بعد مرور 36 عاما على ثورة آية الله سيد روح الله الخميني، لا يزال من غير الممكن ذكر شخص آخر غيره قد أثر على طابع إيران السياسي. ولكن في حين أن تأثير الخميني يعتبر حدثا تاريخيا غيّر وجه إيران، يعتبر آية الله علي خامنئي مكمّل مسيرته الحصري، فلا تزال قلوب الإيرانيين مكرّسة بكل قوة لثنائي تاريخي آخر: علي بن أبي طالب والحسين بن علي.
توصل الباحثون الذين تتبعوا طبيعة السياسة الإيرانية، والشكل الذي يتم فيه اتخاذ القرارات، والأسئلة عن كيفية التنبؤ بالتحرّكات المستقبلية للجمهورية الإسلامية، توصلوا إلى استنتاج يقول إنه لا تزال الصدمة النفسية الدموية لخيانة علي والحسين قائمة في قلب البلاد، اللذين قُتلا وحُرما من حقّهما الطبيعي في خلافة النبيّ محمد.
فوق كل اعتبار عملي وبراغماتي اليوم في إيران، فإنّ الاعتبار الأهم بالنسبة للسياسيين الإيرانيين هو تسريع مجيء الإمام الثاني عشر
فضلًا عن ذلك، يلاحظ الباحثون أنه في السنوات الماضية، كلما أصبح وضع إيران مقابل العالم الإسلامي السنّي والعالم الغربي أكثر توتّرا؛ تتعزّز المعتقدات القديمة القائلة باقتراب يوم القيامة. وفوق كل اعتبار عملي وبراغماتي اليوم في إيران، فإنّ الاعتبار الأهم بالنسبة للسياسيين الإيرانيين هو تسريع مجيء الإمام الثاني عشر.
وقد حُدّدت سابقا مكانة الشيعة الاثني عشر في الدستور الإيراني الذي تمّت الموافقة عليه عام 1979، كدين حصري للبلاد. يضمن الدستور أن كل محاولة للفصل بين الدين والدولة ستكون بمثابة ثورة ثانية. ويقوم النظام الإيراني الأصولي بذلك، وهو الذي بذل جهودا لضمان قوته وسيطرته، من خلال تعزيز المبادئ الرئيسية، التي يجب على كل إيراني أن يؤمن بها:
بداية، يعزّز النظام بين مواطنيه الاعتقاد بأنّه هو الذي يقدّم الإسلام النقيّ والحقيقي، بخلاف الأنظمة السنية الملوّثة في الشرق الأوسط. يعتبر حكم ولاية الفقيه أمرًا ملزما من النبيّ، والطريق الأنقى لإقامة إرادة الله. وفقا لهذا التفسير الشيعي، فإنّ حكومة نقية كهذه فقط هي التي ستعيد الإمام الغائب وتخلّص الشيعة.
أصبحت نظريات المؤامرة واسعة الانتشار بطريقة لا يمكن إيقافها في أوساط الشيعة بشكل عام، وفي أوساط الإيرانيين بشكل خاصّ
ثانيا، غرس النظام الاعتقاد بأنّ هذا النظام يقع في خطر دائم، وأنه يجب اعتماد جميع وسائل القوة من أجل إبقائه في مكانه. منذ أيام علي والحسين، أصبحت نظريات المؤامرة واسعة الانتشار بطريقة لا يمكن إيقافها في أوساط الشيعة بشكل عام، وفي أوساط الإيرانيين بشكل خاصّ. الاعتقاد بأنّ عملاء سريّين يخطّطون لقلب نظام الحكم وتغيير نظام العالم الإلهي، والخوف من هذه المخطّطات (حقيقة كانت أم خيالية)، كل ذلك يهدف إلى تعزيز الثقة بالنظام. إنّ مجيء المهدي سيجلب معه المعركة الأخيرة بالتأكيد، والتي سيحبط فيها النظام الشيعي المتآمرين.
ثالثا، الشعور الدائم بالاضطهاد متجذّر في الاعتقاد الشيعي؛ الحكم الذي سُلِبَ من عليّ، بالإضافة إلى الذاكرة التاريخية للصراع الاستعماري على السيطرة على فارس، يجعل ذلك الإيرانيين يؤمنون بالحاجة إلى الحرب الدائمة للإيرانيين ضدّ الإمبراطوريات الأجنبية، الشريرة والفاسدة. وهذا هو أصل العداء المتصلّب الذي توجّهه إيران تجاه إسرائيل والولايات المتّحدة، والذي يتمثّل في السعي شبه العلني لإيران من أجل امتلاك الأسلحة النووية.
منذ موجة الاحتجاجات التي بدأت بعد انتخابات عام 2009، يبدو أن الشعب لم يعُد يؤمن بأنّ نظام ولاية الفقيه هو بمثابة حتمية إلهية
قام النظام الإيراني بعمل جيّد عندما غرس “مبادئ الاعتقاد” الثلاثة هذه في قلب الشعب الإيراني في العقود الأولى من حكمه. ولكن منذ موجة الاحتجاجات التي بدأت بعد انتخابات عام 2009، يبدو أن الشعب لم يعُد يؤمن بأنّ نظام ولاية الفقيه هو بمثابة حتمية إلهية.
حتى لو لم ينجح الاحتجاج في إحداث تغيير كبير في الحكم، فقد صدّع شرعية الحكم. كانت ردّة فعل النظام الإيراني تلقائية تقريبا: اتهام المحتجّين بالانتماء إلى منظّمة سرّية انقلابية، تُقاد من خلال المصالح الخارجية للولايات المتحدة وإسرائيل. ولكن ما كان في الماضي كافيا من أجل قمع أي انتفاضة شعبية، لم ينجح عام 2009.
الذي اتضح هو أنّ هناك جزء كبير ومستقرّ في المجتمع الإيراني يدرك بأنّه يمكن تحرير الجمهورية من الظلال التاريخية الثقيلة للإمام علي، والتوقف عن تأسيس الحياة العامة بناء على انتظار مجيء المهدي.
من جهة أخرى، من علّق على حسن روحاني أملا بتغيير حقيقي في النظام الإيراني، خاب أمله بسرعة بعد أن أدرك بأنّ روحاني ووزير الخارجية جواد ظريف هما من لحم ودم النخبة الدينية التي تُقاد من قبل الخامنئي. حتى لو لم يكن قادرا أو غير راغب في إحداث إصلاحات حقيقية، فقد يعمل روحاني على إرضاء أولئك الذي خرجوا للتظاهر عام 2009 من خلال وعود بتحسّن اقتصادي. إنّ تطوّر نظام أكثر ليبرالية في إيران لا يزال بمثابة حلم بالنسبة لأولئك الذين ينشدون الحرية.
ولا يزال السؤال حول إمكانية تطوير خيار علماني وليبرالي في إيران في نهاية المطاف مسألة غير عملية. ولكن من الواضح أنّه كلّما استمرّت أسعار النفط بالانخفاض، واستمرّت العقوبات الغربية بشلّ الاقتصاد الإيراني، فإنّ إمكانية اندلاع احتجاج علماني بطبيعته مرة أخرى ستظلّ تهدّد الحكم الديني. في المقابل، إذا تخلّصت إيران من العقوبات ووصلت إلى عتبة تطوير الأسلحة النووية، فإنّ قوة الدولة الشيعية ستزيد فحسب.