افتُتح مقهى جديد في حي يهودا مارغوزا في يافا، وهذا حدث احتفالي، لا سيما بالنسبة للزوج الشاب الذي وصل مؤخرا إلى يافا من فرنسا الباردة، باريس، التي تدور فيها حرب حضارية عنيفة بين الإسلام الشرق أوسطي وبين العلمانية الأوروبية الواضحة أو المسيحية الصليبية، حسب مَن يُطرح عليه السؤال. ينتظر الزوج الفرنسي الشاب الذي اشترى شقة قبل نحو سنة، بمبلغ 3 ملايين شاقل (نحو 787 ألف دولار) بفارغ الصبر اللحظة التي تفوح فيها روائح الخبيز في المقهى الجديد، لتملأ الفراغ في المكان المهجور، وتلبي شهواتهم.
“أنتَ من يافا! يا لها من متعة عند رؤية سكان محليين ينتقلون للعيش هنا في المنطقة الجميلة من المدينة”، هكذا استقبلتني السيدة “ج”. (الاسم الكامل محفوظ في هيئة تحرير الموقع) وهي جارتي الفرنسية. احترتُ عندما سمعتُ أقوالها فيما إذا كان علي أن أنظر إليها كإهانة أو مديح. بصفتي وُلدت في يافا، الجيل السابع، لعائلة تعمل في الزراعة، كانت هذه الأقوال بمثابة بداية بحث داخلي. أي أنها محاولة لفهم ما الذي حدث في العقود الثلاثة الأخيرة؟ إن التغييرات الكثيرة التي طرأت على المدينة وأدت إلى عمليات استطباق مُسرّعة – عملية يدخل فيها سكان أغنياء إلى حي فقير، ويؤدون إلى تغيير طابع الحي وتهميش السكان الفقراء.
مبانٍ جديدة على إحدى التلال القريبة من ميناء يافا (Noam Moskowitz)
الجانب الإيجابي في عمليات الاستطباق بارز: تحظى بنايات مُهملة بتجديدات، تُفتح مصالح تجارية جديدة، تستثمر بلدية تل أبيب يافا في البنى التحتية والنظافة، تزداد الرقابة، يتحسن الشعور بالأمن….وترتفع الأسعار أيضا، يهتم المستثمرون، يبنون، ويرممون…ويصل المزيد من السكان الجدد…ولكن الجانب السلبي في الاستطباق أقل بروزا ويمكن تلخيصه في مفهوم أكثر اتساعا: تهميش لا يمكن تجنبه للسكان المحليين، اليهود أيضا، ولكن تحديدا السكان العرب، الضعفاء، غير القادرين على دفع المبالغ الباهظة لشراء شقق في منطقة المباني الفاخرة.
تهويد مدينة يافا؟
السيد دانييل مونترسكو، بروفيسور في قسم علم الاجتماع والعلوم الإنسانية، ترعرع في يافا على خلفية تلة اندروميدا (Noam Moskowitz)
ترتعد أرضية المقاهي الجديدة في يافا وفي المصالح التجارية التي تُفتح تحت أقدام اليهود والعرب، سكان المدينة القدماء. ففي جنوب المدينة، في حي العجمي، تقام مشاريع في مجال العقارات الفاخرة، وجزء منها معد لليهود فقط. يحاول نشطاء، غالبًا من اليهود، قدموا إلى الحي من مركز تل أبيب، بلورة برنامج عمل أحيانا ضد المصالح الوطنية، الاقتصادية، والدينية التي تصمم المجال البلدي الجديد لمدينة يافا. لا يمكن تقريبا رؤية نشطاء عرب أو يافاويين محليين في مجموعات النشطاء هذه. الطبقة الوسطى من عرب يافا ليست قائمة، وهي مُرهقة وتقبل المصير بهدوء. ورغم ذلك، ورغم ضعف النشطاء فهم يحاولون المحاربة من خلال ما يعتقدون أنه جزء آخر من سلسلة النشاطات الطويلة لتهميش السكان العرب في المدينة.
“تتغير وجهة مدينة يافا بشكل كبير. فقبل عام 1948، عاش في المدينة نحو 100000 عربي فلسطينيي. ولكن بعد عام 1948، بقي فيها السكان المُستضعفون، بقية اللاجئين الفلسطينيين وتعدادهم 4000 نسمة في غيتو عجمي”، هذا وفق أقوال دانييل مونترسكو، البروفيسور في قسم علم الاجتماع والعلوم الإنسانية، الذي ترعرع في يافا. إنه يُعلّم غالبا في الجامعة الأوروبية المركزية في بودابست، ولكنه يعيش الآن في البلاد ضمن سنة استراحة من العمل. مونترسكو هو يهودي، ابن عائلة مهاجرين من بلغاريا، ترعرع في يافا. حتى إنه تعلم في مدرسة مسيحية خاصة في المدينة. تعرف فيها على السكان المحليين على أنواعهم: “عشتُ مع المسلمين، المسيحيين، وأبناء الدبلوماسيين، ومع أصدقاء لوالدين يهود ومسلمين.
لافتة في مدخل أندروميدا تشير إلى أن الدخول منوط بفحص أمني (Noam Moskowitz)
وهكذا أعتقد أنه بدأ البحث الخاص بي في مجال علم الاجتماع والعلوم الإنسانية في هذه المدينة”، يقول مونترسكو بينما كنا ندخل من بوابة بناء ضخم يقع على أراضي الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، “تلة اندروميدا”. (يعيش في يافا نحو 60000 ألف مواطن، ثلثاهم من اليهود والثلث من العرب).
رافق دخولنا إلى باحة المباني الضخمة قلق كبير. رأينا عند وصولنا إلى المنطقة بوابة مكتوبا عليها، “يُسمح بالدخول إلى المنطقة بعد إجراء فحص أمني”، وهو رمز لاذع لا يمكن أن يتجاهله من لا يسكن في المنطقة “نحذركم أننا لسنا معنيين بأن تدخلوا!”.
رسالة مزدوجة
-
-
مشروع السكن الفاخر “أندروميدا” (Noam Moskowitz)
-
-
مشروع السكن الفاخر “أندروميدا” (Noam Moskowitz)
-
-
مشروع السكن الفاخر “أندروميدا” (Noam Moskowitz)
-
-
مشروع السكن الفاخر “أندروميدا” (Noam Moskowitz)
-
-
مشروع السكن الفاخر “أندروميدا” (Noam Moskowitz)
-
-
مشروع السكن الفاخر “أندروميدا” (Noam Moskowitz)
في مستند الرأي الذي قُدِّم في عام 2013 إلى المحكمة الإسرائيلية، جاء فيه أن تهميش السكان القُدامى في إسرائيل هو تأثير سلبي مركزي للاستطباق. “هناك طريقتان مركزيتان للتهميش”، كتب الباحثون. “الأولى هي طريقة مباشرة ويُطلّب فيها من الجمهور القديم مغادرة مكان سكنه بأمر من السلطات أو سلطات القانون. هذا ما يحدث مثلا في الحالات التي تُخلى فيها المباني الخطيرة، في مشاريع هدم المباني وإعادة بنائها، وغيرها. الثانية وهي تهميش غير مباشر، يحدث عندما يضطر السكان الفقراء في المدينة إلى مغادرة منازلهم، لأنهم غير قادرين على دفع التكاليف الباهظة للسكن في المنطقة”.
“تحدث هذه العمليّة منذ وقت في يافا. إن السبب الذي أدى في الستينيات إلى وصول الفنانين اليهود إلى الأحياء الشمالية من يافا، والتي تدعى في أيامنا هذه، يافا القديمة، والوصول البطيء لليهود الأغنياء إلى الأحياء الجنوبية منذ الثمانينات، تحل محله الآن عملية في مجال الأملاك منظمة وساخرة. وقد حدث كل ذلك عندما قررت شركة “عميدار”، شركة حكومية كان من المفترض أن تجد حلولا سكنية للسكان المحليين تولت مسؤولية مئات الأملاك في يافا، أن تضعها تحت خدمة اتحادات في مجال العقارات، لبناء شقق للأغنياء تتضمن منظرا يطل على البحر. وقد بقيت مشكلة صغيرة فقط: تعيش مئات العائلات في هذه الأملاك. ولم تيأس شركة “عميدار” فبحثت وعرفت أن جزءا من الأملاك لم تكن الحقوق فيها منظمة أو متفقا عليها. فضمت بحماس كل أنواع عدم الوضوح القضائي هذه، وأصدرت مئات آلاف أوامر الإخلاء الشاملة للسكان المحليين”، يوضح مونترسكو بينما كنا نتجول في منطقة المباني الجديدة.
“أخرجوا جدتي من منزلها بادعاء أنه قد ينهار وأعطوها شقة أخرى، شقة انهارت بعد أن انتقلت للسكن فيها فورا”
السيد كمال اغبارية يقف على أنقاض البيت الذي أعطته السلطات لجدته بعد إبعادها من بيتها الأصلي (Noam Moskowitz)
في محاولة لفهم مشاعر السكان المحليين بشكل أفضل، رافقنا كمال اغبارية، ناشط اجتماعيّ في يافا منذ نحو 25 عاما. في السنوات الأخيرة، كان من كبار المسؤولين في لجنة سكان حي العجمي، ويشغل الآن منصب مستشار رئيس بلدية تل أبيب – يافا لشؤون العرب. وهو اليوم أيضا مدير مركز اجتماعي في حي يهودي في شمال مدينة تل أبيب، العربي الأول الذي اختيرَ لشغل هذا المنصب.
مبانٍ قديمة في حي فقير في يافا (Noam Moskowitz)
“لست قادرا على الإشارة إلى مشكلة كبيرة واحدة تعاني منها المدينة: ففيها الجرائم، مشاكل السكن، ووعود لا تتم تلبيتها، السكان المحليون متعبون، وهم مسؤولون عن مصيرهم أيضا”، يقول كمال بينما كنا في طريقنا إلى أفخر منطقة في يافا، في شارع هتسيدف، خط المباني الأول الذي يطل على البحر. “هل ترى هذا البيت، لقد عاشت جدتي فيه. هذا بيت في يافا مبني من التراب المحلي، من الكركار. في منتصف السبعينيات، وصل مسؤولون من سلطة أراضي إسرائيل، وطلبوا من جدتي مغادرة المنزل لأنه على وشك الانهيار. وأعطوها بدلا منه منزلا آخر في بداية الطريق. وفي أحد الأيام، خرجت جدتي لشراء الحاجيات من السوق، وعندما عادت وجدت أن “البيت الجديد”، الذي حصلت عليه، قد انهار. في المقابل، أصبح بيتها الأصلي مبنى عقاريا ضخما يمكنك أن تراه بنفسك”، يقول كمال.
المستوطنون في يافا
منازل فاخرة في شارع هتسيدف، أول خط مع البحر (Noam Moskowitz)
يمكن ملاحظة العمليّة الاقتصادية في يافا جيدا. فإلى جانب المشاريع الفاخرة الواقعة في حيّي العجمي والجبلية المجاورين للبحر – كما يسميهما مونترسكو “حيّين سكنيين مغلقَين” (Gated Comunities) – في السنوات الماضية، بدأ الشبان والطلاب الجامعيون يغمرون مناطق في شارع يهودا هياميت ويهودا مارغوزا، وسوق الرابش. إنهم أكثر ليبرالية ولديهم وعي سياسيًّ، ويتمتعون بتناول حلوى الكنافة صباحا وبصوت المؤذن في الليل. فهم يعتقدون أن تل أبيب متجانسة ومملة. “لقد انتقلت للعيش في يافا من أجل العيش معا” تقول لي “د” وهي طالبة جامعية في كلية أقيمت مؤخرا في المدينة: “لا تجذبني تل أبيب، فهي ليست حقيقية. أما في يافا فأشعر وكأنني في بيتي”.
مستوطنون يتظاهرون في شارع يفيت الرئيسي في مدينة يافا
https://www.youtube.com/watch?v=Sy-_2StCZWk
يصل المستثمِرون في أعقاب الشبّان. فإذا كانت شقة في يافا في الماضي ملجأ اقتصاديا للهروب من جنون غلاء أسعار العقارات في تل أبيب، فإن أسعار أجر الشقق آخذة بالازدياد، وهذا يؤدي إلى رحيل الشبان وقدوم المستأجرين الأغنياء أكثر.
“علينا أن ندرك أنه ينضم إلى العملية في مجال الاقتصاد والعقارات في يافا الجانب الوطني أيضا. إن الصراع في المجال البلدي في المدن المختلطة (المدن التي يعيش فيها عرب ويهود ، مثل مدينة يافا، حيفا أو الرملة) في البلاد يتضمن لاعبين أيديولوجيين، لا يتصدر الدافع الاقتصادي سلم أولوياتهم. تعمل في يافا في السنوات التسع الأخيرة نواة دينية مناوبة، تهدف إلى إقامة “مجتمع قيمي”، يعمل في الحي لدفع القيم الصهيونية الدينية قدما وإقامة مؤسسات تربويّة لليهود فقط. فهم يدعون في أحيان كثيرة أنهم معنيون بعيش حياة مشتركة ولكن في الحقيقة يمكن أن نراهم يخرجون من منازلهم بمجموعات وهم يحملون سلاحا، كأنهم يتجولون في الخليل. ينظر السكان العرب إلى هذه النواة وعملها كمحاولة مؤسسية لتهويد حيّي المدينة عجمي والجبلية. من الصعب اتهامهم. مع دعم اقتصادي متين من قبل المتبرعين الأغنياء من البلاد وخارجها، ودعم شعبة الاستيطان، وعلاقات واسعة في حزب البيت اليهودي، يلعب “المستوطنون في يافا” بالنار فوق برميل من المتفجرات، وفي هذه المرة دون أن يتصدى لهم أحد”، يوضح كمال.
حي فقير في وسط يافا، حي العجمي. لا يستطيع سكان المدينة الشبّان العرب أن يشتروا شققا (Noam Moskowitz)
“نحن نتحمل المسؤولية بصفتنا سكان المدينة. لا نستطيع أن نسمح للمصير أن يقرر حياتنا. الحلول قائمة وهذا ليس قضاء مبرما. أؤمن بالحلول التي يقترحها رئيس البلدية في تل أبيب يافا عندما يقترح حلول سكن للعرب فقط. فهذا لا يكفي، إذ يستطيع السكان العرب الأغنياء في يافا أن يساهموا أيضا. يوجد الكثير من الأراضي هنا في المدينة. آمل أن يشتروا ويبنوا شققا للأزواج الشابة بأسعار معقولة، وأن يربحوا في الوقت ذاته من هذه الصفقات أيضا”، يقول كمال.
مستقبل أفضل؟
حملة البناء الفاخرة في يافا مستمرة (Noam Moskowitz)
المشاريع الجديدة في يافا متاحة أمام كل المعنيين بشراء شقة، ولكن لا أذكر أن السماسرة في يافا قد نشروا ذات مرة معلومات باللغة العربية. فالسكان المحليون الذين يواجهون مشاكل اقتصادية وضائقة سكن صعبة، يتذمرون بسبب عدم وجود مشروع بناء يمكن أن يكون متاحا أمامهم، في الوقت الذي تُبنى فيه مبان جديدة وفاخرة يمكن أن يشتريها من يدفع المبلغ الأعلى ثمنا.
منازل فاخرة في شارع هتسيدف، أول خط مع البحر (Noam Moskowitz)
إن ظاهرة الأحياء السكنية المغلقة (Gated Communities) التي تترك فقاعة منفصلة عن الجمال المحلي اليافاوي البارز – آخذة بالاختفاء أيضا. الأقوال المقولبة لليهود فقط في المجمعات الجديدة ليست دقيقة: يرغب المزيد من العرب العيش في المناطق السكنية القديمة ويهتمون بالسكن في المشاريع الجديدة. فمن جهة، يشير هذا التوجه إلى تشكّل طبقة عربية غنية، ترغب في الابتعاد عن روتين الحياة العنيف الذي يُميّز يافا، ولكن ربما تشير أيضا إلى براعم التعايش الطبيعي، الذي يمكن رؤيته منذ الآن في الحوانيت، المقاهي، ومطاعم الحمص، ذات السمعة الجيدة في المدينة.
شارع يهودا مرغوزا الفاخر في مدينة يافا (Noam Moskowitz)
اللغة التي أسمعها في الحي الذي أعيش فيه، آخذة بالاختلاط. إن مزيج العربية والعبرية في النقاش المكثّف في الفيس بوك للمجتمع المحلي الصغير في يافا، ربما يشير إلى مستقبل أفضل وأمل ضعيف أنه ربما بسبب المصاعب المشتركة اليوم سيتم التوصل إلى حل خلاق، يكون السكان المحليون الأصليون فيه، عربا ويهودا، مسؤولين عنه.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني