انتظرنا المونديال، في نفس روتين الانتظار الذي لا ينتهي والذي يعيشه كلّ محبّ لكرة القدم مرة كل أربع سنوات، وهو أشبه بدائرة تتكرّر. انتظرنا – وبخلاف المرات السابقة، تحقّقت جميع توقّعاتنا بأكملها. في الواقع، فإنّ كأس العالم في البرازيل هو أكثر ما كنّا نريده أو نتخيّل أن نحظى به. إذا كنا قد رأينا في البطولات السابقة توجهات لكرة قدم دفاعية أو تستند إلى الاستحواذ على الكرة، ففي هذه الأيام نشاهد إحياء المباراة الإيقاعية والموجّهة نحو الأهداف، حيث تُمرّر فيها الكرة من قدم لأخرى وبشكل أساسي إلى المساحات الفارغة، بسرعة وبطرق متنوّعة.
منذ اليوم الثاني للمباريات، وفي اللقاء بين المنتخبين الكبيرين في المجموعة “ب”، حظينا بإثبات أول على التغيير الذي حلّ في كأس العالم هذا. لقد واجهت إسبانيا، موطن التيكي تاكا والتي دفعت التفاني إلى آفاق أرقام قياسية جديدة، هولندا التي يلعب فيها لويس فان غال. رغم التقدم المبكّر الذي أحرزه الإسبان عن طريق ركلة جزاء، وحقيقة أنّهم استحوذوا على الكرة في 64% من الوقت؛ لم تُدر المباراة بالطريقة التي اعتادوا عليها. فاستغلّت هولندا ميزة السرعة للاعبَين آريين روبين وروبين فان بيرسي، حيث أرسلا كرات طويلة إلى الأمام وضغطا على الدفاع كلّه. والنتيجة؟ ما لا يقلّ عن خمسة أهداف في شباك إيكر كاسياس التعيس – أحد عروض الفشل الأكثر تطرّفًا لبطلة تخرج. استمرت هولندا في الفوز أيضًا في المباريات التالية، مع أستراليا وتشيلي، وبدت كمرشّحة للتقدّم أبعد، أبعد بكثير.
شاهدوا بـ “ضربة رأس السمكة” الدقيقة والقوية لفان بيرسي، وهو هدف سيُذكر دومًا:
https://www.youtube.com/watch?v=4Pi8yvXFnec&feature=youtu.be
جاء هذا الصعود، كما هو معلوم، على حساب الإسبان التعساء. فكانوا يأملون في التعافي أمام تشيلي، ولكن كان لدى إدواردو فارغاس وأصدقائه مخططات أخرى. لقد استنسخوا طريقة اللعب الهولندية، وجعلوا الإسبان يستهلكون طاقتهم بهجمات لا جدوى منها، وقاموا بهجمات خفيفة الحركة، ولكنّها مُهندَسة بشكل جيّد، طوال الوقت لضمان مكان في ثمن النهائي. سيحتاج الإسبان إلى القيام بمراجعة حقيقية لفهم كيف بعد ثلاثة انتصارات متتالية في البطولات (بما في ذلك بطولة أوروبا 2008 و 2012)، يعودون إلى ديارهم بعد دورتين فقط.
وهذا مرشّح ليكون أحد هدّافي كأس العالم حتى الآن: تيم كيهل الأسترالي يقارن (مؤقتا) مع هولندا وول رهيب!
https://www.youtube.com/watch?v=ygc3IfN-gjA&feature=youtu.be
لا شكّ أنها بطولة للمنتخبات الأمريكية، حتى الآن. ويمكننا أن نضمّ لتشيلي كل من كولومبيا، البرازيل والأرجنتين؛ جميعها مرشّحة للوصول حتى النهاية. فصحيح أن البرازيل والأرجنتين لم تُقنعا على مستوى الفريق، ولكن لكليهما هناك لاعب نخبة، بحيث يمكنه أن يأخذ المباراة لنفسه، وقد استطاع أن يثبت ذلك في المباريات الأولى. سجّل نيمار زوج من الأهداف للبرازيل أمام كرواتيا، وكان ميسي مسؤولا عن هدفي الفوز لمنتخبه، أمام البوسنة وإيران. رغم عدم تنظيم تلك الفرق ووجود فجوة بين القدرات الشخصية في التنسيق بين اللاعبين، ولكن في هذه المستويات فإنّ “غبار النجوم” يساعد بالتأكيد في حسم المصير.
ميسي يأخذ الكرة، ويفصل بينه وبين المرمى 11 إيرانيَّا، ويُنهي مع هدف شخصي كبير في الدقيقة 94:
https://www.youtube.com/watch?v=mgoLiwdox20&feature=youtu.be
بينما يجيب ميسي عن الأسئلة التي طرحها الصحفيون قبل البطولة، فإنّ خصمه الكبير يسجّل بطولة عادية جدّا. بالتأكيد أنّ كريستيانو رونالدو ليس مسؤولا عن انهيار البرتغال أمام ألمانيا (بيبه تحديدًا، والذي تم استبعاده ببطاقة حمراء، فنعم)، ولكن على مدى مبارتين كاملتين – حتى مع الولايات المتحدة – لم ينجح في اكتساح أصدقائه ولم يجد لنفسه أوضاعًا. في الوقت الضائع مع الأمريكيين تحديدًا ضرب الكرة للعمق بشكل ممتاز، وانتهت المباراة بهدف تعادل من فاريلا، ولكن ذلك لم يكن كافيًّا، كما يبدو.
شاهدوا “طبخة” رونالدو، الختم الوحيد الذي تركه النجم والهلام في البرازيل:
نجم آخر جاء إلى البطولة (وبقوة) وهو لويس سواريز. لقد غاب مهاجم ليفربول عن المباراة الأولى للأوروغواي بسبب استبعاده وشاهد منتخبه وهو يخسر 3-1 أمام كوستاريكا. وقد صعد أمام إنجلترا على أرض الملعب وخاض في اللعب بشكل سريع. قام بالتحرك في الجناحين، تمتع بتعاون ممتاز مع نظيره في رأي الهجمة، أدينسون كافاني، وبالطبع سجّل هدفين، واللذين من المتوقع أن يقدّما منتخبه لثمن النهائي.
رغم ذلك، فجاءت القصة الكبيرة للمجموعة “ج” – وربما للبطولة كلها – من المنتخب الذي توقع الكثيرون أن يكون وقودًا لمدافع المنتخبات الثلاثة الكبرى: الأوروغواي، إنجلترا وإيطاليا. وفاجأ المنتخب القادم من أمريكا الوسطى الجميع بعد أن تغلّب على الأوروغواي القوية في اللعبة الأولى، وذلك بواسطة انضباط تكتيكي ولعبة محسوبة مع إيطاليا القوية أيضًا، 1:0. ستلتقي في ثمن النهائي بساحل العاج، اليونان أو اليابان، ولن يجرؤ أحد الآن على الرهان ضدّ استمرار هذه الرحلة الرائعة.
استمعوا إلى المعلّق المتحمّس وشاهدوا العرض الكامل لكوستاريكا، الذي أثبت أنّ كلّ شيء ممكن في كرة القدم!
ولكن فوق جميع العروض الشخصية والجماعية، وسوى جميع القصص المؤثرة التي حدثت على أرض الملعب، يبدو أن كأس العالم هذا ينتمي – أولا وأخيرًا – إلى جهة قد تم نسيانها تقريبًا في العصر الحديث: المشجّعون. يُغرق مئات الآلاف من الأشخاص من أمريكا الجنوبية البرازيل ويرافقون كل من: كولومبيا، تشيلي، الإكوادور، الأرجنتين والأوروغواي في استعراضات كبيرة وهتافات صاخبة. وانضمّ إليهم الكثير من المشجّعين الذين جاؤوا من جميع أنحاء الكون، ونشير بشكل خاصّ إلى الجزائريين، المكسيكيين والهولنديين.
من الصعب أن نقرر إلى أي مدى يؤثر الجمهور على مجرى المباريات نفسها، ولكننا نستطيع أن نقول على وجه التحديد (ومن تجربة شخصية) إنّه يتوغل عميقًا في ذهن المشاهدين، في الملاعب والتلفزيون. إن الألوان المنتشرة على جميع أنحاء المدرّجات المزدحمة، الأغاني الإيقاعية وضجيج التشجيع الذي لا ينتهي هي الصوت الحقيقي لكأس العالم. وحين ينضمّ هؤلاء إلى قدرات اللاعبين الكبيرة – رغم التعب الذي انتهى في هذا الموسم – وإلى أساليب اللعب المغامِرة، فمن الواضح أننا جميعًا رابحون. آه، أرجو ألا ينتهي أبدًا!
وفي النهاية، نصفّق لثعالب الصحراء من الجزائر؛ أكّدنا أنّهم سيفاجئون الجميع:
https://www.youtube.com/watch?v=YTBVRFCMcSQ&feature=youtu.be