عندما صعدتُ إلى “جبل البيت” (الحرم القدسي الشريف) برفقة مجموعة صحافيين معتمري الكيباه (ويمينيين)، استقبلتنا مجموعة كبيرة من الفتيات اللاتي كنّ يصرخنَ مرارا وتكرارا “الله أكبر”. رغم الهتاف المستفز، الذي جرى توجيهه للمجموعة بسبب المظهر اليهودي، قال أفراد المجموعة واحدهم للآخر إنهم يوافقون حتما على هذه الحقيقة. الله كبير، وهذا هو المكان الصحيح لقول ذلك. تساءلتُ: إن كان ثمة اتفاق على أكثر الأمور أهمية، لماذا رافق الجولةَ كل هذا القدر من التوتر، الذي يستمر في مرافقة العلاقات بين الطرفَين حيال هذا المكان المقدس؟
بدأنا جولتنا من باب المغاربة، المكان الوحيد الذي يُسمح الدخول منه إلى جبل البيت لغير المسلمين. بسبب حساسية المكان، وبسبب المظهر اليهودي لكثير من أفراد المجموعة، استغرق التفتيش الأمني وقتا أطول من المعتاد. بسبب منع الصلاة في الفناء نفسه، أوقف أحد الأصدقاء المجموعة هنيهةً قبل الدخول، وأنشد يصلي من سفر المزامير: “فَرِحْتُ بِٱلْقَائِلِينَ لِي: (لِنَذْهَبْ إِلَى بَيْتِ يَهْوَهَ)”، صلاة تتمنى السلام والاطمئنان لأورشليم ولكل محبيها، ولكنها تتحدث أيضا عن الارتباط اليهودي الوثيق بالمكان.
فور دخولنا، كما سبق فذكرت، وُجّهت إلينا صيحات “الله أكبر”. أحاط بالمجموعة كل الوقت أربعة شرطيين مرتدين الزي الرسمي على الأقل، وكذلك رجال الوقف ورجال شرطة متخفون. كان هدف الزيارة رؤية المكان الأقدس في الديانة اليهودية عن كثب، حيث كان بيت المقدس في الماضي، النظر إلى الآثار، والتعلم عن تاريخ المكان. شرح المتحدثون أين كان المقدس يقع، ماهية حجر الشرب – الذي يقع في مركز قبة الصخرة، والذي بدأ منه، كما يُظنّ، خلق العالم. كما وشرحوا أين كانت الأعمدة التي بناها الملك هيرودس في الفترة الرومانية، حينما كان السنهدرين (مجلس الحكماء اليهودي) يجتمع في الطرف الجنوبي من جبل البيت.
تاريخ المكان موسَع – فوفقا للاعتقاد، ليس حجرُ الشرب، الموجود في أعلى الجبل، المكان الذي ابتدأ منه خلق العالم فحسب، بل هو أيضًا المكان الذي كتّف فيه إبراهيم ابنه إسحاق (حسب المعتقدات اليهودية)، وحوله أمر الله الملك سليمان ببناء الهيكل الأول. يُدعى المكان داخل المقدس “قدس الأقداس”، حيث لم يكن يُسمح سوى لرئيس الكهنة بالدخول. كان بيتُ المقدس المكانَ الذي زاره اليهود ثلاث مرات في السنة (وصية تشبه الحج لدى المسلمين)، حيث قدموا قرابين لله. لكنّ المبنى دُمّر مرتين، فأعيد بناؤه بعد الدمار الأول، لكنه غير موجود منذ نحو ألفَي سنة. نفس الجبل، وفقا للعقيدة الإسلامية، هو مكان “المسجد الأقصى” المذكور في القرآن، وقد داس النبي محمد على الصخرة المقدسة في رحلته الليلية (الإسراء والمعراج) إلى القدس على ظهر حصانه “البراق”، حيث عرّج من هناك على السماء، ونال مباشرة من الله الحديثَ القدسي. أضحت القبة الذهبية التي ترتفع فوق الصخرة مباشرةً واحدا من أبرز الرموز في مشهد القدس، التي تعتبرها الديانات التوحيدية الثلاث مقدسة. فإلى جانب المكان، تقع كنيسة القيامة، التي صُلب المسيح فيها (مكان الصخرة التي يعتقد ان المسيح صلب عليها)، وفقًا للمعتقد المسيحي.
كان انفعال أفراد المجموعة صادقًا وحقًّا إثر مرورهم إلى جانب الأمكنة التاريخية والمقدسة، ولا شكّ لديّ أنّ كل مسلم مؤمن يشعر بالانفعال نفسه في نفس المكان بالضبط، عندما يتذكر التاريخ والأماكن المقدسة القريبة إلى قلبه. كيف تكون الأحاسيس متشابهة إلى هذه الدرجة، فيما تقبّل الطرف الآخر قليل إلى هذا الحد؟ ثمة من يقول إن هذا التفكير ساذج، لأن كل ديانة من الأديان ترى نفسها الدين السائد والأصحّ، وترى أماكنها أكثر قداسة، وأنّ هذا بالتالي صدع لا يمكن رأبه.
لكنني أرجو النظر إلى الأمور بطريقة أخرى. في يومنا هذا، فإن الوقف الإسلامي هو صاحب الكلمة الأساسية في كل ما يتعلق بالحرم القدسي الشرقي ، الذي ينتصب عليه بفخر المسجد الأقصى وقبة الصخرة الإسلاميان. هل تؤدي صلاة يهودي، صلاة إلى نفس الإله الذي يؤمن به المسلم، في المكان الذي يشعر فيه بأنه أكثر قرابة إلى الله، إلى إبطال المكانة الإسلامية للمكان؟
ومن جهة أخرى، يمكن الافتراض أنه إذا أراد مسلم أن يصلي قرب حائط المبكى المقدس لليهود، فإنه لن يُستقبل هناك بحفاوة، على أقل تقدير. كذلك، فإن البرامج السابقة لرجال “الحركة السرية اليهودية” المتعلقة بجبل البيت لا تترك الكثير من الخيارات، وتوضح لماذا يجري تشديد الأمن إلى هذه الدرجة حول مجموعات الأشخاص ذوي المظهر المتديّن.
نزلتُ من جبل البيت مستغرقةً في التفكير ومضطربة، مع أفكار مسلَّم بها، أنّ التطرف الديني لكل من الطرفَين، يبعدنا عن الحل أكثر فأكثر. عندما توجه عدد من أفراد المجموعة لأكل الحمص في شوارع الحي الإسلامي، جرى استقبالهم بالترحاب دون التوتر الذي أحاط بنا قبل لحظات معدودة. فكرتُ آنذاك أن الحل قد يكمن في الحياة اليومية البسيطة والمشتركة في شوارع السوق تحديدًا.