من الصّعب عدم الانتباه للثورة الحضارية العميقة التي اجتازها المجتمع الإسرائيلي في العقدَين الأخيرَين. فقد كانت النظرة المؤسساتية إلى الموسيقى والحضارة الشرقيتَين، للقادمين من الدول العربية، عدائيّة طوال أكثر من أربعة عقود. أرادت المؤسَّسة الشكنازيّة، التي تحكّمت بالثقافة الإسرائيلية المتبلوِرة، والموسيقى السائدة والمسموعة في الإذاعة الإسرائيلية، أن توصل رسالة واضحة مفادُها أنّ الموسيقى الشرقية ليست أكثر من نحيب وبكاء وأنْ لا مكانَ لها في الواقع الإسرائيلي المُتجدِّد.
قرابة نهاية الخمسينات، حدث تباعُد بين الموسيقيين ذوي التأثير المتوسطي أو العربي وبين المؤسسة الشكنازيّة التي تحكمّت بكلّ المحطّات الإذاعيّة والتلفزيونية. وكانت ذروة التباعُد في عددٍ من التقارير الصحفية، مقالات الرأي، والمقابلات التلفزيونية التي أشارت إلى الموسيقى الشرقية والمغنَين الشرقيين أمثال زوهار أرجوف، شلومي شبات، وشيمي تافوري، كمغنَين “ثانويين”. في تلك الفترة لم تُسمع تقريبًا موسيقى شرقية، أو حتّى موسيقى ذات تأثيرات شرقيّة بارة في وسائل الإعلام الإسرائيلية.
قُدّمت الموسيقى الشرقية، بشكل منفصل عن الموسيقى الإسرائيلية العامة، للجمهور بعدّة طُرق. إحدى الطرق كانت الحفلات – أمسيات الغناء، وأشهرها في حيّ “كيرم هتيمنيم” (“كرم اليمنيين” – حيّ سكن فيه القادمون من اليمن). كانت الطريقة الثانية عبر نوادي المغنّين الشرقيين. أمّا الطريقة الثالثة والأشهَر فكانت محالّ بيع التسجيلات، لا سيّما تلك التي بيعت للجُموع في المحطّة المركزية القديمة في تل أبيب، حين كانت تلك المحطّة المركزية الوحيدة في المدينة. وسُرعان ما نشأ هناك ما يشبه مؤسسة موسيقى شرقية، كان يصعب اختراقُها، وكان على الفنّان الذي يريد أن يعرض “بضاعته” هناك أن يُثبت نفسه. وكانت الطريقة الرابعة قاعات الأعراس. فخلافًا لموسيقيّين إسرائيليين آخرين، لم يعنِ الظهور في حفلة عرسٍ بالنسبة للموسيقيين الشرقيين تقليلًا من الاحترام أو نهاية المشوار الفني.
ملكة الغناء الشرقي سريت حدّاد (Flash90/Olivier Fitoussi)
مع التغيير المتبلوِر في التسعينات، بدأت الموسيقى الشرقية تعود إلى لُبّ التيّار المركزي الموسيقيّ في إسرائيل. وكان فوز إيال جولان بلقب “مطرب العام” عام 1998 أبرز تعبير عن ذلك، فيما اختيرت أغنية “دمَعوت” (دموع) أغنيةَ العام. عام 1999، اختيرت سريت حداد مطربة العام. يدمِج الغناء الشرقي اليوم تأثيرات الموسيقى اليمنيّة، الموسيقى العراقية، الموسيقى اليونانيّة، الموسيقى التركيّة، الموسيقى العربيّة، الموسيقى الشمال إفريقية، الموسيقى الفرنسيّة، الموسيقى الإيطاليّة، الموسيقى القوقازيّة، البوب، الروك، وغيرها.
في 20 تموز 2003، بدأت قناة “موسيقى 24” البثّ، وأصبحت القناة الإسرائيلية الأولى التي تبثّ موسيقى إسرائيلية فقط. يمكن القول إنّ بثّ القناة دفع الموسيقى الشرقية قُدُمًا حين أضيفت للقناة مع مرور الوقت برامج حواريّة مختلفة وبرامج حيّة مثل: “منتيه” (نعنع) و”بكباييم” (على راحتَي اليد). في إطار موسم البثّ الجديد لقناة 24، أضيفت برامج أخرى مخصّصة حصرًا للموسيقى الشرقية مثل برنامج “نعود إلى الحيّ” مع الإذاعيّ المخضرَم ديدي هراري، و”مغنّي الأعراس” الذي يستعلِم عن مقبِلين على الزواج يريدون مغنيًا شرقيًّا في زفافهم.
نهاية حقبة الموسيقى الشرقية في إسرائيل ? (Flash90/Issam Rimawi)
تقدّم ملك الغناء الشرقي بلا منازع، إيال جولان، بسرعة الخيل، مُصدِرًا أغنياتٍ ناجحة، الواحدة تلو الأخرى، تصدّرت القوائم. حصدت حفلاته في البلاد والعالَم نجاحاتٍ مسبقة. فقد غنّى في حفلات زفاف، حفلات خاصّة، برامج تلفزيونيّة، مراسيم، في كل حدب وصوب في إسرائيل، على متن السُّفن وقوارب اللهو، وخارج البلاد أيضًا. وكان الإنجاز الأخير، إلى جانب المبيعات اللامتناهية لألبوماته، برنامج واقع موسيقيًّا في وقت الذروة على القناة الثانية. فقد كان مدرِّبًا في “النجم القادم”.
لكن يبدو أنّ النجاح أفرز شهوة غير سليمة. ففي الأيام الأخيرة، يضجّ الجهاز الإعلامي في البلاد حول فضيحة جنس ومخدِّرات يُتَّهَم فيها المطرب، والده، وعدد من المُغنِّين الآخرين. فهل ولّت حقبةٌ؟ كيف ستؤثر الفضيحة في الموسيقى الشرقية في إسرائيل، نجاحها، وكثيرين يرَون فيها كنزًا أتاح تقدّم المجتمع الإسرائيلي الحديث؟
النجم الأكثر جماهيريّة اليوم هو عومر آدم (Flash 90/ Jorge Novominsky)
من المبكر، بل المبكر جدًّا، معرفة كيف ستنتهي القضية الحاليّة، إذا كان جولان سيُدان أصلًا بأمرٍ ما، بماذا سيُدان، وماذا سيكون مصيره. لكنّ سيكون على جميع الذين ينعون مسيرته الفنية ويسرّهم رؤيته مقهورًا وذليلًا أن ينتظروا في الوقت الراهن. فمسيرة إيال جولان الفنية لم يُحكَم عليها بالفشل. إنها بعيدة عن ذلك. فقد نجح جدًّا في السنوات الماضية، بحيث إنه لو هبط بشكلٍ ما، فسيبقى ناجحًا أكثر من معظم فنّاني البلاد. في مكانٍ ما، يمكن أن يحوّل التوقّف الحاليّ لمسيرته، صورة الظافر المرتبطة به إلى بشريةٍ أكثر، ومبرمَجةٍ أقلّ. فجولان، الذي أضحى في السنوات الأخيرة آلةً مسمَّنة، صناعةً بحدّ ذاتها، يظهر اليوم إنسانًا بضعفات بشريّة، ما يحوّل قصّته إلى طبيعية أكثر، بعد النجاح الفائق تقريبًا بالمفاهيم المحلّية.
المطرب إيال جولان (Flash90/Nati Shohat)
في الجانب الموسيقيّ، وضع جولان جيّد، ربّما بسبب الواقع البسيط أنّ جولان يقف أوّلًا أمام جمهوره. ويجري الحديث عن جمهور وليّ يتابعه منذ سنوات، “يستهلكه” بشهيّة، وعلم منذ وقت أنّه نجم بشريّ ذو فضائل ورذائل، لا ملاك. فقد ارتبطت باسم جولان حتّى الآن عدّة فضائح مقامرات وتهرُّب من الضرائب، فضلًا عن خيانة زوجته. وكثيرون من المعنيّين بالثرثرة حوله عرفوا أيضًا أنّ لديه اهتماماتٍ بنساء كثيرات، بينهنّ صغيرات نسبيًّا. حتّى الآن، غفر الجمهورُ لجولان كلّ شيء، واستمرّ يحبّه، يشتري ألبوماته وبطاقات حفلاته، ويُعجَب بالشخصية التي أصبحت أكبر فأكبر.
http://www.youtube.com/watch?v=abUy8Bu6CMo
إذا كان قد جرى التسبُّب بأذى للموسيقى الشرقية في أعقاب الفضائح المخزية المختلفة، فإنها أضرار طفيفة لن تؤثّر كما يبدو في استمراريّة تشكُّلها. فالموسيقى الغربية الحديثة في إسرائيل والعالَم عرفت أيضًا فضائح، مرتفَعات، ومنخفَضات. وهذا ما حوّل هذه الصناعة إلى بشرية، وجعل ملايين البشر يلتصقون بها، إذ يواصلون الشرب بشهية من ينبوعها الذي يتعكَّر بين الفينة والأخرى.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني