واحدة من تأثيرات الربيع العربي كانت فتح مجال الحوار الجماهيري. ظهرت، مع التوسع المفاجئ لنطاق حرية التعبير، مسألة جديدة – قديمة في وسائل الإعلام في الشرق الأوسط: برامج سياسية ساخرة لاذعة وقاسية.
جاءت هذه الظاهرة لترتبط مع الإحباط العام للكثير من المواطنين من النظام القديم وحازت على نجاح أولي باهر، رغم أن الطريق إلى ذلك لم يكن سهلاً ومستقبل هذه الظاهرة يبدو كئيبًا.
فرض حكام الدول العربية، حتى عام 2011، أنظمة استبدادية وقمعية لم تترك لحرية التعبير سوى زاوية صغيرة جدًا ذات حدود واضحة جدًا ومقيّدة. وجدت البرامج السياسية الساخرة، نتيجة لذلك، صعوبات في تلك المرحلة “بأن ترفع رأسها” وحتى من كانوا يفعلون ذلك كانوا يفعلونها بشكل قانوني وكانوا حذرين من عدم تحدي النظام القائم. مثلاً، يتم ومنذ 14 عامًا وخلال شهر رمضان، على شاشة التلفزيون السعودية، المسلسل الاجتماعي الساخر “طاش ما طاش” الذي يُعتبر واحدًا من البرامج الأكثر شعبية في المملكة. إضافة إلى ذلك، يُعرض البرنامج على قناة MBC التي تخضع لمرجعية حكومية، وهي محدودة جدًا من ناحية النقد الذي يمكن توجيهه ضد النظام والتواصل مع متطلبات جيل الشباب بالإصلاح والتغيير.
ألزمت الثورات، التي عصفت بالعالم العربي، الأنظمة أيضًا؛ التي صمدت بوجه تلك العاصفة، بالتأقلم مع الواقع الجديد وإعطاء حرية التعبير مساحة أكبر. وكانت شبكات التواصل الاجتماعي هي التي حفزت ذلك الجوع المتجدد للنقد الساخر ضد الأنظمة السياسية كما وفرت منبرًا جماهيريًا وغير قابل للمراقبة حتى لمقاطع الفيديو، رسوم الكاريكاتير والنقد اللاذع.
http://www.youtube.com/watch?v=Vq1sojZseN0
هناك أمثلة كثيرة على ذلك: فقد انتشرت في تونس سلسلة رسومات كوميكس ساخرة، على الفيس بوك تحت عنوان “كابتن خبزة” والتي تتحدث عن متظاهر تونسي يتسلح برغيف خبز بدل السلاح. وفي السعودية هناك برنامجان ؛على اليوتيوب، يحققان نجاحًا كبيرًا وعنوانهما “لا يكثر” و “على الطاير”. حتى في سوريا، التي ما زالت تنزف، تُعرض برامج مختلفة على الشبكة تشير إلى النقد الهام للجيل الشاب وتسخر من الوضع المزري للدولة.
إلا أن، موجة البرامج الساخرة في العالم العربي لا تهددها فقط الأنظمة المتهاوية التي تجد صعوبة في السيطرة على ما يتم فعله على شبكة الإنترنت. يعارض الكثير من الأشخاص في المجتمع العربي أيضًا تلك القضية الجديدة واللاذعة. تجد المؤسسات الدينية، والأوساط المحافظة في تلك المجتمعات، صعوبة كبيرة بتقبل النقد السياسي الساخر ويدعون أن تلك الظاهرة جاءت لتنتقد النظام السياسي فقط ولا تحمل أي انتقادات بناءة. هنالك اتهام آخر ضد تلك البرامج الساخرة وهو أن تلك البرامج تحفر في عمق القيم الإسلامية الأساسية، وما هو ممكن في الدول الغربية المستهترة لا يجوز في العالم الإسلامي، الذي، حسب ادعائهم، يجب أن يكون مبني على أساس الشريعة الإسلامية.
https://www.youtube.com/watch?v=k1zXv66FfSQ
لا شك بأن المثال الأبرز على البرامج السياسية الساخرة التي ظهرت بعد “الربيع العربي” هو برنامج الإعلامي المصري باسم يوسف والذي تعكس قصته وضع تلك الظاهرة في السنوات الأخيرة وفي هذه الأيام.
يوسف، هو طبيب جراح، جمع حوله بعض رفاقه المقربين بتأثير “ثورة الـ 25 من يناير” وبدأ بإنتاج برنامج سياسي ساخر سري على الشبكة. تحوّلت سلسلة مقاطع الفيديو، التي مدة كل منها خمس دقائق واسمها “The B+ Show”، إلى مادة كثيرة المشاهدة بشكل سريع. تحوّل باسم يوسف، الذي صرح أنه متأثر جدًا من أسلوب جون ستيوارت وبرنامج “The Daily Show”، إلى أشهر اسم بالنسبة لرواد شبكة الإنترنت في الشرق الأوسط.
ضمت القناة التلفزيونية المصرية ONTV ، بعد 3 أشهر و 5 ملايين مشاهدة في اليوتيوب، يوسف لطاقم عملها وأنتجت برنامجه “البرنامج”. أعطى نجاح الجراح المصري المفاجئ الإلهام للكثيرين في العالم العربي وتمت دعوته في حزيران من العام 2012 إلى برنامج جون ستيوارت. حظي يوسف بالكثير من الإشادة من مقدم البرامج الأمريكي الشهير والذي جاء لاحقًا حتى إلى القاهرة وحل ضيفًا على برنامج يوسف.
تونس، الدولة التي أشعلت “الربيع العربي” (AFP)
تم بث الموسم الثاني من برنامج “البرنامج” على شبكة الـ CBC الرئيسية، في قلب القاهرة وأمام جمهور حي وفي أستوديو ضخم. استمر يوسف بتوجيه انتقاداته اللاذعة ضد الذين كانت في أيديهم السلطة، محمد مرسي وحركة “الإخوان المسلمين”. حظي البرنامج بنسبة مشاهدة كبيرة جدًا، حيث تم تسجيل 24 مليون مشاهدة في التلفزيون وأكثر من 184 مليون مشاهدة على الإنترنت. بدأ، بالمقابل، بالكتابة في الصحيفة المستقلة “الشروق” وحتى أنه جاء ضمن قائمة الـ 100 شخصية الأكثر تأثيرًا في العالم حسب صحيفة “التايمز”.
إلا أنه في الوقت ذاته تم إطلاق الكثير من الشكاوى على محتوى البرنامج، من قبل الكثير من المواطنين، الذين اتهموه بمعاداة نظام الحكم والإسلام، إلى جانب ملاحقته المتزايدة من قبل السلطات. عاد البرنامج للظهور ثانية بعد 4 أشهر من التوقف؛ في تشرين الثاني 2013، ولكنه عاد ليترك أثرًا سلبيًا لدى الجمهور المصري. في هذه الأثناء أثار يوسف حفيظة المؤسسة العسكرية العليا، الرئيس المؤقت عدلي منصور، والكثير من مؤيدي “ثورة الـ 30 من حزيران”، الذي أسماها يوسف بالانقلاب العسكري. لم ينظر الرئيس المصري الجديد؛ عبد الفتاح السيسي، إلى التهكم السياسي لباسم يوسف على أنه شيء جيد، حيث أن ذلك النقد كان يتحدى في كل مرة حدود حرية التعبير في البلاد التي راحت تضيق شيئًا فشيئًا على إثر الانقلاب العسكري في تموز 2013. على إثر الضغط الاجتماعي والسلطوي قررت شبكة قنوات CBC أن تنأى بنفسها عن تقديم البرنامج المثير للجدل ووقف بثه. بدأ النائب العام المصري، إضافة إلى ذلك، بتحويل جزء من الشكاوى إلى تحقيقات جنائية ضد يوسف.
http://www.youtube.com/watch?v=FA7wIHOUsWQ
لم ييأس طاقم البرنامج، ففي شهر شباط من العام 2014، عاد البرنامج للظهور على شاشة “MBC مصر”. ولكن، استمر الواقع السياسي الخانق بمطاردة البرنامج وتم توقيفه خلال الانتخابات الرئاسية المصرية التي أُجريت في العام ذاته لأن القابضين على خيوط السلطة لم يرغبوا بأن يؤثر البرنامج على رأي الجمهور في هذه الفترة الحساسة.
كان من المفترض أن يعود البرنامج للعرض ثانية ولكن كان يتم دائمًا اقتطاع مواد تنتقد الانتخابات. جاء الضغط الجماهيري أخيرًا بنتيجة حيث صرح يوسف في شهر حزيران، خلال مؤتمر صحفي، أنه تم إلغاء البرنامج نزولاً عند رغبة قناة MBC . وفي تصريح له قال يوسف: “لا تلائم الأجواء في مصر عرض برنامج سياسي ساخر… تعبت من الصراع من أجل أمني الشخصي وأمن عائلتي”. اعتبر كثيرون أن إلغاء البرنامج هو ضربة قاسية لحرية التعبير في مصر والعالم العربي عمومًا.
وجدت البرامج السياسية الساخرة منبرًا لها على إثر أحداث “الربيع العربي”، سواء كان على القنوات التلفزيونية أو على مواقع التواصل الاجتماعي. تُرجم إحباط الجيل الجديد، من النظام القديم والواقع الذي لا يُحتمل، إلى مزاح ناقد وتهكمي وحظي بنجاح منقطع النظير.
إلا أنه كما يمكننا أن نرى من خلال تجربة باسم يوسف أنه كلما صارت هناك يقظة وتراجع للشكوك التي لفت الثورات العربية، تتعزز قبضة السلطات المحكمة. يمكننا فقط، في هذا الواقع، أن نتمنى أن حرية التعبير والبرامج السياسية الساخرة في العالم العربي لم تقل نكتتها الأخيرة.
نُشرت هذه المقالة لأول مرة على موقع مجلة الشرق الأدنى
المصدر الأقرب إلى الحدث الإسرائيليّ
تلقّوا نشرتنا اليوميّة إلى بريدكم الإلكتروني