من الصعب في هذه الأيام – أيام حرب وقتال في جنوب البلاد وغزة – وفي خضم حملة عسكرية وإعلامية واسعة النطاق، أن نخصص بعض الانتباه لأي نشاط اعتيادي في حياة المواطنين الإسرائيليين والفلسطينيين. أينما تنظر، تسمع أخبار عن إصابة خلايا إطلاق صواريخ، وعن مواطنين عزل قتلوا وأصيبوا من الطرفين، وعن دمار وهجمات صاروخية، وعن تقديرات وتخمينات سياسية واستخباراتية معارضة ومؤيدة للهجوم البري على قطاع غزة.
ما بين صفارات الإنذار في تل أبيب وبئر السبع وبين الهجمات على غزة والصور القاسية التي تأتينا من ميدان المعركة، تصل اخبار عن عملية تفجيرية في شوارع تل أبيب في وسط البلاد.
من بين التقارير العديدة التي تصلنا نحن العاملين في وسائل الإعلام، يأتينا تقرير واحد ينجح في بعث بصيص من الأمل والعقلانية.
إنه عمل جمعية إنسانية تتخذ من مستشفى “وولفسون” في مدينة “حولون” في إسرائيل قاعدة لها، وتسمى “أنقذ قلب طفل”. وفق الواقع، يثير اسم الجمعية بعض الاستغراب والفضول لمعرفة طبيعة عملها.
هنا في مستشفى وولفسون، نلتقي بمديرة العلاقات العامة في الجمعية السيدة تمار شبيرا والدكتور تسيون حوري رئيس وحدة العلاج المكثف اللذان رحبا بإطلاعنا على النشاط اليومي الذي تقوم به الجمعية من أجل إنقاذ آلاف الأطفال الذين يعانون من أمراض قلب مختلفة.
وبينما كنا نتجول في قسم الطوارئ المخصص للأطفال، وضحت لنا السيدة تمار بأن “الجمعية قد بدأت عملها في عام 1995 على يد عامي كوهين الذي بدأ بالعمل كطبيب في مستشفى “وولفسون” وكان هدفه مساعدة الدول النامية في تحسين علاج الأولاد الذين يعانون من أمراض القلب، وذلك من خلال جلبهم إلى إسرائيل لتلقي العلاج في مستشفى “وولفسون” وتأهيل أطباء وممرضات من كل أنحاء العالم ليكون بوسعهم العودة لاحقاً إلى بلادهم والقيام بأنفسهم بالعمليات الجراحية التي تنقذ حياة الأطفال”.
وحول مشروع الجمعية، تحدث د. تسيون قائلاً: “إن فكرة هذا المشروع جاءت في الواقع بمحض الصدفة عندما توجه إلينا في أحد الأيام مؤسس الجمعية د. كوهين يطلب منا مساعدته في إحضار طفلين مصابين بمرض القلب من أثيوبيا لإجراء عملية جراحية لهما في إسرائيل.” وتابع د. تسيون قائلاً: “أذكر ذلك اليوم، حيث توجه إلي وطلب مني أن أحضر طفلين إثيوبيين مباشرة لإخضاعهم لعملية جراحة في القلب في المستشفى. في البداية كنت أعتقد أنه مجنون. لكن، بعد معالجة الطفلين مباشرة بدأنا ندرك بأنه توجد هنا فرصة ذهبية لمعالجة أطفال يعانون من أمراض القلب هنا في إسرائيل”.
الطفلة لين من غزة بعد عملية جراحية في القلب. تصوير شلهفيت شييلة
اليوم هناك أكثر من 5 مليون طفل مصابون بأمراض القلب والعديد منهم يصلون إلى إسرائيل لتلقي علاج طبي. أطفال من أثيوبيا والصين والعراق وشمال ووسط أفريقيا دون تمييز في اللون أو الدين أو الجنس. من بين العديد من الأطفال الذين يخضعون لجراحات في المستشفى هناك أيضاً أطفال فلسطينيون يأتون مع أهاليهم بعد الحصول على التصاريح الملائمة من مدن الضفة الغربية – نابلس والخليل وبيت لحم وحتى من غزة.
“لا أعرف إن كان هذا أمر مفاجئ ولأي درجة يبدو هذا غير واقعي، لكن نحن في خضم حملة شرسة ووضع أمني متدهور، ففي يوم الأحد الماضي (18/11/2012) في حوالي الساعة 10:00 صباحاً سقط في منطقة المستشفى صاروخ “فجر 5″ الذي أطلق من غزة، وقد تزامن ذلك مع وصول أحد الأطفال من غزة، وكان بحاجة لجراحة قلب طارئة”. هذا نشاط روتيني بالنسبة للجمعية، وهو نشاط يحصل على شرعية مضاعفة في هذه الأيام بالذات.
بحسب ما يقوله د. تسيون، فإن نحو نصف الأطفال الذين يتلقون علاجاً في المستشفى بمساعدة من جمعية “أنقذ قلب طفل” هم أطفال فلسطينيون. ويقول د. تسيون حول ذلك: “نحن نتلقى العديد من الحالات لأطفال مرضى قلب من غزة، ويفضل أهاليهم معالجتهم في إسرائيل لأن المعالجة في المستشفيات المصرية أو الأردنية تزيد من المخاطر بسبب البعد، وفي بعض الحالات يدرك الأهالي أنفسهم بأنهم يحصلون على علاج أفضل في غرفة الطوارئ الموجودة لدينا بسبب الخبرة والطاقم المتخصص “.
جدير بالذكر أنه عدا عن العمليات الجراحية، تهتم الجمعية بمرافقة الأهل والأطفال على مدار فترة البقاء في المستشفى، ويشمل ذلك البحث عن حلول للإقامة والعيش في إسرائيل.
في تلك الأثناء، طلبنا القيام بزيارة قصيرة للقسم لرؤية الأشخاص فنلتقي بأهالي قلقين قرب أسرة أطفالهم – أهالي من أثيوبيا وزنجبار وسلوفانيا، ونجد كذلك جداً لطيفا، رغم القلق الذي بان على وجهه، يجلس بالقرب من سرير حفيده الذي يبدو مضطرباً. نتوجه إليه ونسأله عن حالة حفيده فيجيب بالعربية بلهجة غزاوية، بأن حفيده لم يخضع بعد للجراحة، وينتظر حتى يستقر وضعه. يقول الجد: “ننتظر بأن يقوى جسم الصغير ليتحمل الخضوع للجراحة”. نسأل عن اسمه فيطلب ألا نذكر اسم عائلته، ويقول “أنا فرج وهذا حفيدي، وصلنا إلى هنا قبل يومين من غزة من حي الشجاعية في شرق غزة”. ثم نسأله، كيف وصلتم إلى هنا ؟ فيجيب: “لم يكن الأمر سهلاً، حيث كان علينا أن نجد وسائل مواصلات، وسيارات الإسعاف وقوات الإنقاذ في مدينة غزة تعاني من الضغط في المستشفى المركزي (مستشفى الشفاء)، الذي كان يفترض أن ينسق بخصوص وصولنا إلى المعابر. لم يكن هناك من يمكننا التحدث معه، فمررنا بصعوبات وأشكر الله بأننا نجحنا بالوصول إلى هنا لتلقي العلاج، وآمل أن تنجح عملية حفيدي وتمر بسلام”.
ننظر جانباً فنلاحظ طفلة تضع على رأسها حجاباً وبجانبها أمها وهي أيضاً تضع الحجاب على رأسها. يقول د. تسيون: “هذه الطفلة عراقية من منطقة كردستان”. نقترب منهم ونسألهم إذا كانوا يتحدثون العربية. تهز الأم برأسها إشارة إلى الرد الإيجابي وتجيب: “أنا أفهم قليلاً، أنا كردية ولا أتقن التحدث بالعربية. لقد خضعت ابنتي لجراحة هنا في المستشفى وهي تتحسن بفضل الله وبفضل الطاقم الطبي”.
ننتقل بين المرضى ويروي لنا د. تسيون عن الحالات الخاصة، حيث يقول: “كل يوم ثلاثاء نجمع القسم لاستقبال حالات خاصة لأطفال فلسطينيين، وهذا الأسبوع كان يفترض أن تصل إلينا 13 حالة، حالة واحدة فقط نجحت بالوصول، ولم يسمحوا لهم في غزة بالمرور إلى الجانب الاسرائيلي، ولا أفهم ذلك. نحن نتحدث عن أطفال مرضى وأتمنى لو كان بإمكاننا أن نعمل أكثر لمساعدتهم”.
الطاقم الطبي متعدد الأطياف، عرب ويهود، والمعالجون من ذوي البشرة الداكنة أو الفاتحة من كافة الأجناس ويتحدثون خليطاً من اللغات، وهم يبعدونك ولو لبرهة عن الصخب في الخارج ويزرعون في قلبك شيئاً من الأمل. في الخارج تستمر حملة “عامود السحاب”، ويستمر وقوع الضحايا من كلا الطرفين ولا نرى النهاية بعد. نعود إلى الصخب الإعلامي حول العملية المرافقة للعملية التفجيرية في تل أبيب ومحاولات التهدئة التي تقود كلا الطرفين في ذلك المساء للتوصل إلى وقف إطلاق نار حذر وهش.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني