منذ دخول قاعدة سلاح الجوّ “حتسريم” جنوبَ إسرائيل، يبدأ المرء يشعر بـ”الرهبة” التي تحوم حول المكان. من هنا، وقتَ الحاجة، سيخرج هجوم جويّ إسرائيليّ على إيران، حزب الله، أو أيّ هدف آخر يحدّده السياسيّون. لا يصنع سلاح الجوّ مخاطَرات، ويستعدّ لأيّ سيناريو ممكن. وليس ذلك فحسب، بل يدعو أيضًا صحفيين لنقل الرسالة إلى العالم العربي: “لا تحاولوا اللعب معنا”.

تجري الطائرات الأكثر تقدُّمًا في حوزة سلاح الجو الإسرائيلي، طائرات F16i، مناورات مكثّفة في المجال الجوي فوق رؤوسنا، فتهبط وتقلع محدثة ضجيجًا يصمّ الأذنَين كل بضع دقائق. لا أحد في المنطقة يشكّ في كون التدريبات مكثّفة ومركَّزة.

منذ ما قبل البوّابة، يلازمنا جنود وحدة أمن المعلومات، ويحرصون على ألّا نصوّر في المناطق المحظور فيها التصوير، وألّا نقتربَ أكثر من اللازم إلى المنشآت. بمرافقة دائمة، يجري نقلُنا إلى منطقة التدريبات التي تخرج منها الطلعات الجوية القريبة.

بتوقيت مثالي، تدخل طائرات F16i التابعة لسرب “فرسان الذنَب البرتقالي”، الواحدة تلو الأخرى، إلى الساحة الكبيرة، وتقف على بُعد دقيق الواحدة عن الأخرى. بعد فحص سريع للطواقم الأرضية، مُنحت المصادقة، وبدأت الطائرة الأولى طريقها إلى مسار الإقلاع، متبوعةً بباقي الطائرات.

طائرات F16I تستعدّ للإقلاع في قاعدة حاتسيريم الجوية قرب بئر السبع
طائرات F16I تستعدّ للإقلاع في قاعدة حاتسيريم الجوية قرب بئر السبع

من الصعب جدًّا التعبير بالكلمات عن تجربة الوقوف على بُعد أمتار قليلة عن طائرة حربية تُقلِع. فجأةً، يزداد ضجيج المحركات كثيرًا، حتى يمكن الإحساس به في الصدر. بعد لحظة، تمرّ الطائرة فوقنا، قبل أن تتابع فورًا بسرعة لا يمكن إدراكُها، لتختفي داخل الغيوم. حين يعود النبض إلى عادته، تُقلع طائرة أخرى، ليُصدَم القلب من جديد، فيما العينان (وآلات التصوير أيضًا) تتابعان الطائرة الثانية، الثالثة، والرابعة التي تُقلِع، وبعد دقائق معدودة تعود وتستقرّ في الساحة، كأنّ شيئًا لم يكُن.

المقدم “أمير” قائد سرب طيران F16i النخبوي، ذي الصيت القوي “فرسان الذنب البرتقالي”. خلافًا للصورة المتصلبة، المبتعدة، والمترفّعة للطيّارين والضبّاط في سلاح الجوّ، اقترب منّا شابّ متّضع، بشوش، ومهذّب، صافحنا وقدّم نفسه باسمه الشخصي. يعتمر قيعة الطيّار المثيرة للرهبة حين يستلّ المصوّرون كاميراتهم فقط، بغية عدم الكشف عن هويّته. يعتذر سلفًا لعدم تمكنّه من الإجابة عن جميع أسئلتنا، لكنه يعِد بالمحاولة.

نشهد تدريبات مكثّفة لسرب الطيران. هل هي موجّهة نحو هدف محدّد؟

“ينشط سلاح الجوّ ويتدرّب 365 يومًا في السنة تقريبًا، ليكون مجهزًا لأي سيناريو، مهما كان. ونحن الآن جاهزون. الجيش الإسرائيلي اليوم جاهز أكثر من أيّ وقت مضى للردّ على أيّ تهديد، بدءًا من التهديدات القريبة كغزّة، لبنان، وسوريا، وانتهاءً بالتهديدات الأبعد.

أحد التهديدات الرئيسية على إسرائيل اليوم هو على الجبهة الشمالية، من جانب حزب الله، الذي يحتفظ بمجموعة هائلة من الوسائل القتاليّة والصواريخ، مجموعة لا تتناسب إطلاقًا مع حجم هذا التنظيم الإرهابيّ. إنها قوة نارية لدولة كاملة، موجّهة كاملَا ضدّ إسرائيل. في حالة طوارئ، علينا، كسلاح جوّ، أن نكون أوّل مَن يردّ.

طائرة F16I في قاعدة حاتسيريم الجوية قرب بئر السبع
طائرة F16I في قاعدة حاتسيريم الجوية قرب بئر السبع

تتركّز التدريبات حاليًّا على الردّ السريع، الناجع، والدقيق على أية معلومات استخباريّة. لدينا استخبارات دقيقة جدًّا، لا يمكننا طبعًا أن نفصّل مصادرها، لكننا مدرِكون جيّدًا لكلّ طرق العمل وتنظيم القوى في حزب الله. كذلك طائراتنا هي أكثر تقدّمًا ودقةً من أيّ وقت مضى.

لذلك، ستكون المعركة القادمة ضدّ حزب الله أقصر وأكثر دقة بكثير. الكثير جدًّا من القصف الدقيق في وقت قصير جدًّا. صحيح أنّ هذا سيؤدي إلى دمار أكبر بكثير، لكنّ هذا، للأسف، لأنّ حزب الله يحرص على وضع وسائله القتاليّة بين السكّان المدنيّين. لكنّ هذا حتمًا سيكون أكثر نجاعةً وقوةً مما رأينا حتّى اليوم، سواء في حرب لبنان الثانية أو في غزّة”.

حين تتحدّث عن استعداد لهجوم على أهداف أبعد، فأنت تعني إيران حتمًا؟

“التدريبات ليست مختصّة بدولة محدّدة، بل بكلّ ما يمكن أن يشكّل تهديدًا لإسرائيل. كما ذكرنا، نحن مشغولون بتدريبات منوّعة، لا يمكننا الحديث عن معظمها. داخل “الذراع الطويلة للجيش”، سلاح الجوّ مُدرَّب على الاستجابة لكل تحدٍّ، حتى إن كان بعيدًا. ليس سرًّا أنّ سلاح الجوّ يتدرّب على طلعات جوية بعيدة المدى أيضًا، نُشر بعضُها في الإعلام. أشدّد على أنّه لا داعي أن يكون هناك تهديدٌ محدّد، بل للحفاظ على القدرات. نحن قادرون اليوم على الوصول إلى أيّ مكان في العالم نحتاج إلى الوصول إليه. يمكنني أن أقول إنّ سلاح الجوّ تلقّى إرشاداتٍ من رئيس الأركان ومن السياسيين أن يكون جاهزًا لأيّ سيناريو ممكن”.

ولتكونوا مستعدّين لتلك السيناريوهات، هل تتعاونون مع جيوش وأسلحة جوّ أخرى في العالم؟

“مؤخرًا، أجرينا تدريبًا لرحلة جوية بعيدة المدى بالتعاون مع اليونان. خلفي، تقف الطائرة الأكثر تقدُّمًا في العالم اليوم، التي تعرف، في ظروف معيّنة، أن تصل إلى مسافات بعيدة جدًّا. في الماضي، قامت دولة إسرائيل بمناورات وعمليّات بعيدة جدًّا سُمح بنشرها”.

وماذا عمّا نُشر حول تعاوُن ممكن مع السعودية في هجوم على إيران؟

يبتسم المقدم “أمير” مُحرجًا ويجيب: “لا يمكنني التوسُّع في ذلك، وأنا شخصيًّا لا أعرف”.

طائرات F16I تستعدّ للإقلاع في قاعدة حاتسيريم الجوية قرب بئر السبع
طائرات F16I تستعدّ للإقلاع في قاعدة حاتسيريم الجوية قرب بئر السبع

تقول عينا المقدّم وابتسامته: “لم تتوقعوا أصلًا أن أجيب عن سؤال كهذا”. تُشير إجابته السابقة، بين ما تُشير إليه، إلى الهجوم الإسرائيلي الشهير على المنشآت النووية العراقية عام 1981. في الأسبوع الذي تُستأنَف فيه المحادثات في جنيف، وحين يبدو أنّها تقدّمت جدًّا نحو اتّفاق بين إيران والغرب، يتواصل في إسرائيل سماع تصريحات مثل: “إسرائيل قادرة على حماية نفسها بنفسها”. ويمكن الافتراض أنّ التدريبات للهجوم على إيران متقدّمة أكثر ممّا يروي لنا المقدَّم.

لكن لا ريبَ أنّ الرسالة التي يريد إيصالها واضحة وصريحة، وهو يكرّرها مرارًا وتكرارًا طيلة المقابلة: “سلاح الجوّ جاهز للتعامُل مع أيّ سيناريو، من مكان قريب أو بعيد، وهو ناجع أكثر من الماضي من ناحية الطريقة ومن ناحية مستوى التنفيذ على حدٍّ سواء، في كلّ مكان يُطلَب منّا الوصول إليه”. إذا سألتُموه، فيُرجَّح أن يزور سماء لبنان كثيرًا قبل أن يرى من الأعلى قُبَب المنشآت النوويّة الإيرانيّة.

اقرأوا المزيد: 834 كلمة
عرض أقل