بين الفينة والأخرى، يظهر في حياتنا مطربون يصنعون موسيقى مؤثّرة تشكل بداية طريقهم. موسيقى تثير أوتار القلب وتخترق أعماق الروح. من مرّة لأخرى، يطفو على السطح موسيقيّون شجعان، من أولئك الذين لا يخشون من حدود الإجماع ويقدّمون أغانٍ خارقة، مزج اللغات والإنتاج الذي يمنح آلات العزف المختلفة فرصة ليعرف بعضها البعض الآخر. ومن مرّة لأخرى – كم هو مفرح – تنفجر في حياتنا الموسيقية التي تمتلك كلّ شيء!
لونا أبو نصار، التي وُلدت قبل 24 عامًا في الناصرة وتعيش اليوم وتبدع في يافا، هي شخصية غير عادية في المشهد الموسيقي الإسرائيلي. تلقّت تعليمها في أحضان الثقافة والموسيقى العربية، ولكن حين كبرتْ لم تخشَ من الخروج إلى العالم الكبير وذهبت للدراسة في تل أبيب، في مدرسة للموسيقى (Muzik). تكتب في العبرية والعربية، تلحّن وتتقن مجموعة متنوّعة من آلات العزف وتغنّي في كلتا اللغتين بلكنة كاملة. اختارت لونا دمج الثقافات في حياتها وإبداعها، وهناك شكّ إنْ كنتم قادرين على ربطها بنمط معين.
استمعوا لأداء لونا لأغنية “يستمر في السفر”(ممشيخ لنسواع) لإيهود بناي، من كبار مطربي إسرائيل:
بدأت الشائعات حولها بالتراكم بخصوص صدور نسخة الغلاف هذه، لواحدة من الأغاني التي تميّز إيهود بناي. الكلمات هي نفس الكلمات، اللحن لم يتغيّر بشكل كبير، ولكن المعالجة والتفسير الشخصي للونا نجحا في سحب قوى جديدة منه. بشكل شخصيّ، فهذه إحدى أكثر الأغاني التي أحبّها على الإطلاق، بالأداء الأصلي. ولكن حين تخرج من حنجرتها العبارات “القلب الذي تجمّد ذاب، لن يترك المدينة، مستمرّ في السفر” وقوس قزح يرفرف في أوتار الكمان، أشعر بأفكار هرطقة وآمل ألا يقرأ إيهود بناي هذا النصّ ويسمع أنّني انتقلت إلى معسكر لونا.
أبو نصار تغنّي عن “مشوار” وتعود لرحلة في لفائف الزمن الماضي، من المشروع النهائي لها في Muzik:
وقبيل انتهاء دراستها، أصدرت في الصيف الأخير مشروعها النهائي “أحكيلك” . افتتح هذا “الألبوم” بشكل فعّال ويتضمّن خمس أغان بالعبرية (مع لمسات خفيفة من العربية) وثلاث أغان غنّتْها بلغتها الأصلية. إحدى تلك الأغاني هي “مشوار”، ويكشف الاستماع عن تجربة شخصية عميقة، والتي توحي بماضي المدينة الكبيرة، تل أبيب – يافا، والأمور التي تركتها خلفها إلى جانب تلك التي أخذتها معها في رحلتها. ومثل سائر أغاني المشروع، تؤمن لونا بأنّ تقديمها الناعم يُحدث الفرق. لم ينعم الله عليها بصوت مدوٍ وتناغم مثلما لدى المغنّيات الأخريات، ولكن الشعور الذي يصاحب أغانيها هو شعور ساحر. يُدعى المستمع للقيام بجولة في أعماق روحها، دون أن تحوّل نفسها لشخصية مأساوية ومعقّدة للغاية. إنسان، مثلنا جميعًا.
الأغنية الشهيرة الأولى – وبالتأكيد ليست الأخيرة – للونا: “أحكيلك”:
وهذه هي الأغنية الرئيسية للمشروع النهائي. من الناحية الزمنية، فهي واحدة من إبداعات لونا الأولى. أغنية تلمس القلب، تحكي فيها أمّ لابنتها عن مهاجمين منحرفين وضعوا لها السمّ في المشروب، وأنزلوها من قمّة العالم إلى عذاب جهنّم. وسوى حبّها وكلمات التحذير، فإنّ الأم لا تستطيع المساعدة، وهي تترك ابنتها في الواقع مع نفس المشاعر من فقدان الثقة والخوف، التي رافقتها. “يا قمري، أغمضي عينيكِ. لا تقلقي، سأعطيك كلّ شيء. ولكن ليس لديّ، ليس لديّ”. يبقى المستمع قلقًا ومرتبكًا. هل هذه قصة شخصية؟ هل هي قصة حقيقية؟ والمزج بين العربية والعبرية يجعل مهمّة التشخيص مستحيلة فحسب. وفي النهاية، بقي لديّ الحزن فقط.
تعاون ناجح بشكل خاصّ في إطار “System Ali” أنتج أغنية “Vayina” (“الحرب” بالروسيّة):
نعم، كان هناك مطربين دمجوا في موسيقاهم العبرية والعربية، ولكنّ ذلك تمّ دائمًا بالحدّ الأدنى، “على الطريق”، أو بالاستناد على مواد معيّنة وبمثابة تقدير لأغنية محبوبة أو لمطرب كبير (مثلا: أم كلثوم أو فريد الأطرش). مغنّية نشأت داخل ثقافة مختلطة، تعلّمت في الناصرة، عاشت في يافا وتدرس في تل أبيب؛ هذا ما لم يكن لدينا من قبل. بصوت لطيف ولكن عميق، ألحان ساحرة وإحساس بالإيقاع يمكّنها من تخطّي الصديقات في فرقة “هيب-هوب” مع أغان احتجاجية ناعمة، يبدو أنّ لونا تملك “الحزمة الكاملة”.
رغم ذلك، يبدو أنّ لونا ليست مسرعة إلى أيّ مكان. وعلى وجه التحديد في ضوء وفرة المتصدّرين في البرامج الواقعية (الريالتي) مثل “The Voice” و”X-Factor”، التي تتلألأ صورتها من مسافات بعيدة. إنّها تعمل بدقّة على المواد التي تصدرها، تنوّع نشاطها مع مشاريع أخرى وتعاونية، تسير ببطء إلى داخل آذان المستمعين الإسرائيليين، اليهود والعرب على حدٍّ سواء، وبالطبع: تشقّ طريقها لأولئك الذين سيأتون بعدها. بكلمات أخرى: خطوة صغيرة لمغنّية وخطوة ضخمة للموسيقى الإسرائيلية.
ونختم مع الأغنية “بمشي لقدّام”، والتي تكشف عن التوتّر المستمرّ بين الخوف والأمل؛ يبدو أنّ لونا قد أحسنت الاختيار…