في إسرائيل العديد من الجبال الشهيرة، من التاريخ والتقاليد في أديانٍ عديدة: جبل الجرمق قرب صفد، جبل الهيكل في القدس، وجبال الكرمل شمال البلاد. لكنّ “الجبل” الآخَر المعروف أيضًا – بشكل أساسيّ، بسبب الروائح التي فاحت منه – هو جبل النفايات “الخيريّة”، غير البعيد عن تل أبيب، والذي رمت فيه السلطات المحلية المختلفة نفاياتها لسنواتٍ طويلة. في مستهلّ العقد الماضي، تقرَّر أنّ الأمر هو مصدر إزعاج وطنيّ، يزعج السكّان المجاوِرين، ويمكن أن يشكّل خطرًا صحيًّا وبيئيًّا بالنسبة للإنسان والحيوان.
بعمل مكثّف، جرى تبديد آثار الرائحة الفظيعة، شقّ سُبل للمشي وللدرّاجات، غرس أشجار ومساحات عشبيّة، وتحويل الجبل اللعين إلى متنزّه ساحر وجذّاب، دُعي على اسم رئيس الحكومة الإسرائيلية الراحل، أريئيل شارون، الذي عمل على إنشائه. كما بُني مركز زوّار ومواقع إعادة تدوير حديثة. وفي الأيّام العاديّة، تزور وفود من رياض الأطفال والمدارِس المكان، وتتعلّم عن إجراءات إعادة التدوير المختلفة وأهميتها، وعن قدرة كلّ إنسان على تغيير بيئته القريبة والتأثير فيها. أعترف أنني كإسرائيلي، معتاد منذ الولادة على وجود الجبل ذي الرائحة الكريهة وعلى سدّ أنفي في جواره، تأثرتُ كثيرًا بالتغيير الجذريّ الحاصِل.
Trash People (علاقات عامة)
في مستهلّ شهر نيسان، وبمناسبة عيد الفصح، وصل المتنزهَ معرضٌ خاصّ، سيستمرّ على قمة الجبل حتى السادس والعشرين من نيسان، بعنوان: Trash People (رجال النفايات). نجحت إدارة المتنزه، بالتعاون مع جمعيّة إعادة التدوير المحلية (أ.ل.هـ) في إحضار أحد أكبر وأهمّ المعارض البيئية إلى إسرائيل. كان الفنّان الذي أنتج المعرض – الألماني هانس يورجن شولتس – من أوائل الأشخاص الذين دمجوا النفايات والموادّ المُعاد تدويرها في الفنّ، كجزءٍ من التعبير ضدّ الطريقة التي يفني فيها الجنس البشريّ موارد الكرة الأرضية. من أجل هذا العرض، قام بنحت مئات التماثيل بحجم بشريّ، أُعدّت من 200 طنّ من الموادّ المُعاد تدويرها، بينها الحديد، الزجاج، والعلب المعدنيّة، وتمّ وضعها الواحد بجانب الآخر، كجنودٍ مهيَّئين للمعركة. كانت النتيجة فسيفساء مميَّزة توثّق التبذير البشريّ.
Trash People (علاقات عامة)
يتجوّل المعرض حول العالم في الأعوام الـ 18 الأخيرة، وقد زاره 25 مليون إنسان، ووُضع في أماكن معروفة كثيرة، بينها: جبال الألب، سور الصين العظيم، الميدان الأحمر في موسكو، القارة القطبية الجنوبية، والأهرام في مصر. بعد أن شاهدتُ الصور من أماكن أخرى، قررتُ أنّ مشاهدة التماثيل على خلفيّة الأبراج التي تغطّي تل أبيب ستكون أمرًا مثيرًا. مع وصولي إلى المكان، ابتهجتُ بالاكتشاف أنني لن أُضطرّ إلى الصعود إلى قمة الجبل (العالي!) بقواي الذاتيّة. صعدتُ إلى المركبة التي أنزلتني في مدخل المتنزه، فانكشفت أمام عينيّ في تلك اللحظة إحدى الزوايا الأكثر روعةً في المنطقة.
البحيرات الاصطناعيّة مع شتّى أنواع الطيور في المياه الصافية؛ طرق المشي الملتوية (التي تبيّن أنها كانت مضاءة وجميلة في وقتٍ لاحق أيضًا، مع غروب الشمس)؛ الأشجار والنباتات التي نمت على النفايات بكامل مجدها؛ والمشهد الحابس الأنفاس للمُدن والمساحات التي تحيط بالمتنزه. بداية جيّدة، لا غبار عليها. مشيتُ ببطء بين الطرق نحو المعرض، فسمعتُ فجأةً أصوات أطفال عن قُرب. واصلتُ السير، وفي الجانب الأيمن رأيتُ مجموعات أطفال مع مُرشِدين، كجزء من ورشة إبداع بيئيّ. سألتُ طفلًا خرج من المبنى المفتوح عن ماهيّة النشاط، فأجابني دون تردُّد: “تعلمنا أن ننتج أمورًا من موادّ أُعيد تدويرُها، وأدركتُ أنّ علنا أن نفكّر قبل رميّ أيّ شيء إلى القمامة”.
Trash People (علاقات عامة)
أنا متأكّد من أنّ شولتس كان منفعلًا. فقد كان الهدف الأساسيّ من المعرض والسبب لتجوّله في أماكن بعيدة حول العالم إحداث تغيير في الوعي بين البشر، جعلهم يفكّرون قبل التخلّص من قنينة بلاستيكية، كتاب قديم، أو علب مختلفة، وتحويلها إلى نفايات. قبل زيارته، قال إنّ “إسرائيل هي دولة تعيد التدوير”، ذاكرًا بشكل إيجابي معطيات إعادة التدوير المرتفعة لقناني البلاستيك في إسرائيل (“خلال سنوات معدودة، تخطّت إسرائيل أهداف إعادة التدوير للولايات المتّحدة ودُول كبرى في أوروبا”)، معبّرًا عن تأثره بترميم جبل النفايات، الذي دعاه “أحد المشاريع الكبرى في هذا المجال في العالم”.
فيما أسمع صدى كلمات شولتس في رأسي، أبلغ مجدّدًا النقطة الأعلى على قمّة الجبَل، حيث وُضعت صفوف من التماثيل. من بعيدٍ تبدو متشابهة، إن لم نقُل متطابقة. كلّما اقتربنا وفحصنا كلّ تمثال على حدة، نكتشف أنها مكوَّنة من موادّ مختلفة كليًّا: أغطية حاويات، علب بخّاخات، أجزاء حاسوب، وعلب مُعلَّبات، والقائمة طويلة ومقلِقة… رغم الشعور الأوليّ بالفوضى، الذي يرافق التأمل في التماثيل، سرعان ما نعتاد على الفكرة، ونبدأ بتمييز شخصيّات محدّدة.
بعد الغروب، خرجتُ في جولة إضافية بين “رجال النفايات”. يعلّق فارس، سائق حافلة من أبو غوش، بصوتٍ عالٍ أنّ “كوكا كولا تظهر تقريبًا في كلّ تمثال!”. أقترب منه، أقدِّم نفسي، وأطلب سماع رأيه في المتنزه بشكل عامّ، والمعرض على وجه الخُصوص. “إنه مشروع مذهِل، شهادة شرف لمن يمكنه أن يحوِّل جبلًا من النفايات إلى مشروع يرتاده الكثيرون من أجل التنزُّه والاسترخاء”، مضيفًا: “المعرض الحاليّ مؤسَّس على فكرة جميلة جدًّا، ومن الممتع زيارة المكان. في نهاية المطاف، إنه يساعد أيضًا على تربية الناس على إعادة التدوير، واستخدام ما تتيحه لهم الطبيعة”.
Trash People (علاقات عامة)
عادت الابتسامة إلى شفتيّ لدى سماع هذه الكلمات البسيطة الصحيحة. فيما أخطو نحو مخرج المتنزه، ألاحظ أنّ الابتسامة لم تفارق وجهي بعد. حينها، أدرك أنّ الأمر الأهمّ الذي تعلمتُه من المعرض هو أنه حين نفعل أمورًا جيدة نشعر بالفرح. وإذا شعرنا بالفرح نفعل أمورًا جيّدة. إنها حلقة، ويجب البدء فقط. يجب إعادة التدوير!
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني