مع قيادة أبو بكر البغدادي، أصبحت “داعش” تنظيم الجهاد الأكثر تهديدا في العالم. من بين أمور أخرى، فقد سجّل لصالحه فتوحات واسعة في سوريا والعراق، كان يستعبد مئات الآلاف ويفخر بالإعدامات العلنية.

حاولت هيئات تحرير الأخبار والصحفيون الكبار تعقّب الرجل وفهم ماذا كان سرّ سحر الرجل الذي هزم العديد من قادة القاعدة وسحَر قادة محلّيّين في العراق وسوريا وأصبح في وقت قصير نسبيا الرجل الذي يكتب عنه كل العالم ويغطّي أنشطة تنظيمه الإجرامية. حتى أنّ بعض الصحفيين ذهب إلى مسقط رأسه، حي الطوبجي، الواقع شمال غرب بغداد، وآخرون أجروا ببساطة مقابلات مع أصدقائه، معارفه وحتى مع الناس الذين كانوا معه في السجن عندما كان معتقلا. تسلّط كل هذه المقابلات والتغطيات الإعلامية القليل من الضوء على إقامة “الدولة الإسلامية” وعلى صعود البغدادي الكبير.

دون سجن بوكا، لم تكن لتُولد داعش

سجن بوكا في العراق (AFP)
سجن بوكا في العراق (AFP)

في صيف عام 2004، اعتقل الجيش الأمريكي المئات من نشطاء الجهاد في العراق. نشطاء رأوا في غزو الولايات المتحدة وتفكيكها للعراق كما عرفوا حتى ذلك الوقت سببا كافيا بشكل جيّد من أجل الإعلان عن الحرب المقدّسة ضدّ الكفار بل وضدّ النظام الجديد الذي تم إملاؤه، النظام الذي سيقوده الشيعة في العراق في سنين لاحقة على حساب رفاهية أهل السنة. تم أخذ معظم هؤلاء الأسرى إلى معسكر الاعتقال بوكا جنوب البلاد. قال شهود عيان ممّن عرفوا والتقوا بالبغدادي في السجن إنّ كلّ الأسرى في بوكا كانوا أمنيين وكانوا جميعهم على مقربة من قيادة القاعدة، التي شاركت هي أيضًا في الحرب ضدّ الأمريكيين. تم جلب الكثير من المعتقلين من قبل القوات الأمريكية إلى هذا الحصن المنعزل في قلب الصحراء، وهم من أصبحوا على مرّ السنين قادة تنظيم “الدولة الإسلامية”.

https://www.youtube.com/watch?v=OVw4jtXMw-M

التقى في بوكا الكثير من الأسرى، الذين أصبحوا أصدقاءه وجنوده لاحقا، أبو بكر البغدادي الذي سيصبح مستقبلا الخليفة الأول للخلافة الإسلامية التي سيتم إعلانها على أراض واسعة بين العراق وسوريا. وصفه الأسرى عن أنه منعزل، ولكن السجانين رأوا فيه عنصر اعتدال في بيئة معسكر الاعتقال. اعتقل الجيش الأمريكي أبو بكر البغدادي في شباط 2004 في الفلوجة، مركز قتال القوات السنية ضدّ الأمريكيين، وهو في سنّ الثالثة والثلاثين.

مقاتلو داعش (لقطة شاشة)
مقاتلو داعش (لقطة شاشة)

شهد الكثيرون أنّ “البغدادي كان رجلا هادئا، ولكن لديه كاريزما. القدرة على الشعور بأنه شخص مهم، ولكن كان هناك من كانوا أكثر أهمية. وفي الحقيقة، لم نعتقد أنّه سيصل إلى هذا الحدّ البعيد جدا”.‎ ‎مع الوقت، في كل مرة كانت هناك مشكلة في المعسكر، كان هو في مركزها. كان يريد أن يصبح زعيم السجن، استخدم سياسة “فرّق تسد” من أجل تحصيل ما أراد، المكانة. وقد نجح ذلك”.

أسامة بن لادن (AFP)
أسامة بن لادن (AFP)

كتب أحد الكبار في صحيفة الغارديان البريطانية في شهر كانون الأول 2014 على لسان أحد الأسرى ممّن سيصبح لاحقا الساعد الأيمن للبغدادي بأنّه في كانون الأول 2004، قدّر السجّانون أنّ البغدادي لم يعد يشكّل خطرا، وتم إطلاق سراحه. “أبدى الجيش الأمريكي احتراما كبيرا جدّا تجاهه. وعلى مدى تلك الفترة كلها، قاد استراتيجية جديدة تحت أنوفهم وهي: إقامة الدولة الإسلامية. لو لم يكن هناك سجن أمريكي في العراق، لم تكن داعش موجودة الآن. كان بوكا مصنعا. لقد بنانا كلّنا”، كما قال العنصر الذي عرّف عن نفسه أمام المراسل بأنّه أبو أحمد.

تنظيم الدولة الاسلامية يعرض 21 اسيرا كرديا في اقفاص بشمال العراق (لقطة شاشة)
تنظيم الدولة الاسلامية يعرض 21 اسيرا كرديا في اقفاص بشمال العراق (لقطة شاشة)

عندما تم اعتقال البغدادي، اكتسبت الانتفاضة السنّية ضدّ الأمريكيين في أنحاء العراق زخما في وسط البلاد وغربها. كان يترأس وقتذاك تنظيما صغيرًا وغير معروف نسبيا، “جيش أهل السنة والجماعة”، الذي كان واحدا فقط من بين عشرات التنظيمات السنّية، التي تجمّعت في النهاية تحت لواء تنظيم “القاعدة في العراق”، الذي أصبح فيما بعد الدولة الإسلامية في العراق. رغم ذلك، وجد البغدادي وسيلة لتمييز نفسه عن بقية الزعماء في بوكا؛ فقد ادعى أنّ لديه صلة عائلية مباشرة بأحفاد النبي محمد.

“بعد السجن فورا عدنا للقيام بما كنّا نفعله قبل ذلك”‎ ‎

أبو بكر البغدادي (AFP)
أبو بكر البغدادي (AFP)

عاد مقاتلو الجهاد الذين اعتُقلوا لسنوات من قبل الحكومة العراقية أو الجيش الأمريكي وبعد نهاية فترة سجنهم تم إطلاق سراحهم، ليفعلوا تماما ما كانوا يعرفون القيام به جيّدا، أي العودة إلى العمل الجهادي. وفقا لتقديرات الحكومة العراقية، فإنّ 17 من بين أكثر 25 قائدا مطلوبا من الدولة الإسلامية في العراق والشام كانوا في سجون أمريكية بين عاميّ 2004 – 2011.

“قلّلت أمريكا من مسؤوليّتها عن صعود البغدادي”

سجناء معتقل بوكا (AFP)
سجناء معتقل بوكا (AFP)

عام 2006 تولّى أبو بكر البغدادي منصب مبعوث أبو عمر، زعيم التنظيم حينذاك. أصبح الرجل الأكثر قربا منه. بل أحيانا كتب البغدادي الرسائل التي أرسِلت إلى أسامة بن لادن. وعندما قُتل أبو عمر (في عملية أمريكية عام 2010)، تم تعيين أبو بكر قائدا. لقد نجح بنفسه في التقدّم بشكل جيّد جدّا في التسلسل الهرمي الداخلي للتنظيم بفضل سحره الشخصي وذكائه.

مقاتلو داعش (Facebook)
مقاتلو داعش (Facebook)

أما الفجوة التي أعقبت وفاة أبو عمر ونائبه، أبو أيوب المصري، فقد ملأها سريعا عناصر كانوا مع البغدادي في بوكا. ومع اغتيال بن لادن في أيار عام 2011، أدركت القيادة الجديدة في العراق خيارا ونمطا آخر للجهاد. لم تعد هناك حاجة للجهاد ضدّ الكفار البعيدين الذين يقيمون في الولايات المتحدة والدول الغربية. كان هناك عدوّ أقرب من المسلمين السنّة “الذين أضاعوا الطريق المستقيم” (ممثّلين بحكّام الدول العربيّة) والشيعة. وعندما أصبحت الحرب الأهلية السورية جدّية وانزلقت إلى مسار الصراع ضدّ المحور الشيعيّ، لم يكن من الصعب نقل خبرة خرّيجي سجن بوكا إلى منطقة الحرب الجديدة واحتلال الأراضي من جيوش الأسد وحلفائهم من عناصر حزب الله.

اقرأوا المزيد: 788 كلمة
عرض أقل