سرق الإسرائيليون أراضي الفلسطينيين وبعد أن سرقوا الأطعمة المحلية، يسرقون الآن التراث الثقافي والموسيقي العربي.
https://www.youtube.com/watch?v=Ntdox12Dl0M
ويبدو أنّ الأمر لا يشغل فيروز ونجلها زياد الذي يلحّن معظم أغنياتها في العقود الأخيرة. ويفكر زياد، الذي اشتهر في العالم العربي بفضل ألحانه الجميلة وبفضل المحتوى الساخر والشائك في أغنياتها ومسرحياته، في مغادرة لبنان لصالح روسيا. قال في مقابلة معه إنّه لن يهاجر وإنما سينتقل فقط للعمل في التلفزيون الروسي، ولكن من الواضح أنه مصاب بخيبة أمل من حياته في لبنان. هناك من يدعي أنّ السياسة تصعّب حياته هناك، سواء بسبب آرائه الشيوعية، أو بسبب تأييد فيروز لحسن نصر الله والنظام السوري، أو بسبب صراع نشأ بينه وبين رئيس تحرير صحيفة “الأخبار” التي يكتب عمودا فيها. وهناك من يدعي أنّه يائس من التجاهل الإعلامي لعروضه الأخيرة. وهناك من يشير إلى أنّه منذ اكتشافه أنّ ابنه، عاصي، ليس ابنه البيولوجي، لم يعد إلى حالته العادية. وأيا كان السبب، فهو يبدو متعبا، مكسورًا ومصابا بخيبة أمل.
نُشرت المقالة للمرة الأولى في موقع صحيفة “هآرتس”