إنها ساعة متأخّرة من الليل. أحاوِل النوم من جديد، ولكن عبَثًا. نومي متقطِّع حتّى في الأيّام العاديّة، لكن اليوم تحديدًا، لم تدعني أصداء المقابلة التي أجريتُها هذا اليوم أعرف الراحة. فقد أجريتُ محادثة لمدّة ساعة تقريبًا مع د. فهد حكيم، الاختصاصيّ في طبّ الأطفال والرئتَين في مستشفى رمبام في حيفا، الذي تفرّغ في السنوات الماضية لدراسة النوم. لقد تركني مع عددٍ لا يُحصى من الأفكار والتساؤُلات. فاستنتاجاته – هو وطاقم الباحثين الذين يعمل معهم – ليست أقلّ من مزلزِلة، على مستوى عالميّ، إذ تكشف النقاب عن عالم مذهل وغامض، رغم المكانة المركزيّة التي يحتلّها في روتيننا اليوميّ. وبعدُ أن أيقنتُ أنني لن أعود إلى عالَم الأحلام، فتحتُ حاسوبي النقّال لأشرع في تحرير المقابلة. إليكم أبرز ما جاء في تلك المحادثة المثيرة، التي آمل أن تعود عليكم بالفائدة.
دكتور فهد حكيم
قبل أن نطرق باب العِلم ونغوص في التفاصيل، يسرّني أن تروي لي قليلًا عن نفسك، من أجل جمهور قرّائنا المتنوِّع. من أينَ أتيت، وماذا مرّ عليك حتّى الآن؟
اسمي فهد. وُلدتُ في الناصرة، نشأتُ في المدينة، ولا أزال أقطن فيها. درستُ في مدرسة ثانويّة في الناصرة، ولاحقًا في مدرسة العلوم والفُنون في القدس. حصلتُ على لقبٍ في الطبّ من الجامعة العبرية في القدس، وتعرفتُ خلال دراستي على زوجتي، رانية، التي كانت في ذروة دراسة طب الأسنان، وتعمل اليوم في هذا المجال في الناصرة. لدينا طفلان، عمرهما 7 أعوام و11 عامًا، نقوم بتربيتهما بسعادة.
مع انتهاء دراستي، قمتُ بالتدرُّب في مستشفى رمبام في حيفا، كما أجريتُ اختصاصي الأول هناك، في طبّ الأطفال. قمتُ بالتخصُّص ثانيةً في المستشفى، في طبّ الرئتَين لدى الأطفال، بإرشاد البروفسورة ليئة بن طوف. بعد ذلك، سافرتُ إلى جامعة شيكاغو في الولايات المتحدة، حيث أجريتُ استكمالًا في طبّ النوم لدى البروفسور دافيد غوزال، وهذا هو اختصاصي الثالث. إنّه أحد أكبر المختبَرات في هذا المجال. عُدنا مِن هناك قبل سنة، وهذا هو الاتّجاه الذي أعتزم التركيز عليه حاليًّا، بالتعاوُن مع البروفسورة آسيا رولز، ومختبر دراسة النوم في كليّة الطبّ في التخنيون (حيفا). بالطبع، هذا إلى جانب عملي كطبيب أطفال عامّةً، وطبيب رئتَين للأطفال على وجه الخُصوص.
هل ثمّة أشخاص آخَرون يعملون في الطبّ في الأُسرة؟
في عائلة زوجتي الكثير من الأطبّاء. أمّا في عائلتي، فشقيقتي درست العلاج الطبيعي. سأَلوني مرّة في مُقابلة في الدراسة في القدس لمَ أردتُ أن أكون طبيبًا، فأجبتُ بأنّ لديّ العائلة المناسِبة…
العالم يقف أمام إعصار من السرطان (AFP)
أخبِرنا من فضلك عن عمليّة البحث التي أجريتُموها. كيف بدأتم بدراسة العلاقة بين النوم والسرطان؟
كانت نقطة الاستهلال أننا نقضي نحو ثلث عمرنا نائمين، ولا شكّ أنّ لذلك تأثيرًا حاسمًا ليس في الليل فحسب، بل أيضًا في النهار التالي، وفي الحياة بشكلٍ عامّ. في السنوات الماضية، بدأ تقدّم علميّ ملحوظ، ونُشرت دراسات كثيرة تربط بين جودة النوم ومقداره وبين أمراضٍ مختلِفة، مثل ضغط الدم المرتفع، الداء السكري، والسمنة المفرطة. ما بدأنا نفعله في شيكاغو هو فحص معايير في عِلم انتشار الأمراض (إحصاءات من دراسات أخرى)، مثل الممرّضات اللاتي يعملنَ ليلًا، وطرأ لديهنّ ارتفاع في احتمال الإصابة بسرطان الثدي.
سألنا أنفسنا إن كانت هناك صلة حقيقية، لا ظرفية فقط، ولمَ يحدث ذلك؟ قرّرنا التركيز على الظاهرة التي يعاني منها الأشخاص المعافون والمرضى على حدٍّ سواء، تقطُّع النوم – الأرق خلال النوم في الليل. لا يترافق التوقّف بالضرورة مع انخفاض في نسب الأكسجين أو انقطاع التنفُّس، كما يحدث في انقطاع النفَس النوميّ. فيمكن أن يكون ذلك مرتبطًا بعدّة أسباب: الهواء الذي نتنشّقه، الضجيج الخارجيّ، أو وُجود هاتف خلوي نستخدمه خلال الليل للمحادثات وإرسال الرسائل. إنها مشكلة الحياة المعاصرة. فمنذ ابتكر أديسون المصباح الكهربائي لا ننام كما في الماضي. فقد كان الناس يُطفئون النور ويخلدون إلى النوم. أمّا اليوم، فلا أحد ينام في السابعة مساءً، ولا يكاد أحد ينام نومًا متواصلًا. فكلّ الوقت هناك إزعاجات – من الجيران، الأطفال، الأصوات من الشارع، الطائرات التي تحلّق في الجوّ، والقطارات التي تعدو على السكك الحديدية. ينبع جزءٌ من مشاكل الشيخوخة من التقطُّع في النوم. ليس هذا مرضًا، بل ظاهرة موسَّعة.
بعد أن حصلتُم على تأكيد أولي من الدراسة الإحصائية، كيف قررتم أن تواصلوا المرحلة العمليّة؟
لا يمكن إجراء التجارب التي أثارت اهتمامَنا على البشر. ثمة دراسات، ولكنها تتحدث عن ارتباط، ولا تعطي إيضاحًا. للتقدُّم والفهم، علينا أن “نُسبّب” تكوّن سرطان لدى الذين نجري التجارب عليهم، لذا أخذنا فئران مختبَر.
قسمنا الفئران إلى مجموعتَين. قطّعنا نوم المجموعة الأولى كلّ ليلة، فلم نتِح لها النوم. أيقظناهم كلّ دقيقتَين، بملامستهم بشكلٍ خفيف. كان في القفص عنصر أيقظهم دون الحاجة إلى تدخُّلنا. أمّا المجموعة الثانية فقد أتحنا لها النوم كالمُعتاد. بعد أسبوع، حقنّا للمجموعتَين خلايا سرطانية، بنفس المقدار، وفي نفس المكان. وواصلنا إقلاق راحة المجموعة الأولى في النوم، دون الثانية.
الخلايا السرطانية تضعف الجهاز المناعي للإنسان (Thnikstock)
بعد أربعة أسابيع – فترة طويلة في حياة الفأر – رأينا، لدهشتنا، أنّ الورَم لدى ذوي النوم المتقطِّع أكبر بضعفَين من حيث الحجم والوزن من الذين حظوا بنومٍ منتظم. يعني ذلك أنّ النوم المتقطِّع أدّى إلى تسارع نموّ السرطان وازدياد حجمه. من نفس مقدار الخلايا السرطانية التي حُقنت لفئرانٍ مشابهة، أكلت نفس الطعام، وعاشت في نفس الظروف طوال اليوم، حصلنا على ورَم ذي حجم مضاعَف. كلّ ما فعلناه كان إيقاظهم كلّ دقيقتَين.
أفهم أنّ الدراسة قادت إلى استنتاجات غير متوقّعة، وربّما أكثر أهميّة.
بالفعل. لم يكُن الورَم لدى الفئران ذات النوم المتقطِّع أكبر فحسب. فإذا كان قد نما ورم عاديّ لدى المجموعة التي نامت كما يجب، أشبه بـ “كبسولة” ذات جوانب واضحة، فإنّ الورم الذي نما لدى ذوي النوم المتقطِّع كان أكثر نفاذًا، بمعنى أنه اجتاز حدود الكبسولة، ونفذ إلى النسيج العضلي ونسيج العظام المجاوِر. يعني ذلك أنّ تقطُّع النوم لا يسرِّع النموّ فحسب، بل يحوّله إلى فتّاك أكثر أيضًا. من ناحية علميّة، كان ذلك “قنبلة”.
تساءلنا: لماذا؟ ما الذي يسبّب هذه الظاهرة؟ وجدنا أنّ جهازنا المناعيّ، المؤتمَن على الوقاية من الخلايا الغازِية (الجراثيم والفيروسات)، عمل بشكلٍ مختلف كلّيًّا عمّا هو متوقَّع. فبدل القضاء على الخلايا السرطانية، أضحت البالعات الكبيرة “جنودًا سيّئين”. فقد ساعدت الورَم على غزو فراغات داخل جسم الفأر، ما ساهم في انتشار السرطان. ثمّة نوعان من البالِعات: M1 و M2. الأولى هي خلايا التهابيّة، تساعد على القضاء على ما يهدِّد الجسم، أمّا الثانية فهي خلايا مضادّة للالتهاب، تضرب الجسم وتساعد الخلايا السرطانيّة على النموّ. لاحّظنا أن النوم المتقطِّع يجعل قسمًا كبيرًا من خلايا M1 يتحوّل إلى M2. كنتُ أتوقّع أن يرغب الجسم في جنود يعملون ضدّ الورم، لكنّ اضطرابات النوم تُضعف الجهاز المناعيّ، وتشوّش عمله. وهذا وضع مثير للقلق.
أية أصداء أثارتها الدراسة والاستنتاجات؟
إنها المرة الأولى التي يدرس فيها أحدٌ هذا الموضوعَ في العالم. ثمة الكثير من الباحثين في مجال النوم والكثير من الباحثين في مجال السرطان، لكنّها المرة الأولى التي تُدرَس فيها هذه العلاقة. لذلك، جرى نشر ذلك، ولاقى أصداءً كبيرة. في الشهرَين الماضيَين، أتحدث عن هذا كلّ الوقت. لا يمرّ يوم دون مُقابَلة: في الولايات المتحدة، الهند، باكستان، الصين، اليابان، كندا، إنجلترا، ودُبَي – في العالم كلّه. نُشر البحث في Cancer Research، مجلّة مرموقة جدًّا، كما ذُكرت الدراسة في مجلّة Nature.
إلى أين تواصل الدراسة إذًا؟
دكتور فهد حكيم: “انصح الجميع بممارسة عادات النوم السليمة لتجنب عواقبها”
ثمة الكثير من الأسئلة التي لا تزال دون إجابة بعد. حتّى الآن، درسْنا انتشار السرطان. لم نفحص إذا كان يمكن أن يبدأ السرطان جرّاء النوم المتقطِّع، أم إنه ينتشر فقط جرّاء ذلك. أمّا الأمر الآخَر فهو أننا لم نكتشف هل النوم المتقطِّع مرتبط بالتوابع التي تصل إلى جميع أنحاء الجِسم. نواصل العمل على ذلك في المختبَر، في إطار تعاوُن ثلاثيّ بين مستشفى رمبام، كليّة الطبّ في التخنيون، وجامعة شيكاغو. هذه أمور هامّة حقُّا. أقول دائمًا إنه يجدر التفكير في النوم. إنه ليس مجرّد أمرٍ دون أهمية يجري ليلًا، فهو يؤثّر في حياتنا، وبشكل ملحوظ.
لم نصِل بعد إلى القسم العلميّ ذي العُصارة الأكبر. وجدنا التقنيّة الجزيئية التي توضح لمَ يحدث ذلك، وكيف تتغيَّر البالعات الكبيرة من خلايا تعين الجسم إلى خلايا تساعد على انتشار السرطان. فتَح هذا الاكتشاف الجديد نافذة جديدة لعلاج السرطان. صحيحٌ أننا درسْنا العلاقة بين النوم والسرطان، لكننا اكتشفنا في الطريق تقنيّات لم تُستخدَم في العلاج حتّى الآن. يجب الاستمرار في دراسة هذه الجزيئات، والفحص إن كان يمكن عبر التلاعب الجزيئي التقليل من احتمالات انتشار – أو تكوُّن – السرطان حتّى لدى الأشخاص الذين لا يُعانون من مشاكل في النوم.
هذا ما أريد فعله حاليًّا. والهدف هو تطوير علاج ودواء. الهدف الأوّل هو تحسين صحّة النوم، والثاني هو محاولة تطوير علاج محدَّد أكثر عبر هذه التقنية، لمحاولة إيجاد مقارَبة علاجيّة جديدة للسرطان. إنها طريقة غير معروفة، تقنيّة مختلفة، وقد فتحت أعيُن الكثيرين في أرجاء العالم.
ماذا تنصح القرّاء القلِقين أن يفعلوا لتحسين نومهم؟
حاولوا عند النوم إطفاء الحاسوب، عدم النوم أمام التلفزيون، وقراءة كتاب قبل النوم (Thinkstock)
ثمة أشخاص سألوني إذا كان يجدُر بهم تناول حبوب للنوم، فقلتُ لهم إنه يجب التفكير في ذلك ونيل استشارة. لكنّ أمورًا بسيطة تكفي أحيانًا، مثل إطفاء الحاسوب، عدم النوم أمام التلفزيون، وقراءة كتاب قبل النوم. هذه أخطاء نرتكبها منذ سنوات دون أن نشعُر. قبل بضعة أيّام، كان لديّ شابّ معياريّ في الرابعة والثلاثين من عُمره. في 6 ساعات من النوم كان لديه ما لا يقلّ عن 571 انقطاعًا في النوم. نظرتُ إلى ذلك، وقلتُ: “ماذا؟”. فقال إنّ ذلك يحدُث منذ سنوات. نحن مضطرّون إلى التفكير في ذلك. ليس النوم أمرًا قليل الأهمية، ونحن نفسده كلّ الوقت.
على ضوء النتائج، يُطرَح السؤال: هل اختبرَت أنتَ نفسك تحسُّنًا في النوم؟
(ضاحكًا): هذه الدراسة تقلق نومي، كلّ الانشغال بهذا المجال. أنا أيضًا أبٌ لولدَين، أفكّر فيهما كلّ الوقت. هذا ليس بسيطًا مطلقًا. أحاول النوم أفضل، والاهتمام بـ “عادات نوم” أفضل. عليّ أن أعترف أنني حتّى طرقي هذا المجال، لم أفكّر أنّ هذا يؤثر في الحياة إلى هذا الحدّ. لكنّنا نتحدث عن ثلث حياتنا! ليس ثمة أمر آخَر نفعله كلّ هذا الوقت، وطيلة حياتنا. النوم المتواصل هو أمر علينا فعله كلّ يوم. إذا كنتَ تفعل ذلك بشكل غير صحيح، فقد تقوم صباحًا وتظنّ أنّ الأمر انقضى، لكنه لم ينقضِ. فهذا سيرافقك اليومَ بطوله، ولديه تأثير أيضًا في المدى الطويل.
ما الذي يحفزك؟ إلى أين تطمح إلى الوصول بهذه الدراسة؟
أشعر بالإرساليّة، فهذه أمور هامّة. لكن من المهمّ القول إنّ هذا البحث هو مجرّد الفصل الأوّل. ورغم أنه فتح الكثير من العيون والآذان، فإنه مقدمة الكتاب لا أكثر. النوم هو أحد الأمور الأكثر تأثيرًا في الحياة، وهو متعلّق بحياتنا جميعًا، دون أيّ استثناء. إنها دراسة أساسيّة تتعلّق ببلايين الناس، وتتيح تغيير التفكير العالميّ – إنّه لحلمٌ كبير.
شكرًا جزيلًا لك على هذه المقابلة المنيرة، مع التمنيات لك بالنجاح الباهر في أبحاثك!
شكرًا لك أنت أيضًا، وللقرّاء الذين قرأوا المقالة كلّها، بالطبع.
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني