“التطرف اليوم, فيه تطرف اسلامي وفيه تطرف صهيوني ايضا […] اذا نحن اليوم, كدولة اردنية, بالتعاون مع تحالف عربي-اسلامي, بدنا نحارب التطرف اللي عم بصير داخل الاسلام, والاسرائيليين كل خمس دقايق بدهم يذبحو اولادنا بغزة والقدس, مشكلة”.
هذه الأقوال، أدلى بها عبد الله ملك الأردن الأسبوع الماضي، خلال لقاء مع إحدى أحزاب البرلمان. تمت في وسائل الإعلام الإسرائيلية تغطية التصريحات تغطية خفيفة، وعلى ما يبدو فقد عضت جهات إسرائيلية أناملها كي لا ترد. لم يتخطّ السفير الإسرائيلي في عمان حدود التوضيح المقبول في إسرائيل رسميا وفي الإعلام الإسرائيلي في حالات متشابهة: الحديث عن ضريبة كلامية يدفعها الملك للرأي العام محليا وعربيا المعترض على اتفاق السلام، ومن ضمن ذلك بسبب العنف في الأراضي المحتلة، وخاصة في غزة والقدس، التي تبث في القنوات الفضائية العربية. الرأي العام لا يدرك مدى التعاون بين إسرائيل وبين الأردن، الذي ما زال جارنا الأفضل، كما يقول السفير.
عمليًّا، خضعت إسرائيل بلا قتال لواقع فرضته عليها الأردن. في السنوات الأخيرة بعد توقيع اتفاق السلام سادت إسرائيل مشاعر مختلطة فيما يتعلق بالتعاون مع الأردن. لقد كانت الصفقة واضحة: توقعت الأردن من إسرائيل التعاون معها في مجالات كثيرة ومتنوعة ما دامت إسرائيل تحافظ على طيب العلاقات سريا، من خلال إدراك صعوبات النظام في الرأي العام. كل محاولة إسرائيلية لكسر هذه المعادَلة وإظهار ثمرات السلام على الملأ يجابهها غضب أردنيّ في أفضل الأحوال وبتجميد التعاون في الحالة الأسوأ، مثلما يقال: “خود صوفك وخروفك وعين ما تشوفك”. تعرضت معاهدة السلام لخَطَر حقيقي بعد محاولة اغتيال خالد مشعل سنة 1997، وبعد سنوات معدودة خلالَ الانتفاضة الثانية، حين تجمدت العلاقات كليا تقريبًا بين الحكومتين.
إيتسحاق رابين، العاهل الأردني الملك حسين والرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في حفل توقيع اتفاقيات السلام (Nati ShohatFlash90)
منذ ذلك يبدو أن إسرائيل قد اتخذت قرارًا استراتيجيًّا: حني رأسها كحزمة القصب وتمتين علاقاتها مع الأردن، الذي كان وما زال الجانب العسكري الأمني من ناحيتها الأهم لإسرائيل، مقابل تبني الإملاءات الأردنية بخصوص السرية. هكذا تنازلت إسرائيل عن فرصة نادرة، وربما كانت الوحيدة لها، أن تفتخر على الملأ بثمرات السلام مع دولة عربية، وبهذا تحققه، توسعه وتعمقه.
يمكن بذلك، حقًا، رؤية واقعية إسرائيلية تنبع من فهم تعقيد ظروف شريكها العربي. يمكن بذلك، حقًا، رؤية قرار ينبع من استعداد إسرائيل التضحية باحتمال تطور علاقات مدنية بينها وبين الأردن لصالح تطوير العلاقات الأمنية معها. لكن نشأت بين إسرائيل وبين الأردن، علاقات أمنية كثيرة قبل اتفاق السلام بمدة مديدة، وستبقى وإن زال- لا سمح الله، لأن حالة تكاثف المصالح الأمنية بين الحكومتين لدولتين جارتين لا يتعلق بالسلام بل يمكن أن يتم من غير سلام. في الواقع، يتم ذلك بين إسرائيل و حماس وإلى حد ما حتى بين إسرائيل وسوريا، حزب الله وإيران.
هكذا تنازلت إسرائيل، سواء أكان بسبب سياسية الواقع أو من خلال خضوع مؤسف، على إنشاء تعاونها مع الأردن بحسب مبدأ “سلام غير معلن على الملأ، كأنه لم يكن”. كان لإسرائيل أن تتوقع استعراضًا أردنيّا شاملا للتعاون بين كلا الدولتين، على الأقل من نواحيه المدنية والاقتصادية، من خلال إدراك أن الأمر قد يضع صعوبات معينة على عاتق الحكومة لكنه سيساهم في تعويد المواطِنين على المرحلة الجديدة. لقد تنازلت إسرائيل عن هذه الورقة المهمة، وشهدت بأم عينيها مسؤولين أردنيّين، وأحيانا حتى على مستوى الملك نفسه، يتهربون من الإجابة- أو حتى إثارة نقاش- عن المعلومات التي تتعلق بالتعاون مع إسرائيل، يتملصون وينكرون بقصص ألف ليلة وليلة، وأحيانا يضربون إسرائيل بيد واحدة، وفي اليد الأخرى يعقدون صفقات سرية. إن من يدفع ثمن هذه المهزلة اليوم مع فائدة مضاعفة هي إسرائيل نفسها، والأردن، وطبعًا اتفاق السلام نفسه، الذي صار من عدة نواح خاليًّا من أي مضمون.
الملك حسين ملك الأردن الراحل ورئيس الوزراء الراحل اسحاق رابين (ويكيبيديا)
لا أبرّئ إسرائيل من المسؤولية لتفريغ اتفاق السلام من مضمونه مع الأردن. لم تكن إسرائيل مستعدة لسلام حقيقي مع الدول العربيّة، ومن ضمنها السلام مع الأردن، ولم تعمل اسرائيل على الأقل منذ 1996 من أجل هذا الاتفاق بجدية ومن خلال مفهوم مدني شامل. لا يناقض ذلك الحقيقة في أن الأردن لم يكن مستعدًا لفترة سلام مع إسرائيل بنفس المستوى. التفسير الفلسطيني صحيح، لكنه جزئي. أعتقد أن الفرق بين الملك عبد الله، الذي كان من المفروض أن يمتن اتفاق السلام مع إسرائيل، وبين أبيه الراحل، الذي أسس بنية هذا الاتفاق وفي النهاية أحياه، يكمن في أساس الفشل الأردنيّ.
قبل سنوات من موته، حين أٌتخم من الحروب وتعلم الصراعات السياسية العصيبة، ألقى الملك حسين أحد خطاباته الشهيرة. لقد تحدث كالعادة، بلغة إنسانية، مؤثرة وقوية. لم يعد لديه ما يخفيه، وقد طلب من المستمعين له أن يفهموا أيضًا إسرائيل: دولة ما بعد الكارثة التي أقيمت على أنقاض الهولوكوست ومر شعبها بمخاوف متواصلة من الإبادة والتدمير. لا يضر من ناحيتنا، قال، إن حاولنا أيضًا فهم الجانب الآخر. في حوار عربي مشبع، حتى يومنا هذا، بتفهم للجانب العربي فقط، كانت أقوال الملك حسين وبقيت نافذة نور. في نفس الفترة تقريبًا نقل الملك لإسرائيل تعويضًا بمليون دولار لعائلات الفتيات اللواتي قتلن على يد الجندي الأردنيّ أحمد الدقامسة في نهرايم. وهذا بعد أن وصل للتعزية وجثا على ركبتيه أمام الأهالي الثكالى المصدومين. لم يأبه بالانتقاد العام الشديد في بلاده بأنه قد أهان نفسه أمام اليهود: لقد كان أكبر من ذلك. ككل قائد، كان ينكسر أحيانا ويخطئ أحيانا، لكنه عرف كيف يظهر الشجاعة- أحيانا أمام شعبه، وأحيانا أمام الآخرين؛ أحيانا بصدام مع إسرائيل، وأحيانا بالامتناع عن الصدام معها؛ وأحيانا بعلاقات السلام مع إسرائيل. لقد كان الملك حسين ملكا عربيا.
ابنه عبد الله، بالمُقابل، ملك غربي. يسهّل ذلك الأمرَ على إسرائيل والغرب التفاوض معه، لكنه يقيّد الملك أيضًا في علاقاته مع شعبه وقدراته، بل وفي شرعيته، وفي أن يكون صريحًا في تصريحاته العلنية. فضلًا عن ذلك، لم يحارب إسرائيل، ولذا من المحتمل أنه يستصعب لذلك صنع سلام معها. منذ سنواته الأولى في المنصب، كان جليًّا أن تعامله مع إنهاء النزاع كان كإزالة عقبة كؤود تسدّ الطريق أمام مستقبل اقتصادي وأفق اجتماعي أجودَ في المنطقة. “لقد سئم الناس تاريخ النزاعات”، ادعى مرة بعد أخرى، وتوقع “انتعاشا في المنطقة، منظورا جديدا للحكم على الأمور”. لقد أظهر حقًا شجاعة عامة نادرة، عندما ادعى مثلا أن على العالَم العربي أن يكون مستعدا لطرح ضمان جماعي لأمن دولة إسرائيل واندماجها في الشرق الأوسط مقابل إقامة دولة فلسطينية، لكنه وصل لزيارة إسرائيل مرة واحدة ووحيدة، بصورة شبه صامتة، في منطقة إيلات. منذ اندلاع الانتفاضة الثانية قام برفع حدة انتقاده العلني حيال إسرائيل، ومع أنها قد هدأت منذ ذاك الحين، قام بالتوقف عن التحدث غاضبا على إسرائيل. على خلفية ذلك، إن تفاخر إسرائيل بتمتين العلاقات الاستراتيجية مع الأردن تفاخر فارغ المضمون. لا صلة قرابة بينها وبين السلام.
رئيس الوزراء نتنياهو يجتمع مع العاهل الأردني الملك عبد الله (Flash90/Avi Ohayon)
فيما يظهر للجميع بأن العلاقات مع إسرائيل تتمتن، بل وفي المعارضة – وحتى المعارضة الاسلامية – وُجد تفهم معين لحسنات التعاوُن مع إسرائيل في عصر انهيار الأمن الشخصي في الدول العربية (وأحيانا انهيار الدولة ذاتها)، وبينما الملك نفسه يقوم بإبداء البرود نحو إسرائيل كمن أُكره على العلاقات: ما هو الاحتمال في أن يتحول السلام إلى أخوة بين الشعوب لا صفقات سرية بين الحكومات فحسب؟
على الحقيقة أن تذكر: ليست إسرائيل فقط هي من يكتفي بالتعاون العسكري الأمني مع الأردن، والأردن أيضًا يكتفي بالتعاون العسكري الأمني مع إسرائيل. للنخبة في كلا الدولتين لا مصلحة في تهيئة المواطنين لعصر السلام المدني، مع أو بلا علاقة بالقضية الفلسطينية. هذه العلاقات لا تُسمى سلاما، وبالتأكيد ليس سلام الشجعان. بل يسمونها تعاونا بين جبناء.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني