لم تجرِ صياغة العنصرية بطريقة واضحةٍ ووقحة أكثر ممّا فعله منظّرو الأعراق النازيون. وُضعت أعمال كاملة لعلماء فقط بهدف البرهان على أن أبناء عِرقٍ ما أسمى من العروق الأخرى، وأنه يمكن تصنيف مدى ذكاء وتفوّق البشر عبر التحدّر العرقي فقط.
من البيّن أنّ الضحايا الرئيسيين لهذه الأيديولوجية المجنونة هم يهود أوروبا، لكن من الممكن أن ندرك بسهولة إلى أيّ حدّ كان ممكنًا أن تكون مجموعات إثنيّة أخرى مثل العرب، الآسيويين، السود، الغجر، أو الهنود ضحايا العنصرية النازية. مهّدت الأيديولوجية العنصرية الطريق لقتل كلّ إنسان لا ينتمي إلى العِرق الألماني – الآري “الأسمى”. ولو احتلّ النازيون الشرق الأوسط، يُحتمَل أنّ عربًا كثيرين، لا اليهود فقط، كانوا سيقعون ضحية لمجازرهم الجماعيّة.
عنصريّة عِلميّة
يبدو اليوم أنّ الفرضيّات التي بُنيت عليها النظرية، التي تُفيد بأنّ المنتمين إلى عروق معيَّنة هم “أدنى” ولا يمكنهم بلوغ إنجازات ذهنيّة وروحانيّة يمكن أن يبلغها فقط بنو العروق “الأسمى”. في يومِنا هذا، في ظلّ تربُّع رئيس من أصول إفريقية – أمريكية على عرش البيت الأبيض في واشنطن وقيادته الأمة الأقوى في العالم، تبدو الفكرة أنّ الناس من عُروق معيّنة عاجزون عن التفكير كنظرائهم من عروق أخرى سخيفة.
لكن في ألمانيا في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، حين كان النازيون يوطّدون سلطتهم، بدت النظريات العرقية علميّة محضة. وقد كان لتلك النظريّة المشوَّهة عددٌ من الأساسات التي ساهمت في تطويرها، وجعلها الأيديولوجية الرسمية لألمانيا.
رسوم من كتاب نازي تشرح فيه النظرية العنصرية النازية
أحد جذور هذه النظرية هو “فراسة الدماغ”، نظرية ازدهرت في أوائل القرن التاسع عشر، وادّعت أنّ مبنى الشخصية متّصل بمبنى جمجمة الإنسان. وفق النظرية، ثمة 42 منطقة في الدماغ، كلّ واحدة منها مسؤولة عن خصلة مختلفة في الطباع، ويمكن لقياس الجمجمة أن يحدّد طبيعة الإنسان وذهنه. كانت النظرية شعبيّة ليس في ألمانيا فحسب، بل أيضًا في الولايات المتحدة، واستخدمها علماء الإجرام بشكل أساسيّ.
هكذا قاس النازيون جماجم اليهود، الروس، والسود، وقارنوها بجماجم الألمان ذوي الأصل الآريّ، بهدف الإظهار أنّ ذكاء الألمان أسمى من باقي العروق. وجد العِلم الحديث أنه رغم أنّ بعضًا من أُسس النظرية تبيّن أنه صحيح، فإنّ القدرة على استخلاص استنتاجات من مبنى الجمجمة حول طبيعة الإنسان لا أساسَ لها مطلقًا.
أمّا النظرية الأخرى التي كانت مُلهمًا للنظرية العرقية فهي “النظرية النوردية”، وهي إحدى الصيغ المبكرة للنظرية، قبل النازيين. اعتقدت النظرية أنّ الأوروبيين ينقسمون إلى ثلاثة أعراق ثانوية: العِرق الفرعي “النوردي”، العرق الفرعيّ “الألبيني”، والعرق الفرعي “البحر متوسّطي”، وأنّ العرق “النوردي”، الذي تميّز بلون الشعر الأشقر، العيون الزرقاء أو الخضراء، طول القامة، واتّساع الكتفَين، هو العرق الأسمى والسائد.
ساهم عدد من الفلاسفة البارزين على مرّ التاريخ في هذا الفهم المشوَّه أنّ الرجل الأبيض، أو الألماني، هو مخلوق تسمو قيمته على أبناء عروقٍ أخرى. وأحد أكبر المساهمين في دعم هذه النظرية هو الفرنسي آرثر دو غوبينو، الذي ألّف عام 1853 كتاب “أصل التفاوت بين الأجناس البشرية”، الذي يوصف بأنه أحد أشدّ المؤلفات عنصريةً ومنهجيةً في التاريخ، إذ حدّد أنّ الإنسان الأبيض يقود التاريخ، ويقود تطوُّرَه.
أمّا الفيلسوف الألماني في القرن التاسع عشر، آرثر شوبنهاور، فقد صاغ هذه الموقف بأوضح طريقة، إذ كتب: “إنّ الحضارة والثقافة الأسمى على الإطلاق، باستثناء الهنود القدامى والمصريّين، موجودة حصرًا لدى العروق البيضاء؛ وحتّى بين لدى الشعوب ذات البشرة الداكنة، فإنّ لون المجموعة السائدة أكثر بياضًا من باقي المجموعات”.
من النظرية إلى الأيديولوجية
إثر الحرب العالمية الأولى ويقظة القوميّة الألمانية، أضحت صيغٌ مجرّدة للنظرية شائعة لدى جميع الطبقات في ألمانيا، لا الفلاسفة الألمان فحسب. أراد جموع الألمان، الذين آلمتهم الهزيمة في الحرب العالمية الأولى والوضع الاقتصادي السيء الذي رافقها، تطهير شعبهم من الأعراق الأجنبية، مستخدِمين تلك المعتقدات لتعزيز هويتهم القومية. وقد آمنوا أنه يجب التأكد من عدم تلوّث “العرق الأسمى” بعروق أدنى، لا سيّما اليهود.
حين كتب أدولف هتلر كتابه “كفاحي” أثناء مكوثه في السجن الألماني، استند إلى نظريات نوردية كهذه، أفادت بأنّ اختلاط الشعب الألماني بشعوبٍ “أدنى” هو ظاهرة حقيرة، وأنه يجب الحفاظ على طهارة العرق الألماني – الآريّ. مع صعودِه إلى السلطة في ألمانيا، أضحى هذا الموقف الأيديولوجيّة الألمانية الرسمية، التي طُبّقت ألمانيا وأوروبا كلّها.
اللاعب أولمبي لرياضة الجمباز ألفريد شفارتزمان خلال الألعاب الأولمبية في برلين عام 1936 (CORR / HO / AFP)
كانت “قوانين نيرنبرغ” التي سُنَّت عام 1935 التطبيق الرسمي لتلك الأيديولوجيات العنصرية. جرّاء سنّها، جُرّد جميع الألمان اليهود والغجر من الجنسيّة، ففقدوا مكانتهم القانونية. فضلًا عن ذلك، فرض “قانون حماية الدم الألمانية” عددًا كبيرًا من القيود المُذلّة على اليهود. فقد حظر عليهم التزوّج بالألمان، تشغيل مساعِدات ألمانيات في منازلهم، والجلوس على مقاعد عامّة، فضلًا عن منع معظمهم من الدراسة في الجامعات والعمل في المستشفيات.
وتجسّد كلمات هتلر نفسه عام 1939 بشكل واضح نطاق العنصرية الرسمية لألمانيا والنتائج المترتّبة عنها: “لن تعرف أوروبا السلام حتّى تتخلص من المشكلة اليهودية. إذا نجحت اليهودية… في جرّ الأمم إلى حربٍ عالميّة ثانية، فإنّ النتيجة لن تكون انتصار اليهودية، بل إبادة العرق اليهودي في أوروبا”. وهكذا، أودت أيديولوجيّة هتلر بحياة ستّة ملايين يهودي.
تحسين العِرق الألماني
إلى جانب إلحاق الضرر بشكلٍ ملحوظ باليهود، عمد الألمان إلى اتّخاذ خطوات تهدف إلى تثبيت تفوّقهم العِرقيّ. هدف برنامج دُعي “ينبوع الحياة” الألماني، طبّقه الحزب النازي، إلى “تحسين” العرق الآري عبر مزاوجة رجال ونساء لديهم صفات ألمانية كلاسيكيّة. كان معظم الآباء ضبّاطًا ألمانًا في الـ SS، وحدة الإرهاب الأعلى في الحزب النازي. وكان الهدف تنشئة جيل من الرجال والنساء الأقوياء، الأذكياء، والحِسان ليشكّلوا “نخبة” العرق الألماني.
أدولف هتلر في لقاءٍ مع ضبّاط SS. أراد النازيون بواسطتهم تحسين العرق الألماني (AFP)
جرى تأكيد هذه النية في تصريح رسميّ صادر عن الحكومة الألمانية، فور اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، إذ حدّد المهمة الأسمى لـ “ذوات العرق النقيّ” بإنجاب أطفال المقاتِلين الذاهبين إلى القتال. نُقل الأطفال ذوو الأصول الآرية والمميّزات الجسديّة الملائمة لتهتمّ بهم عائلات “طاهرة”، أو مؤسّسات “طاهرة”، كان هدفها تربيتهم وتأهيلهم بصفتهم أبناء العِرق الأسمى. أمّا الأولاد الآخَرون فقد وُضعوا جماعيًّا في منشآت لتنشئتهم وتربيتهم.
عدا ذلك، كلّما ازداد مساحة الأراضي التي احتلّها الألمان خلال الحرب، جرى إنشاء مراكز لخطة “ينبوع الحياة”، بهدف تنشئة الجيل التالي للنسل المحسَّن للعِرق الأعلى في دُوَل خارج ألمانيا أيضًا. في حالات معينة، جرى خطف أطفال كانوا يفون بتلك المقاييس العنصرية ووضعهم في مراكز التربية تلك. ومن المعروف أنّ نحو ثمانية آلاف طفل كهؤلاء جرت تربيتهم في مراكز في ألمانيا، ونحو 8 آلاف آخرين في النروج. وفي دول مثل النمسا، الدنمارك، فرنسا، بلجيكا، وبولندا، أُنشئت مراكز كهذه.
نهاية الأمر
فشل هذا المشروع الطموح والعنصري، بطبيعة الحال. فقد هُزمت ألمانيا في الحرب، ولم يُسجَّل أيّ تغيير جذريّ في التركيبة الديمقراطيّة لأوروبا. عانى آلاف الأولاد الذين جرت تنشئتهم في “مختبَرات التكاثر” النازية من صدمات نفسيّة صعبة، لأنهم كبروا دون معرفة والديهم الحقيقيين. وطالب العديد من الناتجين عن تلك المراكز، لا سيّما أولئك المولودين لأمهات نروجيّات اغتصبهنّ ضبّاط ألمان، تعويضاتٍ من الحكومة الألمانية.
تحوّلت تلك الخطّة الجامحة والعنصرية، التي كان يمكن أن تغيّر وجه العالم، إلى فصلٍ لن يتكرر في التاريخ البشريّ. وهذا ما حلّ أيضًا بالنظرية العنصرية النازية التي اضمحلّت، ولا تجرؤ أية دولة في العالم على إعلانها أيديولوجيّة رسميّة لها. لا تزال العنصرية قائمة في العالم، لكن نأمل أن لا تعود إلى رفع رأسها من جديد بطريقة منظّمة وقاسية كهذه.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني