“انتهت الهجمة على مدينتنا وعادت الحياة إلى طبيعتها”، كما أنهى حاكم كركوك، الكردي نجم الدين كريم، البيان الموجز الذي قدّمه للصحفيين أول البارحة مساء. ولكن الأمر لم ينتهِ في الحقيقة، لا في مدينة كركوك ولا في سائر جبهات قتال القوات العراقية والكردية ضدّ داعش. فقد أصبحت كركوك رغما عنها الهدف الأول الذي نشطت فيه داعش كما توقّع الكثيرون: نقل جبهة القتال إلى الجبهة المدنية.
بدءًا من ساعات الصباح الباكرة، منذ يوم الجمعة الأخير، سيطرت عدة خلايا نائمة لداعش على مباني حكومية، مساكن ومساجد في كركوك وشنّت قتال شوارع ضدّ قوات البشمركة الكردية التي تحرس المدينة. سيطرت قوات داعش المتحصّنة في مساجد المدينة على مكبّرات الصوت وبثّت من المآذن نداءات لسكان المدينة للانضمام إليها ومبايعة التنظيم. في يوم الثلاثاء بعد الظهر، نُشرت أنباء حول سيطرة عناصر داعش أيضًا على بلدة الرطبة في محافظة الأنبار القريبة من الحدود العراقية الأردنية. ويبدو هذا الحدث، الذي ما زال في ذروته، كما لو كان المرحلة الثانية من تحويل جبهة القتال إلى الجبهة العراقية من خلال خلايا داعش النائمة.
إنّ المسّ بكركوك هو مسّ بـ “جوهرة التاج” بالنسبة للأكراد في العراق. تعتبر هذه المدينة، التي تسمى في أحيان كثيرة “قدس الأكراد”، بالنسبة للأكراد عاصمة الإقليم الكردي في العراق. في حزيران 2014، بعد يوم من سيطرة داعش على مدينة الموصل وعلى خلفية انسحاب الجيش العراقي من المنطقة كلها، سيطرت قوات البشمركة على كركوك قبل ساعات من وصول عناصر داعش إليها. منذ ذلك الحين، تخضع المدينة وآبار نفطها الغنية، للسيادة الكردية بحكم الأمر الواقع، ممّا أثار استياء السلطات في بغداد.
في البيان الموجز للصحفيين أول البارحة قال حاكم كركوك إنّ معظم الإرهابيين الذين تسلّلوا إلى المدينة في يومي الجمعة والسبت قد قُتلوا في المعارك ضدّ القوى الأمنية وإنّ معظم مناطق كركوك قد أصبحت تسيطر عليها القوى الأمنية مجددا. بحسب كلامه، فإنّ عناصر داعش قد فشلوا في جهودهم لصرف الانتباه عن فشلهم في جبهة القتال بالموصل، رغم أنهم يملكون خلايا نائمة أخرى في المدينة وسيفعّلونها في المستقبَل. وبعد وقت قصير من ذلك تجددت المعارك في المدينة، وكان عدد الجرحى كبيرا على الأقل كعدد الجرحى في اليوم الأول من القتال. قُتل نحو مائة كردي، معظمهم من عناصر البشمركة والشرطة، وداهم نحو 75 من بين 100 مسلّح من داعش المدينة وفقا للتقديرات.
كانت الأحداث في كركوك “إخفاق يوم الغفران” بالنسبة للبشمركة. كان ضرب المكان الذي أقسموا على حمايته أكثر من أي مكان خطيرا ليس فقط من حيث الخسائر البشرية، ولكن أيضا من الناحية الأخلاقية. في الأيام الأولى من المعارك انسحبت قوات البشمركة من عدة أحياء من المدينة (وهي تقارير تذكرنا بأحداث سنجار في آب 2014)، وقد عمل على إنقاذهم من الحصار في حينها مقاتلون ومقاتلات من حزب العمّال الكردستانيّ (PKK) من كردستان التركية، التنظيم الذي صرّح مسؤولو الإقليم الكردي مرارا وتكرارا أنّه الخطر الأكبر على الأمن القومي للأكراد في العراق.
إنّ استدعاء قوات حزب العمّال الكردستانيّ إلى كركوك يمثّل إهانة ذاتية كبرى للسلطات الكردية في العراق، ومن الواضح أنّها لم تتخذ خطوة كهذه لولا أنّ قوات البشمركة كانت في مأزق في كركوك. ينسى حاكم المدينة والرئيس مسعود برزاني، اللذان أثنا على بطولة (بطولة حقيقة) قوات البشمركة والشرطة في المدينة، الإشارة إلى المقاتلين الذين هرعوا لمساعدتهم من كردستان التركية. إنّ تجربة الماضي القريب تعلّمنا أنّ قادة البشمركة المسؤولين عن هذا الإخفاق لن يتعرّضوا للمحاكمة على فشلهم، ولكن من المحتمل أن يتم الحديث كثيرا في الإقليم الكردي وفي العراق عن الإخفاق الكردي في كركوك.
الأحداث في كركوك ذات أهمية أيضا من جهة داعش. فكلّما تقلّصت الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم، وموارده الاقتصادية والبشرية، يبتعد عن فكرة “الدولة الإسلامية” عودة إلى صورته الأصلية – تنظيم إرهابي، رغم أنه فعّال ومنظّم، ولكنه يفتقد إلى القوة، الزخم و”السحر” التي حظي بها بفضل غزواته للأراضي وإقامة الخلافة الإسلامية.
نُشر هذا المقال للمرة الأولى في منتدى التفكير الإقليمي (موقع باحثين إسرائيليين)